ـ "حرية للأبد لكل ولاد البلد" ـ "سلميّة، سلميّة، سلميّة..." ـ "حرية للأبد لأجل عيونك يا بلد" تلك كانت هتافاتنا تعلو عندما زخّ رصاص قوّات الأمن فوق رؤوسنا، هناك عند نهاية إحدى حارات الميدان المؤدية إلى شارع خالد ابن الوليد، وسْط دمشق. حينها، طغى صوت الرصاص على أيّ صوت آخر. وحدث أن سبقني أحد الشباب بخطوات للخروج من الحارة. خطواته تلك كانت كافية لمصرعه أمام عينيّ! رحت أصرخ في جنون: أنقذوه، أنقذوه! بينما كنت أبحث حولي، عبثاً، عن صديقي، ورفيق التظاهرات. ثمّ، كأنّني لمحت شابّين يسحبان ذاكَ المضرّج بدمائه، وكأنّني لمحت خيطاً أحمر يمتدّ على طول الشارع حيث عبروا، فقد لفّني ضباب مطبق، وحجب عنّي الرؤية! - "وينها وينها؟" - "هون! هون!" - "امسكها منيح منشان ما توقع!" - "كان معها..." - "راح..." عندما استعدت وعيي، وجدتني أقتعد الأرض يسندني جدار في أحد أزقّة حيّ الميدان. إلى جانبي وقف صديقي برفقة شابّيْن، والكولا التي غسلوا بها وجهي كانت قد بلّلت ملابسي. لزمتني دقائق لأفهم ما حدث: لقد حملوني بعدما أغمي عليّ بسبب الغاز المسيِّل للدموع، وربّما بسبب الصدمة والرعب. أعطوني ماء، شربت. ثم نهضت أتّكئ على ذراع صديقي، نهمّ بالعودة إلى البيت. كان علينا أن نقطع بعض الحارات مشياً قبل أن نصل إلى حيث كانت السيّارة مركونةً. هدأ أزيز الرصاص فوقنا، سمعناه، في جهات مختلفة بعيداً عنّا. في الطريق، صادفنا بعض شباب وشابّات يبحثون عن مخرج آمن، كان بعضهم بملابس تلطّخها الدماء، لا بدّ أنّهم أسعفوا أحدهم، وبعضهم مازالوا يردّدون الهتافات بحذر وصوت خفيض لا يكاد يُسمع! كنت وصديقي نسير صامتيْن، منهكيْن. مررنا بمجموعة أخرى لشباب غاضبين، يردّدون هتافات يتضارب محتواها ويتناقض، ما يشي بتشتّت أفكارهم، وربما بسذاجتهم! ـ "بدنا دولة مدنية.. حرية.. حرية!" ـ "قائدنا للأبد.. سيدنا محمد!" ـ "سلميّة للآبد.. غصباً عنك أسد" ـ "بدنا نبيد العلوية! بدنا نبيد العلوية!" ما إن دنونا منهم، حتّى نكز أحدهم رفيقه ينبّهه إلى وجودنا، وكان يهتف: "بدنا نبيد العلويّة!" ابتسما لنا، ورحّبا بنا، كنّا التقينا من قبل في إحدى التظاهرات، ثم راحا يهتفان بصوت أعلى: "واحد.. واحد.. واحد.. الشعب السوريّ واحد!" أخرسني الإرهاق! في الطريق إلى البيت، والصمت الثقيل يخيّم علينا، سمعت أنفاس صديقي تردع البكاء، بينما أطلقت لدموعي العنان. عشر سنوات مرّت على هذا المشهد، بكل تعقيداته وتناقضاته، وما يزال يتكرّر في الذاكرة بأشكال مختلفة ومشاعر متوجّسة واجفة! حين اعتُقلت بسبب نشاطي السياسيّ والميدانيّ السلميّ، قال لي المحقّق في فرع الأمن متسائلاً:" كيف يمكن لفتاة مثلك، ومتعلّمة أن تشارك في هكذا ثورة! فهذه ثورة سنيّة!" ولم يلبث أن عرّفني بنفسه، فهو سنّيٌّ لكنّه مع النظام! وها هو يحقّق معي أنا التي أنتمي بالولادة إلى الأقليّة التي يظنّ كثيرون أنّها، بأكملها، توالي النظام!
