تختلف بعض الممارسات الإعلامية باختلاف حاجات وأولويات وطبيعة الجمهور الذي نتوجه إليه. لهذا، فإن الإعلام البريطاني مختلفٌ بهذا القدر أو ذاك عن الإعلام الأميركي مثلًا. ومع مرور الزمن، قد تصبح بعض الممارسات الإعلامية، متبوعةً باسم البلد الذي جاءت منه، أشبه بمدرسة إعلامية لها سمات خاصة بها. وعلى النسق ذاته، فالإعلام العربي ككل، ومن ثمّ الإعلام المستقل في كل دولة، كالمصري واللبناني، يمتلك هويةً خاصةً تظهر في منسوب الجرأة، وطبيعة الموضوعات التي تُعطى الأولوية، وشكل البرامج الحوارية، واللغة المستخدمة في الخطاب، وغير ذلك من المحدّدات التي تتراكم وتصنع مع الوقت "بطاقة الهويّة الشخصية" لإعلام بلدٍ ما.
هكذا، يصبح الإعلام شخصًا نعرفه، له صفاته الشكلية والمعنوية، وسلوكياته وردود فعلٍ خاصة به. لكن ماذا عن "الإعلام السوري"؟ سنحاول في ما يلي استعراض بعض الأمزجة والطباع الخاصة به، خصوصًا تلك التي ظهرت بعد 2011، وما زالت في نظر أصحاب القرار مجدية وصالحة للاستخدام.
من الممارسات التي يشتهر بها الإعلام السوري بدايةً، اعتماد نهج "تصغير المشكلات مهما كانت كبيرة وتكبير الإنجازات مهما صغرت". لو كان الإعلام السوري شخصًا نعرفه، سيقال عنه: "بيعمل من الحبّة قبّة"، لكن فقط إن كان الأمر يتعلق بتعديل مادة في قانون، أو إعادة إحياء منشأة صناعية صغيرة. في المقابل، فإن نهج التعتيم في ما يتعلق بالمشكلات الكبرى، بات أشهر من أن يتم التذكير به، حتى أن الجمهور، مع الوقت، لم يعد يتوّقع أو يستغرب خلوّ نشرات الأخبار مما يُفترض أن يشغل موقع الصدارة فيها، احترامًا لمبدأ "القيم الإخبارية". بالتالي، باتت إحدى التسليات المفضلة للكثيرين صنع قائمةٍ تبدأ بعبارة "عندما كان يحصل كذا، كان الإعلام السوري يذيع كذا"، لرصد المفارقات بين ما يحصل على الأرض وما يُذاع في نشرة الأخبار. والقائمة بالطبع متنوعة وتتضمن أخبارًا عن الحياة البريّة، والصحة الإنجابية، وبرامج الأطفال، وفوائد البقوليات، وغيرها من المواد التي يُلجأ إليها للتغطية على "مأزقٍ" لا يجب التطرّق إليه.
وفي الوقت الذي تسعى فيه القنوات الإعلامية - أو يُفترض بها أن تسعى - نحو الجدّة والتحديث، يصّر الإعلام السوري على لغته ومصطلحاته مهما بلغ حجم انتقادها، وتُعامل هذه المصطلحات معاملة قطع الأنتيكا التي يُفيد تعتيقها وإعادة إنتاجها واستخدامها مرةً تلو مرة. من المصطلحات والعبارات مثلًا "مشيخة قطر"، و"ذيول"، و"تسطير ملاحم خالدة"، و"حفرت البنادق"، و"تاريخٌ من نور"، وبالطبع كلمة "إرهاب" بكل اشتقاقاتها اللغوية. فكتابة كلمة "إرهاب" في خانة البحث ضمن الموقع الرسمي لـ"الوكالة السورية للأنباء (سانا)" مثلًا، تظهر وحدها 7,113 صفحة من النتائج.
