ليس حراكا السودان والجزائر مُواصَلةً لما دُعي "الربيع العربي" ولا استئنافاً له. هذا خداع بصر يساعد عليه البقاء عند السطح الظاهر المتمثّل برؤية الشعوب المنتفضة في الشوارع ومحاولات الأنظمة قمعها أو التلاعب بمطالبها، كما حصل في انتفاضات "الربيع العربي".
وهو خداع بصر يساعد في تثبيته وترويجه خصوصاً أولئك الكتّاب والسياسيون والمثقفون الذين دعوا في "الربيع العربي"، لا سيما في ليبيا وسوريا، إلى العنف والسلاح والتدخّل الخارجي أو برروا ذلك أو تفهّموه. بل إنَّ "المنطق" المدمّر والكارثي الذي وقف خلف فهم هؤلاء الرديء لبنية الأنظمة وطرائق تغييرها يجعلهم غير مؤهّلين أصلاً حتى لوصف ما يجري في السودان والجزائر الوصف المناسب، فما بالك بتحليله وفهمه اللائقين.
الشعوب المظلومة والأنظمة القامعة هي ذاتها، ربما في كلّ مكان. لكنّ ذلك ليس سوى السطح الظاهر الذي لا يكفي لاعتبار حراكي الجزائر من ضمن ظاهرة "الربيع العربي". ولا بدّ من إمعان النظر في الإعراب السياسي لكلتا الظاهرتين، فذلك هو الحاسم في النهاية على صعيد المماثلة بينهما أو تفريق واحدتهما عن الأخرى، وليس مجرد المظلومية ولا مجرد القمع، للأسف.
وما يقتضيه إمعان النظر في الإعراب السياسي لحراكٍ وتحديد طبيعته الحقّة وآفاقه الممكنة هو أن ندلف أعمق من سطح هذا الحراك، حتى لو كان عفوياً، إلى طبيعة فئاته أو طبقاته الأساسية، ونوعية شعاراته وأطروحاته، ونخبه القائدة إذا ما وجدت، وبرامجه (أو غياب هذه البرامج ومعانيه)، وتكتيكاته ووسائله المتبّعة، وتحالفاته، وما يبدو من آفاق يدعو لها، فضلاً عن خلفيته التاريخية القريبة على الأقلّ، وعدم البقاء عند مجرد استبداد الأنظمة وفسادها الوحشيين، ولا حتى عند بسالة الشعوب المظلومة وتضحياتها الجسام.
ثمّة مدة زمنية (٨ سنوات) تفصل بين انطلاقة "الربيع العربي" وحراكيّ السودان والجزائر اليوم. ومع أنّ هذه المدّة ليست بالمدّة الطويلة الكافية لإقامة فيصل حاسم بين الظاهرتين، إلا أنّها من الطول بما يكفي لأن تدفع إلى التفكير ما إذا كان ثمة فيصل حاسم كهذا أم لا.
أمام حراكي السودان والجزائر فرصة واسعة للانتصار، وحتى لو أخفقا كحراكات "الربيع العربي"، فإنَّ ذلك لا يغيّر من ماهيتهما الوطنية الديمقراطيةولعلّ الأهمّ من المدّة هو التفكير في ما قد يكون من علاقة أوثق، في حالة السودان، بين حراكها الحالي وحراكاتها المتكررة طوال عقود ضد الأنظمة العسكرية، ثم ضد الأنظمة العسكرية وحليفها الإسلام السياسي، وإحلال الديمقراطية والنظام البرلماني اللذين لا تلبث أن تتسيدهما القوى التقليدية، ما يفسح المجال أمام عودة العسكر وانقلاباتهم من جديد؛ وفي حالة الجزائر، بين حراكها الحالي و"العشرية السوداء" (أو الحرب الأهلية في الجزائر) التي بدأت عام 1991 وسوّدت صفحة الإسلام السياسي هناك كما سوّدت صفحة النظام. بل إنَّ الإشارات الرمزية في حراك الجزائر إلى علاقةٍ مع ثورة الاستقلال، تلك الثورة التي ألهمت شعوب العالم الثالث وحركات تحرره الوطني، هي إشارات لا تخفى، على الرغم من أنَّ النظام المراد زواله هو نظام جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي كانت قد قادت ثورة الاستقلال تلك. هذا النبذ والغياب للإسلام السياسي، بما يمثّله من فئات وسياسات وفكر، عن الحراكين السوداني والجزائري هو أمر بالغ الأهمية في تفريقهما عن حراكات "الربيع العربي" التي حضر فيها هذا الإسلام أشدّ الحضور، سواء على رأسها أم إلى جانب سواه من الاتجاهات السياسية التي غالباً ما كان قد أضعفها