اكتشفتُ في السنوات الأخيرة أنّي أمتلك موهبةً كبيرةً في جعل من أحبّهم يبكون! لا أعرف ما هو الرّابط السحري بيني وبين هذه المياه المالحة، الباردة حيناً، الساخنة في أحيانٍ أكثر، التي تندفع من عيون أصحابي، وكأنّي ما إن أحضر حتّى تتكاثر على وجناتهم بحارٌ صغيرة.
قبل أسبوعين سمحوا لنا بالخروج للمشي هنا في أليكانتي، خلال أوقات معيّنة من اليوم. حدّدوا السماح بكيلومتر واحد بعيداً عن المنزل، ولمدة ساعة من الزمن فقط. لم أخرج إلّا مرّة واحدة، ولم أستطع الوصول إلى البحر، لا لأنّي قدّرتُ المسافة وكانت مخالفةً للقانون، بل لأنّي خفت. استعادت ذاكرتي الأحلام التي راودتني بعد مغادرة سوريا بأشهر، وقبل الجائحة. كان البحر حاضراً بشكلٍ مريب في أغلبها، وهذا لم يكن يحصل في سوريا، بل كان الحاضر بشخوصه وأدقّ تفاصيله هو الحيّ الّذي ولدت وكبرت فيه وهُجّرتُ منه، في مسقط رأسي الّذي لولا دروس الجغرافيا لما تذكرت أن نهراً يقطعه. هل علينا أن نهجر الأماكن كي تساق إلى مناماتنا؟ مهما كان نوع هذا الهجران، قسريّاً، طوعيّاً، دائماً، مؤقتاً.. يبدو أن هذه هي ثيمة الهجران: كلما خرجت من مكانك، شقّت شوارعه من جديد في رأسك.
أخبرتُ المعالجة النفسية بأمر الأحلام المغمورة بالمياه، وبظهور والدي المتكرّر فيها. سألتني إن سبق وحصل لي شيءٌ سيّءٌ يخصّ البحر، فقصصتُ لها حادثة الغرق التي تعرّضتُ لها في صغري، ولم أخبرها عن المنقذ الّذي ظلّت سمرته تلمع في بالي حتى يومنا هذا. هل يحلم بي؟ هل يعلم أنّي ذكرت اسمه داخل قصيدة؟
"كتبتُ قصّةً عنوانها "البحث عن عروة"
أحكي فيها عن رجلٍ أنقذ حياتي مرّةً
ولمّا أزل أزعق في مناماته".
حاولت أن أشرح للمعالجة أنّ علاقتي بالبحر طيّبة، بل أكثر من ذلك. أنا فعلاً مولعة بهذا الكائن، برقّته وبِشَرِّه، بتدرّجات أزرقه، بغروب الشمس خلفه؛ المشهد الّذي كانت تجهد أمّي كي تتأمّله كلّ يوم، وترويه لي كلّ يوم، وكأنّه حدثٌ جديدٌ كلّ يوم، وهو كذلك فعلاً. فما الأمر الّذي يمكن أن يكون أكثر تشويقاً في حياة امرأة تنتظر العودة إلى بيتها؟
أخبرتُها أن كلّ ترحالاتي شاءت بأن أكون جارة للبحر. ربما كان ذلك نوعاً من محاولات الحياة في التخفيف عن الكائن البشريّ الضعيف، بعد أن تصفعه. حتّى إني هربت من مدريد خوفاً من أن يبتلعني صخبها وتسرقَ حياتي شبكةُ أنفاقها، وارتميت مجدّداً في حضن البحر الأبيض المتوسّط.
في رواية "لاورا وخوليو" لخوان خوسيه مياس، يتخيّل البطل أنّ للمدينة شبكة مترو ومحطاتها أيام الأسبوع، يصعد المرء من محطة يوم الأحد مثلاً ثم يخرج عند المحطة التي يرغب. يتخيّلُ أنّه لمح أمّه في محطّة يوم الثلاثاء، ويفكّر: من الّذي تنتظرهُ هناك؟
قرأتُ المقطع وأنا في مترو مدريد رقم1، صرت أتخيّل المحطّات مرّات رفاقاً، مرّات أغنيات، ومرّات قصصاً عاطفية. تذكرت قصيدة رياض الصالح الحسين:
"وأن يظلّ العالم ٢٤ تموز دائم
فهذا يعني أنني أحبك"
ثمّ نزلت في محطّة Estación del Arte كي أقصد متحف رينا صوفيا في الوقت المجّاني للدخول، أقف في صفٍّ طويلٍ من سيّاح بلا كمّامات ولا تباعد اجتماعيّ، يصل دوري، أتوجّه مباشرةً إلى قاعة جدارية الغرنيكا، أجلس على الأرض قبالتها مختبرةً -ككلّ زيارةٍ- قدرتَها على جعلي أبكي مجدّداً. ها أنا وأنتِ نتقاسم الموهبة ذاتها، لستُ عملاً فنّياً مثلكِ، لكن تستطيعين أن تسمعي تردّد رجع صدى ضحايا كثيرين في داخلي أيضاً.
