ملحمة "الكيلوتات"

لا أعرف ما هو رأي Benjamin Lee Whorf ومعلمه Edward Sapir، وفرضيتهما التي تُفضي إلى أنه "إذا كانت لغة الشخص لا تحتوي على كلمة لمفهوم معين، فلن يتمكن هذا الشخص من فهم هذا المفهوم". أغلب الظن أنهما لو مُنحا عقودًا إضافية من العمر، وعاشا نقاشاتنا الغنية حول "الكيلوتات"، لهَدما فرضيتهما وماتا فورًا عن طيب خاطر!

Image Credit: Rana Salam/ The Secret Life of Syrian Lingerie

"بدي أشتري شوية بوكسرات". كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها كلمة "بوكسر"، وفهمت معناها تلقائيًا لأن صديقي قالها - قبل أكثر من عشرين عامًا - وهو يجذبني من يدي نحو بسطة لا تعرض من البضائع سواها تحت جسر الرئيس في دمشق. ضحكنا كثيرًا يومها وأنا أقول له: "يرحم جدك" ساخرًا من لسانه الذي "انعوج من لما سكن بالشام". كان كل منّا قد نشأ بين الأحياء الشعبية في حلب، حيث وُلد لأب وأم من بيوتات تلك الأحياء، وُلد كل منهما بدوره لأب وأم تربيا في أحياء شعبية... في بيئتنا كانت التسمية المألوفة لكل لباس داخلي هي "كلسون"، وفي أفضل الأحوال إذا أراد واحدنا أن "يهذب ألفاظه" استخدم "كيلوت". أما جداتنا وأجدادنا، فلم يكن أحدٌ منهم يفكر قبل أن يستخدم كلمة "لْبيس" مستعيضًا عن الألف في المفردة الأصلية (لباس) بياء مشبعةً، جريًا على عادة اللسان الحلبي الذي يبالغ في إمالة الألف أكثر من اللبنانيين حتى. تَستخدم بعض الأمثال الشعبية المتداولة حتى اليوم في حلب ودمشق (وربما محافظات سورية أخرى) اللباس (الداخلي) وسيلة إيضاح بلاغية، من قبيل القول مثلًا: "لباس ما في، والدكة بـ14"، أو "دكّة مطرزة على لباس خام". ويُستخدم المثلان المذكوران في سياق واحد، للإشارة إلى من يُفرط في الاهتمام بالكماليات، برغم انعدام الأساسيات لديه، كمن يهتم مثلًا بقوننة وضع الكلاب الشاردة وتنظيم جباية ضرائبها، متناسيًا أحوال البشر الشاردة، أو من يضع "كيلوتات" الأخريات في رأس قائمة همومه واهتماماته، وكأنما كل شيء آخر من حوله "فلة شمعة منورة"، حتى ولو كان الآلاف يجدون صعوبة في تأمين ثمن "كيلوتات" أبنائهم، من دون أن يكون هناك أيّ أمل باستحضار سيرة ثورة "الذين لا يرتدون سروايل داخلية" (الثورة الفرنسية / Les sans culottes).
أقرأ بشغف كتاب محمود تيمور "مشكلات اللغة العربية"، وأبدأ في التنبه إلى أن اللغة العربية "بلا كلسون"، ولا حتى "كيلوت"
بالطبع، لم أكن حين سمعت مفردة صديقي "المُستشوم" قد عرفتُ شيئًا عن برنشتاين (Basil Brenstein) وجهوده البحثية حول العلاقة بين اللغة والطبقات الاجتماعية، أو عن بورديو (Pierre Bourdieu) ونظريته حول "رأس المالي الثقافي"، ولا عن المسألة اللغوية والهيمنة الثقافية عند غرامشي (Antonio Gramsci)، غير أنني كنتُ أعي أن الحلبيين عمومًا، والمشتغلين في قطاعي الثقافة والفن بشكل خاص، ينظرون إلى كل من ينتقل للعيش في دمشق على أنه قَطع درجةً صاعدةً نحو الأعلى، وجلّ الفضل في ذلك يرجع إلى القيادات (الثقافية) الحكيمة التي تعاملت مع البلاد على أنها "دمشق"، و"بعض المناطق الأخرى". بعد سنوات ليست طويلة، سأقرأ بشغف كتاب محمود تيمور "مشكلات اللغة العربية"، وأبدأ في التنبه إلى أن اللغة العربية "بلا كلسون"، ولا حتى "كيلوت"! ثمة فقط "سروال"، ويمكنك التمييز بين سروال وآخر على أن هذا "داخلي"، وذاك "خارجي"، تمامًا كما تنقسم المؤامرات إلى داخلية وخارجية. أما "السوتيان" فحاله أفضل، إذ مُنحت اسمين فصيحين محتملين: "المِنهدة"، أو "حمّالة الصدر". قد لا يصدق أحد لو قلت إنني قبل أعوام فكرت في استقصاء المفردات التي يستخدمها السوريون لتسمية الملابس الداخلية، والبحث في تباين تلك المفردات تبعًا للجغرافيا، أو الطبقات الاجتماعية، أو الحصيلة الثقافية، أو غير ذلك، لكنني فكرت في ذلك حقًّا، بل وشرعتُ في الأمر. أذكر أنني سألتُ بائع ألبسة داخلية في أحد أسواق حلب القديمة عن المفردات التي يستخدمها زبائنه. كان الرجل قد أعاد افتتاح محله قبل فترة وجيزة، لأن المحل يقع في شارع لم ينله الدمار الشامل، وأوحت لي ردة فعله بأنه كان يُفضل لو أنه ظلّ معتزلًا عالم التجارة والملابس الداخلية، على أن يأتيه مخبول مثلي بهكذا سؤال.