طرفان لكلّ منهما جيوش بمسمّيات وأجندات مختلفة، يتجاهلان المأساة الإنسانيّة وما وصلت إليه أحوال السوريّين المعتّرين في الداخل أو الخارج أو في المخيّمات
خرجْتُ من السجن، وعدت إلى العمل السياسيّ والميدانيّ. كان ذلك أواخر عام 2012، حين أصبح الوضع السوريّ أكثر تعقيداً، ومساحة العمل لي ولأمثالي تضيق بشدّة. عشرات من النشطاء الميدانيّين والسياسيّين السلميّين والعلمانيّين كانوا قد اعتُقلوا، أو دفع الخوف بهم إلى الهرب خارج البلاد، أما من بقي منهم في الداخل وخارج السجن، فقد تحوّل معظمهم إلى العمل الإغاثيّ ومساعدة المهجّرين والمنكوبين. تعقّدَ المشهد، وبات أكثر دمويّة، فالسلاح أصبح في يد عشرات المجموعات، من المنشقّين عن الجيش أو من المدنيّين الذين حملوا السلاح، في البداية، للدفاع عن أنفسهم ضد بطش النظام، غير أنّ سلاحهم لم يلبث أن تحوّل إلى مهاجمة مواقع للنظام وبعض المناطق التابعة له. يستشرس النظام. يُقتَل الناس خبط عشواء، يُهجّرون أو يُعتقلون، من جهة، ومن أخرى، تنقسم المعارضة السياسية، تتشرذم وتتطيّف، وتحلّق فوق الواقع وبعيداً عنه! في نهاية عام 2013، اعتقلت للمرة الرابعة. خرجتُ يطفحني اليأس والرعب. وبعد ذلك، كنت محلّ ملاحقة أمنيّة لا تتوقف، ما دفعني لاتخاذ القرار القاهر: الهرب إلى خارج البلاد. كانت بيروت محطّتي الأولى، تلتها دبيّ، وأخيراً ألمانيا حيث أقيم منذ ستّ سنوات. في البداية، حاولت هنا في منفاي الاختياري /القسري، أن استكمل نشاطي السياسيّ، وذلك بالتواصل مع مجموعات عديدة والتعرّف على نشطاء وناشطات من تيّارات ومشارب مختلفة، ولم يمض وقت طويل حتى اتّخذت القرار بالصمت، والابتعاد عن العمل السياسيّ. وذلك، لأنّني في مكان إقامتي الآمن الدافئ المرفّه في برلين، بتّ أرى المأساة من زوايا تختلف عن تلك التي كنت أراها من خلالها وأنا في الداخل، هناك في قلب المأساة، وأصبحت هنا بعيدة ومنفصلة عن الواقع السوريّ. هنا يسهل كل شيء، التنظير والمطالبة باستمرار العمل الثوريّ، توزيع الشهادات الثوريّة، وشهادات الخيانة، وإطلاق أحكام قيمة على الأفراد والمجموعات وعلى تصرّفاتهم وآرائهم! هنا يسهل أن نلتقي بمن يرى أنّ كلّ من بقي في البلد إنّما هم مجرّد مؤيّدين أو شبّيحة أو مبيّضين لصفحة النظام ومشرعنين له! بالمقابل، نسمع أصوات بعضٍ ممّن بقوا داخل البلد، يطلقون أحكاماً مماثلة على جميع الهاربين، فهؤلاء خونة، مرتهنون ومأجورون، خرّبوا البلد، دمّروها، وجلسوا على تلّتها يسترزقون! هكذا، يتعذّر على السوريّ أن يكون خارج هذين التصنيفيْن! فحتّى اليوم وبعد عشر سنوات، تُدانُ الأصوات المعتدلة وتُحاربُ من