معلومة هامشية: الخط رقم1 لونه أزرق، إذاً: بشكلٍ ما.. كنتُ أسبح.
لا أذكر عند أي نقطة في روايتي لمناماتي، أو عند أيّ تهدّجٍ في صوتي، أو في الغصّة رقم ماذا، صارت المعالجة تبكي، رغم أن بيننا حاجزاً صلداً من اللغة. إذاً موهبتي تتخطّى من أحبّهم وتصل إلى الغرباء، حتّى المحترفين منهم.
مطلع الأسبوع القادم سوف تدخل المدينة المرحلة الأولى من فكّ الحظر، وهذا يعني أريحيّةً أكبر في المشي، هل سأقصد البحر؟
"نفسي تريد ولكن لا تُساعدني/رجلي، فمَن لي بإشفاقٍ وإسعادِ[1]"
في المرّة الوحيدة التي تمشّيتُ فيها، وصلتُ حتّى بناء محطّة قطارات قديمة خرجت من الخدمة. بناءٌ بديع، بجملونات معدنيّة أنيقة صمّمها تلاميذ جوستاف إيفل.
في العام 2018 قصدتُه كي أحضر فعاليّةً ثقافيّةً، فوجئت باحتضان جدرانه معرضًا لصور لاجئين وصلوا إسبانيا عبر البحر. وجدتُني واقفةً كأيّ سائحة أتأمّل امرأةً تحضن ابنها الصّغير داخل قارب، قلتُ بالتأكيد رأيتُ هذه المرأة في مكانٍ ما، ربّما عند محل البقالة، أو موقف الباص، أو كانت زميلة مقعد دراسة، من اللواتي لا يمكنك تذكّر أسمائهنّ، مثلي. شعرتُ بأنّ القطار الّذي كان يصل أليكانتي بمدينة مُرسية، استعاد ذاكرته فجأةً تحت جلدي، بدأ صفيره يتعالى، بينما أنا والمرأة في الصورة فشلنا في أن نجد سكّةً نرتمي عليها.
في أيهما خيرٌ للمرء أكثر: أن يولد في مُرسية ويدفَن في دمشق مثلك؟ أم العكس يا شيخنا ابن عربي؟
لم أتعامل مع المشي يوماً باعتباره نشاطاً طبيعيّاً، بل هو شديد الارتباط بحالة شعوريّة عميقة، حتّى الأماكن التي تتمشّى في مناماتي، سبق أن بادلتُها الفعل في صحوي. لطالما كان المشي هو العمود الفقريّ لعلاقاتي العاطفية، حتى لو حصلَت في مدننا التي لا تصلح للنزهات.
لقطة خاطفة وباهتة لعلاقة قديمة عاشت لسنواتٍ طويلةٍ محنيّة الظهر، لم أفطن سابقاً إلى أنّ آخر ما فعلتُه ليلةَ انتهَت هو محاولة تكسير بلّور السيارة، الآن أعي أن تلك السيارة مثّلَت لي لحظتها كلّ الشوارع التي لم نمشها معاً، كلّ السّوء الّذي غفلتُ عنه بينما الهواء يطيّر شعري وأغنية سخيفة تدار في مسجّلة السيارة.
توقّفَت المعالجة عند حضور أبي المتكرر في المنامات:
- هل ثمّة أمرٌ تخافين منه على والدك؟
- أبي في سوريا.
مساءَ البارحة أكلتُ البطّيخ الأحمر مع الجبنة، في محاولةٍ منّي لاستحضار رائحة لمّة العائلة أوائل الصيف، وتغزّل بابا الدائم بهذه الأكلة. وجدت هذا الطّعم مثاليّاً للذكريات القريبة البعيدة: امتزاج الحلاوة بالملوحة. الأحمر لا يرضى إلاّ أن يكون جرحاً بطريقةٍ ما.
يقول أراغون:
"ليس ثمة جرح
لا يستطيع قليل من التجميل
أن يصنع منه فماً"
إذاً وفق عشوائيّة شعريّة لا تخضع لأيّ منطق، عدا تدافع الأفكار في الرأس، صنعتُ البارحة فماً، بقي عليّ أن أعلّمه كيف يطبع القبلات. ولن أهديه كمّامة.
[1] من ديوان ترجمان الأشواق للشيخ محيي الدين ابن عربي