بواكير الفن التي أنتجتها البشرية على جدران الكهوف كانت أسبق بكثير من التطرف بمعظم أشكاله، وحتى من "الكيلوتات" بمختلف تسمياتها
أمام إلحاحي، قال الرجل إن الزبائن الذين يدخلون المحل باتوا أندر من الندرة أصلًا، لكنه، مستعينًا بذاكرته، أرضى فضولي ببعض التفاصيل، فالنسوة من زبائنه بشكل عام يملن إلى استخدام مصطلح "داخليات" حين يقصدن السراويل الداخلية النسائية القطنية، ولا يتحرجن من استخدام كلمة "ستيانة" حين يردن القطعة العلوية، بينما يستخدمن مصطلح "لانجري" حين يكون المقصود شيئًا مصنوعًا من الدانتيل، أو الشيفون، أو ما شابه. أما إذا كانت الغاية شراء ألبسة داخلية للأطفال فيستخدمن مفردتي "كيلوتات" و"كلاسين" بلا أي حرج. بينما يسمي الرجال الأمور بمسمياتها دائمًا، من دون أن تكون مفردة "سروال" الفصيحة حاضرة في قواميسهم، وأحيانًا قد يميزون بين الأطوال المطلوبة لملابسهم الداخلية باستخدام كلمة "شرعي" للدلالة على السروال الداخلي الـ"شورت"، أو "حفر" لنظيره الأقصر، ولا أدري إن كانوا يرونه غير شرعي! لا أعرف ما هو رأي السيد وورف (Benjamin Lee Whorf)، ومعلمه سابير (Edward Sapir)، وفرضيتهما الشهيرة التي تُفضي من بين خلاصاتها إلى أنه "إذا كانت لغة الشخص لا تحتوي على كلمة لمفهوم معين، فلن يتمكن هذا الشخص من فهم هذا المفهوم". أغلب الظن أنهما لو مُنحا عقودًا إضافية من العمر، وعاشا زمن "السوشال ميديا"، ونقاشاتنا الغنية حول "الكيلوتات" من دون أن نهتم للمرادف الفصيح لها، لهَدما فرضيتهما وماتا فورًا عن طيب خاطر! فمن يتابع الزوابع التي أثارها في الأسبوع الماضي "كيلوت مريم" (الشخصية التي أدتها منى زكي في فيلم "أصحاب ولا أعز") في بلاد العُرب عمومًا، ومن ضمنها سوريا، لن يخطر له على الإطلاق أنّ الأسبوع ذاته شهد تحركًا هو الأخطر منذ سنوات لتنظيم "داعش" في شرق البلاد. وكي لا يتهم أحدٌ هذا المقال بالتشتت، لا بأس أن أُذكّر هنا بأن التنظيم إيّاه كان قد أصدر قبل سنوات (حين كان في عزّ سطوته) قرارًا ينظم شؤون الألبسة الداخلية، فحظر بيع ملابس داخلية نسائية لزبائن من الذكور، كما حرّم عرض تلك الملابس أمام الأنظار بأي طريقة كانت. طبعاً ليس "داعش" وحده من يحرّم عرض هذه القطع "المثيرة"، فقد لاحظت لسنوات طويلة أن مجتمعاتنا بالعموم تميل إلى مثل هذا في حال كانت الملابس مُستخدمة، ولا يمانع عرضها إن كانت في واجهات المحال. يحدث ذلك تلقائيًّا حين يُنشر الغسيل، ويكون موضع الملابس الداخلية بعيدًا عن أعين الجيران، وأنظار الطيور، والأقمار الصناعية. لا بأس أيضًا من التذكير بأنّ بواكير الفن التي أنتجتها البشرية على جدران الكهوف كانت أسبق بكثير من التطرف والتعصب بمعظم أشكالهما، وحتى من "الكيلوتات" بمختلف تسمياتها، ومن التخمين بأن الفنّ سيعيش أكثر من الجميع أيضًا.
مونديال الحمولات الزائدة

عام 1994، حال فارق الأهداف دون وصول المنتخب السوري إلى المونديال الأميركي. أما انتخابات مجلس الشعب فقد..

صهيب عنجريني
دردشات على هامش الزلزلة

أي مفارقة هذه: "عقدة الناجي تكاد تستحق جنسية سورية فخرية، في بلادٍ لم ينجُ أحدٌ من أبنائها"!

صهيب عنجريني
ابتسمي أيتها الدراما

ثمة مسلسلات يَفترض فيها الكاتب الذروة التي يريد من الأحداث أن تصلها، ثم يبدأ في قيادة سلوكيات الشخصيات..

صهيب عنجريني

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة