Image Credit: Hasan Belal/NurPhoto via Getty Images
عندما تتوفر جميع السلع "الخاضعة للعقوبات الجائرة" لمن يستطيع شراءها بأسعار السوق الحرة (أي أسعار السوق السوداء في ظل نظام تسعير إداري مهترئ)، لا يبقى للفقراء ما يحميهم من جور الجوع والبرد، في ظلّ حكومات ترى الفقير عالة، وواجب إنفاقها عليه منّة.
وفي الوقت الذي تتجه فيه معظم حكومات الدول الرأسمالية "الأكثر شراسةً" إلى تبني سياساتٍ حمائية تدخّلية لحماية الأشخاص الأكثر ضعفًا وهشاشة، تتصاعد في الداخل السوري طروحات رسمية (وغير رسمية) تستهدف مزيدًا من تحييد الدولة عن دورها الاجتماعي، بعدما تخلت "فعليًا" عن دورها الاقتصادي.
تعرضت سوريا لأشد الضرر جرّاء الحرب وطول أمدها. فقد انكمش النمو الاقتصادي وتدهورت مستويات المعيشة، وزادت حدة الفقر حتى قاربت 90% من إجمالي عدد السكان، وتراجعت نسبة الأسر السورية التي كانت تصنّف آمنة غذائيًا إلى 5.1% في العام 2020، بعدما كانت 35.8% في العام 2019، حيث
يعاني حوالي 12.4 مليون سوري حاليًا من انعدام الأمن الغذائي وفق تقديرات برنامج الأغذية العالمي. وأصبحت العدالة الاجتماعية على مدار عقدٍ كامل من الحرب من المفاهيم الغائبة عند صنع القرار.
إزاء ذلك، وبدلًا من أن تقوم الحكومة بحماية الفقراء وتخفيف العبء عن محدودي الدخل، بدأت تعلو نداءات حكومية حول ضرورة إلغاء الدعم تحت ذرائع مختلفة، تنوعت بين "توجيه الدعم لمستحقيه" و "عقلنة الدعم" و "هيكلة الدعم" و"تخفيض عجز الموازنة الناجم عن الدعم" و"تحويل الدعم السلعي إلى دعم نقدي". إن هذه الدعوات تتجاهل مبدأ واجب الحكومات تقديم الدعم طالما أن الدخل لا يحقق المستوى اللائق من المعيشة. كما أن من واجب الدولة أن "تكفل كل مواطن وأسرته في حالات الطوارئ..." وفقًا لما نص عليه
الدستور السوري في المادة 22.
فالدعم هو واحد من الأدوات التي تلجأ إليها الحكومات للحد من فشل السوق في تخصيص الموارد من أجل تعزيز الرفاهية الاجتماعية وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية. والدعم أداة تدخّل ذات منعكسات اجتماعية واقتصادية، وليس مجرد كتلة نقدية يتم التهويل بجسامة أرقامها.
إلغاء الدعم في سوريا ليس جديدًا
إن ما يثار حول "توجيه الدعم لمستحقيه" ، ورفع أسعار المحروقات بسبب "الحرب الجائرة" و"العقوبات الظالمة"، ليس بجديد، إذ كان من المخطط إلغاء الدعم عن الوقود بشكل كامل بحلول العام 2010، وبدأت إجراءات التطبيق الفعلية منذ أيار/مايو 2008 – أي خلال سنوات "الازدهار الاقتصادي" – حيث رُفعت أسعار البنزين بنسبة 33% والغاز بنسبة 75% والمازوت بنسبة 240%. جرى أيضًا رفع سعر وقود "الفيول" الذي تستخدمه المنشآت الصناعية الكبيرة ومحطات الطاقة بنسبة 33% في كانون الأول/ديسمبر 2008.
لا يجوز الحديث عن رفع الدعم عن الفقراء تحت أي ذريعة، بينما بُعفى الأثرياء ورجال المال والمستثمرون وأشباههم من الضرائب
يومذاك وُزعَت القسائم للتدفئة المنزلية لشراء 1,000 ليتر مازوت بالسعر المدعوم (9 ل. س.)، لكن هذه الخطوة توقفت بعد عام واحد على تنفيذها، واستُبدلت لاحقًا باعتماد البدل النقدي لدعم المازوت (مبلغ 10,000 ل. س. تستلمه الأسرة على دفعتين)، وهو الأمر الذي توقف لاحقًا أيضًا بسبب عدم دقة البيانات وعدم شمولها.
إنّ ما سبق، برغم اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بعد أكثر من عقدٍ من الزمن، يعكس حالة التماثل في الإجراءات والآليات، وهو ما يؤكد أن مخطط إلغاء الدعم هدف نهائي لأي حكومة بصرف النظر عن اختلاف الذرائع التي يتم التسويق لها.
