تعرفتُ إلى كاريكاتور يوسف عبدلكي قبل أن أشاهد أعماله الفنية الأخرى. وعندما شاهدت تلك الأعمال، راودني سؤال لم أجد له جوابًا جاهزًا: كيف يصالح يوسف بين الكاريكاتور والتشكيل؟
في واحدة من محفورات مجموعة "ثمانينات"، التي عرضت مؤخرًا في مسرح بيروت، يسلـّمنا يوسف عناصر للإجابة على هذا السؤال. يبدو المشهد للوهلة الأولى مشهد مضاجعة جامحة بين زوجين. تستطيع أن تمرّ بالمحفورة مكتفيًا بهذا الانطباع. على أن مجموعة تفاصيل صغيرة تنبئك بأنك أخطأت النظر وأسأت الظن. يد المرأة المتشبثة باللحاف، يدها الأخرى المتمكنة من حافة السرير، تكشيرة الرجل ويده المغروسة، مثل مخلب، في لحم المرأة - تفاصيل تعيد تركيب المشهد على نحو مختلف تمام الاختلاف. فإذًا أنت حيال ما هو أقرب إلى عملية اغتصاب أو قـُلْ مضاجعة باردة بلا إيروسية ولا حب ولا لذة. وقد تكتفي بهذه المفاجأة. على أن يوسف عبدلكي يحتفظ لك بمفاجأة أخرى. عنوان المحفورة - "المدير العام" - تفصيل جديد يقلب المشهد رأسًا على عقب ويشحن توازن القوى الوحشي القائم في السرير بين رئيس ومرؤوسة بشحنة اجتماعية لاذعة.
[caption id="attachment_1542" align="aligncenter" width="300"] مدير عام[/caption]
باختصار، يوسف عبدلكي عمل بك "مقلبًا". لا تبحث عنده عن السهل والبديهي. إنه يسعى إلى الحقيقي. والحقيقي مشج وتركيب. ليس الكاريكاتور بين يديه مجرد تشويه وتضخيم. هو منظور آخر للحياة. ولا دأب الفنان التسلية أو إثارة الضحك. إنه يرمي إلى التنبيه والصدمة. إن الكاريكاتور في تشكيل يوسف عبدلكي مسلسل من «المقالب» تحذّرك: لا تتوقع أن يريك الفنان ما ترى أو ما يروق لك رؤيته. يريد الفنان أن يريك ما لا يريك إياه المسيطرون على المشهد البصري، جماعة «الوهلة الاولى».
هذه التفاصيل المشاغِبة هي المدخل إلى عالم يوسف عبدلكي الفني.
إنها الحركات التي بها تتشكـّل مفردات نصه التشكيلي.
تنتظم مجموعة «ثمانينات» في مناخين متفارقين. يسبح عدد من المحفورات في غنائية شرقية تدرج المشهد اليومي في إطار يستوحي تركيب المنمنمات. لكنها منمنمات نقيضة، اذا جاز التعبير. تكفي مجموعة خطوط سوداء لكي ينفتح إطار النمنمة على الحاضر وتلسعك القيود التي تكبّل إنساننا المعاصر. تبلغ هذه التقنية ذروتها وتتجاوز نفسها في محفورة «الروح القدس » المدهشة. ليست مجرد مشهد ذي إيحاء ديني. إنها «مقلب» متكامل. ينبني السرد ويتكثف بواسطة المجابهة بين اليومي والاسطوري، والنافل والمقدّس، والروحي والحسّي. الكلب الأليف يغفو على نغم الأسطورة. والحَمَام المقدّس يحاكي الدجاج الاخرق. ومريم تتسربل في زي شهرزاد لتستقبل «البشارة» تظهر على شاكلة إيروسية فرس أو جسد ذكوري مقطوع الرأس.
[caption id="attachment_1540" align="aligncenter" width="300"] الروح القدس[/caption]
يعلن عدد آخر من المحفورات أن لعبة التفاصيل قد استنفدت أغراضها. كأن يوسف لم يعد يكتفي بالوحشي ورموزه تدهم حميمية اليومي والعادي والأليف. يمسخ الفنان حيواناته المشحونة عافية وإيروسية فينيخها تارة أو يطلق لها الأعنّة تارة أخرى، لتستحيل، في الحالتين، بهائم ميكانيكية هي نتاج المسافحة بين السلاح والحيوان.