كلا الطرفين، ولكلّ طرف منهما الأدلّة الكافية تثبت صحة توجّهه، وتؤكّد على تجريم كلّ من لا يشبهه وشيطنته! وغالباً ما نرى ذلك عند الذين ينسبون أنفسهم إلى النخبة الثقافيّة/ السياسيّة! على مستوى "أعلى" قليلاً، فإنّ المعارضة السياسيّة والنظام، طرفان أيضاً، كلاهما يتمترس بتشدّد في موقعه، وكلّ منهما يتبع لأطراف خارجيّة تدعم تمترسه من ناحية، وتساهم من ناحية أخرى، في تدمير البلد أو الاستيلاء على أجزاء منه وتمعن في ذلك. كما يتسم كلا الطرفين بالاستبداد، فيتحكّمان بعقليّة مؤيّديهما ونشطائهما، ولا يتوانيان عن الضخّ الإعلاميّ الذي يُغيّب معظم الحقائق، ويركّز على تعزيز نقاط الخلاف بينهما! طرفان لكلّ منهما بدل الجيش الموحّد جيوش بمسمّيات وأجندات مختلفة. طرفان يتجاهلان المأساة الإنسانيّة وما وصلت إليه أحوال السوريّين المعتّرين سواء كانوا في الداخل أو الخارج أو في المخيّمات، ولا سيما هذه الأخيرة التي لا يتذكّرانها إلّا حين تلزمهما أدلّة على إجرام الطرف الآخر، ولاستجرار مشاعر الأطراف الخارجيّة وتعاطفها، وللحصول على تمويل لمشاريع لا تخدم، في النهاية، غير أجنداتهم الخاصّة وأطماعهم الشخصيّة! عشر سنوات انقضت على هذا المشهد فوق السرياليّ وأبعد. كلّ يغنّي على ليلاه، وكلّ في وادٍ، وما من صدىً يلتقي بأيّ صدىً آخر! عشر سنوات ولا يزال من المستحيل إقامة حوار عقلانيّ وطنيّ بين ثلّة من السوريين من دون أن ينتهي بخلاف حادّ وإلى القطيعة والعداوة فيما بينهم. بينما يحترق ما تبقّى من البلاد! لكنني أزعم، اليوم، أنّ يأسي غير مطبقٍ، فقد هيّأت نفسي لسباق المسافات الطويلة، والعشر سنوات التي مضت ما هي إلاً للتحمية، أمّا العشر القادمة فستكون سباق التحمّل. هل سيتمكن بعضنا على الأقلّ من الحفاظ على بعض الولاء للبلد وأهله من المعترين وحدهم؟ هل من إمكانيّة لخطّة ما تفعل فعلها الوطنيّ العابر للطوائف والأحزاب، والمتحرّر من الولاءات الخارجيّة كلّها؟ والأهم، هل بإمكان البلاد وعبادها البؤساء الصبر أكثر على ما لا يطاق وتحمّله ؟! كلّ ما سبق، كان كافياً لإعلان صمتي، وكفّي عن العمل السياسيّ. إنّما لن يكون ذلك إلى ما لا نهاية بالتأكيد. بل أنّني يوماً ما، عندما أعود إلى سوريّة، سأحاول، على الأقلّ، أن أقول رأيي بصوت عال، وسأعمل للإجابة عن الأسئلة التي تجول في رأسي وتصول، لأنني حينها سأكون قد عدت إلى حيث مكان الثورة الحقيقي؛ قلب المأساة؛ وقلب الأمل أيضاً. هناك، حيث أؤمن أن الرؤوس سترتفع بحلمها العظيم يوماِ ما، وستصرخ ثانية لسوريّة حرّة كريمة آمنة، لسوريّة وطناً للسوريين/ات جميعاً! من ملف: "عن غدٍ سوريٍ لا يأتي"