القمع الوحشي المديد والانهيارات الفكرية والسياسية لأقسام واسعة منها، وامتناع الداعمين والممولين (الطبيعي) عن مدّ يد العون إلى الاتجاهات الوطنية الديمقراطية فيها. لا يقلّ عن ذلك أهمية الحضور الباهت للتيارات الليبرالية أو اليسارية المتلبرلة في حراكي السودان والجزائر ونخبهما المتصدرة قياساً بحضور تلك التيارات الواسع في "الربيع العربي". ويكفي لتبيان جسامة هذا الفارق وأهميته أن نضع ما نجده في حراكي السودان والجزائر من حضور الحزب الشيوعي السوداني واليساريين الجزائريين ورموز الثورة الجزائرية الوطنيين والديمقراطيين قبالة حضور "حزب الشعب" (رياض الترك، جورج صبرا) ومن لفّ لفّه من سياسيين وكتّاب ومفكرين شعبويين (كبرهان غليون) أو منحدرين إلى الشعبوية (كصادق العظم) راحوا يتنصّلون من الأنموذج الوطني الديمقراطي برمتّه في الحالة السورية. هذان الأمران كانا كفيلين بإسماعنا شعارات في السودان والجزائر مختلفة عما أسمعتنا إيّاه صفحة "الثورة السورية ضد بشار الأسد" التي بدأ حضورها قبل بدء الحراك السوري وتحكّمت بتسمية جُمَع ذلك الحراك: شعارات تربط ربطاً واضحاً بين الشأن الاقتصادي الاجتماعي والحريات والبناء الوطني ولا تقتصر على "الكرامة" و"الحرائر" و"لعن الأرواح" أو تنزلق إلى الجهوية (وما يوازيها من الطائفية في سوريا) كما انزلقت ليبيا. هذان الأمران، وليس غياب القمع الوحشي وحده، كانا كفيلين في السودان والجزائر، بإبراز حرصٍ شديد على السلمية وتحييد الجيش وقواعد النظام الاجتماعية وعلى تحديد العدو بدقّة وتقتير في كلّ خطوة ووضع تصورات ناضجة للانتقال السياسي، بخلاف ما وجدناه في سوريا وليبيا من لجوء إلى العنف والسلاح بتحريض وتمويل حاسمين من الخارج ومن توسيع لجبهة الأعداء أقلّ ما يُقال فيه أنّه غبيّ، في الوقت الذي أُعلي فيه بلا حدود من شأن نفايات النظامين المنشقة عنهما على الرغم من تاريخها القمعي والفاسد المديد. لا شكّ، أخيراً، أنَّ ثمة فارقاً حاسماً يتمثّل في حلفاء حراكات "الربيع العربي"، لا سيما في ليبيا وسوريا، (ضواري الإمبريالية ونواطير النفط وتركيا ...) وغياب هؤلاء الحلفاء عن الحراكين السوداني والجزائري، بل دعم هذه القوى الواضح للنظامين هناك. كلّ هذا يكاد أن يدعم اتجاهين محتملين متناقضين في كلّ من السودان والجزائر: ففي الوقت الذي يعزز التوجه الوطني الديمقراطي السلمي من تماسك قوى الثورة والتغيير ومن اتساعها واحتمال انتصارها بسبب هذا التماسك والاتساع، فإنّه هو نفسه يزيد من إصرار خصومها على هزيمتها وسحقها. وذلك بخلاف "الربيع العربي"، في سوريا وليبيا خاصة، الذي لم يكن ثمة احتمال لانتصاره، وما كان ليفضي، لو انتصر، إلى أي مكان يختلف عما نراه من سيطرة أمراء الحرب في ليبيا و"المناطق المحررة" في سوريا. أمام حراكي السودان والجزائر فرصة واسعة للانتصار. وحتى لو أخفقا كحراكات "الربيع العربي"، فإنَّ ذلك لا يغيّر من ماهيتهما الوطنية الديمقراطية التي تفرّقهما عن ماهية تلك الحراكات. صحيحٌ أنّ حراكات "الربيع العربي" اشتملت على نفحات من حراكي السودان والجزائر، خصوصاً في بدايتها وخصوصاً في تونس ومصر واليمن، لكنّ ذلك لم يكن جوهر تلك الحراكات كما تطورت وتكشّفت. ولعلنا لا نغامر كثيراً إذ نقول إنّ الربيع العربي الحقيقي قد بدأ الآن، مع حراكي السودان والجزائر، وإن كانت نسمات منه فحسب قد بدأت مع تلك النفحات الأسبق، ومع ما أوقعه قمع الأنظمة المستبدة والفاسدة الوحشي من ضحايا ومشردين لم يكن قد ترك أمامهم من الفرص الحقّة سوى الخروج عليه.