مبررات رفع الدعم عن "غير المستحقين" مردود عليها
إن التبرير الحكومي لاقتراح استثناء بعض الفئات من الدعم، مردود عليه. لن ندخل في المبالغ المرصودة للدعم في الموازنة العامة للدولة، لعدم الشفافية في آليات تقديرها، ولعدم صدور قطع الحسابات عن السنوات السابقة والتي يمكن من خلالها معرفة حجم الدعم الحقيقي، وليس المقدّر الذي عادة ما يكون أقل بكثير مما هو مرصود. لكن سنوضح بعض النقاط، انطلاقًا من مبررات الحكومة لاستبعاد فئة غير المستحقين من الدعم بذريعة قدرتهم على الحصول على السلع بأسعار السوق بسبب تحقيقهم دخلًا مرتفعًا:
أولًا، قد يكون صحيحًا أن عدد المستفيدين من
الدعم المباشر "أكثر مما ينبغي"، لكن، في المقابل، تبلغ الإيرادات العامة الضائعة أو المهدورة الناتجة من التهرب الضريبي، واختلاس الأموال العامة، وسوء استثمار الأملاك العامة للدولة حجمًا "أكبر بكثير من مبالغ الدعم"، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "الدعم الضمني"، فهل سترفع الحكومة الدعم الضمني أسوةً بالدعم المباشر من باب المعاملة بالمثل؟
ثانيًا، تقتضي العدالة أن يتساوى جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، وبالتالي، فإن الدعم هو حقّ لكل مواطن، ولا يجوز حرمان فئة دون فئة أخرى. في المقابل، فإن الضريبة واجب على كل مواطن يحقق دخلًا، فمن بابٍ أولى العمل على ضمان قيام "غير المستحق" بدفع الضرائب المتوجبة عليه والمستحقَة للدولة. حينذاك، لن تقع كارثة مالية في حال حصول هؤلاء على الدعم، خصوصًا أن عدد البطاقات الذكية التي يمكن استبعادها تشكل 8% فقط من إجمالي البطاقات، وبالتالي فإن الوفر المحقق من عدم حصول "غير المستحقين" على الدعم لن يغيّر كثيرًا من واقع المالية العامة للدولة.
ثالثاً، بما أن الحرب قسّمت المجتمع السوري إلى طبقتين، الأولى
فقيرة تعيش تحت خط الفقر العالمي (أقل من 1.9$ يوميًا) و
تشكل 90% من عدد السكان وتناضل يوميًا في مواجهة ارتفاع الأسعار؛ والثانية
مترفة تشكل أقلّ من 10% من عدد السكان، استغلت ظروف الحرب واعتاشت على حساب الطبقة الأولى وحصلت على العديد من الإعفاءات وغض نظر حكومي بحجة دعم الاقتصاد الوطني، فمن هذا المنطلق، لا يجوز الحديث عن رفع الدعم عن الفقراء تحت أي ذريعة، بينما بُعفى الأثرياء ورجال المال والمستثمرون وأشباههم من الضرائب.
وأمام توجه الحكومة في تبنّ "غير معلن" لنظام السوق الحرة، وبما أن الأسواق في واقع الأمر ليست "حرّة" بالمطلق، فإن التدخل الحكومي يصبح ضروريًا وواجبًا للتعويض عن إخفاقات السوق.
الدعم أفضل وسيلة لحماية الفقراء
يمكن تشبيه رفع الدعم في الظروف الراهنة بـ"الدواء الذي تكون آثاره الجانبية أكبر بكثير من استطباباته"، إذ لا يجوز التعامل مع ملفٍ شائك كملف الدعم بمعزلٍ عن ثلاث ركائز: أولها الحد الأدنى للأجور، وثانيها الحماية الاجتماعية، وثالثها إعانات البطالة. وهذا يستوجب تطبيق سياسة للأجور تحقق التوازن بين هيكل الأجور وبين تكلفة الحصول على الاحتياجات الأساسية للمواطنين، مع تنفيذ برامج للحماية الاجتماعية التي تشكل خط الدفاع الأول عن الفقراء والضعفاء، وتوفير إعانات بطالة للعاطلين عن العمل تغطّي تكاليف المعيشة الحياتية الأساسية. إنّ إهمال أي من هذه الركائز سيؤدي إلى مزيد من الإفقار الذي ستكون أكلافه الاجتماعية على المدى الطويل أكبر بكثير من الوفر المحقق على المدى القصير جرّاء رفع الدعم.
لكن الأهم من الخوض في تفاصيل الدعم وتوجيهه إلى مستحقيه، هو حقيقة أن أفضل وسيلة لحماية الفقراء وتخفيف العبء عن محدودي الدخل يتمثل بتحقيق نمو اقتصادي سريع، من شأنه أن يدّر إيرادات ضريبية يمكن أن توفر على المالية العامة تكلفة المزيد من الدعم الاجتماعي.