في الوقت الذي تسعى فيه القنوات الإعلامية نحو الجدّة والتحديث، يصّر الإعلام السوري على لغته ومصطلحاته مهما بلغ حجم انتقادهاكذلك فإن التصنّع والتخشّب يبدوان من المبادئ الأصيلة في الإعلام السوري (مقارنةً بالمصري مثلًا). وهذا الأمر ينعكس في ديكورات البرامج، صباحيةً كانت أم حوارية، وفي لباس المذيعات ومظهرهنّ والطريقة التي يتحدّثن بها. واللافت في الأمر أن هذا الجانب، قد يكون أحد الأمور القليلة التي اُتخذ قرارٌ بتغييرها. ومع ذلك، جاءت محاولات تصنّع العفوية متعثّرة بشدة، بحيث استقدم التلفزيون مذيعين شباب يتحدثون بسرعة وبإيقاع صوت مرتفع، ويطلقون النكات بعدما يتم اعتصارها بصعوبة، لتخرج بشق النفس. في حين يتمّ اللجوء أيضًا إلى ممثلين وفنانين معروفين ليقدّموا بعض البرامج، متكئين على امتلاكهم جمهورَا قد يرغب بمتابعتهم وهم يلعبون دور المذيع. ومن العادات والطبّاع التي يصّر عليها الإعلام السوري، تحديدًا خلال فترة الحرب وما بعدها، استضافة "خبراء تائبين" واستشاريين وإعلاميين من تيارات أو "دول معادية"، كخبير استراتيجي تركي مغمور أو صحافي من إحدى الدول الخليجية. وهذه بالطبع فقرة دائمة يصحّ تسميتها مجازًا "عودة الابن الضال"، إذ يقوم هؤلاء، بعدما هيأ لهم الإعلام السوري بيئةً آمنة للكلام، بفضح حقائق حول بلدانهم وحكوماتها، وكشف معلومات تتعلّق بالفساد والاضطرابات الداخلية وخلافات غير معلنة على السلطة. وبالطبع، فإن هذا النهج يُستكمل بتخصيص مساحة دائمًا لتوثيق مصائب وكوارث، سياسية كانت أم طبيعية أم صحية، وقعت في تلك الدول. فعلى سبيل المثال، لم تحصل هزّة أرضيّة في تركيا، مهما بلغت شدّتها، من دون أن يتم الإبلاغ عنها عبر وكالة "سانا". والأمر ذاته ينطبق على الأخبار المرتبط بالأزمة الاقتصادية في تركيا وارتفاع معدلات الفقر فيها نتيجة "السياسات الاقتصادية المتهوّرة التي أدّت إلى هرب المستثمرين". وفي الوقت الذي يكون فيه الإعلام السوري أمينًا في نقل أي تغيّر طفيف في عدد الإصابات بوباء كورونا في بلدان مثل السعودية التي تسجّل آلاف الإصابات يوميًا، تستمر وزارة الصحة السورية في الإعلان عن 38 إصابة جديدة كلّ يوم كحدٍ أقصى، من دون أن يتبرّع أحد، طوال الأشهر الماضية، بشرح لهذه المعجزة التي جعلت سوريا، دوناً عن العالم كله، تسجّل هذا العدد القليل من الإصابات. وبعيدًا عن نقاش هامش الحريّات الذي لطالما كان منخفضًا تاريخيًا، لا بد من الإشارة إلى أن مصطلح "الإعلام السوري"، امتلك سابقًا مزايا إيجابية فُقدت بالتقادم، منها مثلًا وصفه بـ"الإعلام الجاد"، البعيد عن نزعة الترفيه الاستهلاكي الرخيص. كما أنه الإعلام الذي درّب وخرّج محاورين وإعلاميين ومذيعين، لهم اسمهم ومكانتهم. ولهذا، فإن أرشيف هذا الإعلام، ورقيًا كان أو مواد مصوّرة، يحتفظ بملامح هوية منسيّة تكاد تكون طُمست أو تمّ التخلي عنها. وبالتالي، فإن أنسنة الإعلام الرسمي والتفكير به كشخص له سلوكياته وطباعه وعادته يسهّل مهمة تأمّله واتخاذ موقف منه؛ لو كان الإعلام السوري شخصًا لعانى بالتأكيد من "أزمة ثقة" و"تقديرٍ منخفضٍ للذات".