في مجموعته الحالية، «أشخاص»، يحقق يوسف نقلة كبيرة في التشكيل والتعبير تنمّ عن نضج وثقة متزايدة بالنفس وسيطرة أكبر على الموضوع والتقنيات. تنسحب الغنائية لصالح السخرية ويتحول الكاريكاتور الى مَسخ. مَسخ يطاول الشكل البشري هذه المرة.
هذه الأيقونات الوحشية والموحِشة تعرض ثلاثة شخوص في صَمْدة مَن هو عارف أنك تصوّره وتشاهده. هم ثالوث يواجهك في كل جلال عبثه وعذابه والصمت. لا ليس مجرد صمت. هو جدل محيّر بين حضور وغياب وبين هوية وإمّحاء. وهو توازن مضغوط بين أفراد «عائلة مقدسة » يشي بالاختلال المروّع في العلاقات والمواقع والمقامات. هذا وجه إله أو ملك آشوري يحمل كل مهابة فشله. وهذه إلهة الخصب عند العرب البائدة. كانوا يسمونها «أم بزاز»، صاروا يسمونها «أم الحَلَمات». ولك، إن شئت، عذراء معاصرة يجاورها حارسا عفافها، كأنهما يكرران على مسمعها، ومسمعك، أمثولة يوسف وهبي الشهيرة: «شََرَف الِبنت زيّ عُود الكبريت». إبحث بنفسك عن الجلاّد والضحية. وأحدهما يستظهر الآخر. فقد تلقى الضحية اكتسبت ملامح الجلاد.
على غرار مسوخ غويا ومسوخ بيكاسو - فترة الحرب الاهلية الاسبانية - أنتج يوسف عبدلكي مُسوخه كائنات غرائبية تحاول مجاراة فوق-غرائبية «واقعنا» لتعلن فضيحتهولا يفوتك البحث عمن اختار موقعه بين هذا وتلك، ففقد وجهه والملامح. إن القداسة الوحيدة في هذه الايقونات هي الإعلان عن حالة تنتهك فيها كل المحرمات وجميع المقدسات. ثم إنك تستطيع أن تستعرض تلك الايقونات على نحو متسارع، واحدة تلو الاخرى، فيتشكـّل المشهد، إذّاك، مسرحًا للدمى المتحركة. هؤلاء «الأشخاص» شخوص، وهذه الشخوص دمى تمثّل شخصيات وأدوار. حرّكها على هواك. اجعلها تتخلع بحركاتها المتخشّبة الفجائية الصمّاء. إذا كان يوسف عبدلكي ليس يزوّدك بدليل استخدام، إلا أن «صندوق الفرجة » هذا كامل التجهيز. يأتيك ومعه لوازمه والمكمّلات. إنها «قطع غيار» المشهد العربي الراهن: أيدٍ واصابع وساعات وأحواض نبات وقبّعات وأزياء وغُربان وقصاصات صحف وعصافير وأوسمة وأوشحة... لك منها جميعًا ما تحتاج وأزود. شكّل وحرّك في هذا النص التشكيلي ما استطعتَ اليه سبيلًا. إن شخوص يوسف عبدلكي ليس ينقصها إلا سيناريوهاتك عن الأنا المتضخمة والوقت - وسارقي وقتنا - والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف - وأنت أدرى - والإصلاح الزراعي والجنس السياسي والتصنيع الثقيل والحب العذري والحل السلمي، على سبيل المثال لا الحصر (ولن يخفى على الـُمشاهد اللبيب أن بين اللوازم أصبعًا مصمّمة خصيصًا لأداء الحركة المعلومة. يرجى استخدامها في حدود اللياقة والحفاظ على الآداب العامة). على غرار مسوخ غويا ومسوخ بيكاسو - فترة الحرب الاهلية الاسبانية وتتويجها في «غيرنيكا» - أنتج يوسف عبدلكي مُسوخه كائنات غرائبية تحاول مجاراة فوق-غرائبية وفوق-عبثية «واقعنا» لتعلن فضيحته. وفي هذه المجابهة حوار خصيب هو هذيان حرّية. *هذا النص هو تقديم لأول معرض ليوسف عبدلكي في دمشق عام 1995