وصلتُ إلى مطار بيروت قبيل منتصف الليل، عقب رحلة استمرت نحو اثنتي عشرة ساعة من اللاذقية، تخلّلتها محطات فرعية كاستراحة حمص الشهيرة وكراج البولمان على حواف مدينة دمشق، فضلًا عن مطار دمشق الدولي. كان لديّ خيار دخول دمشق القديمة لبضع ساعات بغرض التسوّق أو شرب القهوة أو لقاء أحد الأصدقاء، بانتظار أن يحين موعد طائرتي. لكنّي وجدت نفسي أختار، من دون مفاضلة تُذكر، التوجّه مباشرة إلى المطار. بدأ صراعي مع دمشق منذ أن أدركتها، أي عند أول زيارة لي إليها يوم كنت في الحادية عشرة من عمري. بكيت يومذاك لثلاثة أيام متواصلة إلى أن عدنا إلى اللاذقية، على العكس مما كان عليه حالي في حلب التي زرتها خلال الفترة نفسها ولم أُطق تركها. أذكر أن أوّل ما هالني في دمشق حدّ الرعب كانت الأبنية شبه المتلاصقة، والجبل الضخم المليء بالأضواء خلفها، يطلّ عليّ أثناء جلوسي عند شرفة منزل في مشروع دمر. لاحقًا، عند عودتي إليها بعد ثلاثة عشر عامًا - بينها ثمانيةُ أعوام من الحرب - لم يكن حجم الدمار وحده ما أرهبني، بل الفوارق الطبقية والمناطقية والثقافية والطائفية المتنامية. صحيح أن دمشق لطالما "امتازت" بطابع نخبوي زاد من حدّة الثنائيات الاجتماعية، إلا أن هذه الثنائيات اتخذت شكلًا أكثر عنفًا بعد الحرب، وتدرّجت في السنوات الأخيرة من "شامي من المدينة" في مقابل "شامي من الريف"، إلى مجرّد "شامي"... في مقابل "غريب". أعتقد أن عملية تحديث دمشق القديمة وهدم أجزاء منها لشقّ طرقات وإنشاء أبنية، شكّلت الشرخَ الأول لأهل المنطقة "الأصليين" مع المكان. ومع الوقت تحوّلت المدينة القديمة إلى مركز ترفيهي وثقافي، بحيث لم يعرفها جيل ما بعد الحرب إلا بشكلها المسلَّع. وصار بذلك جزءًا من عملية تبدأ باستهلاك ماضيها وتنتهي بإنتاج طابع متروبوليّ حديث، يخاطب طبقة من المثقفين والعاملين في المجال الفني والمنظّمات الدولية، ممّن يحصلون على رواتبهم بالدولار أو اليورو، ويقدرون بالتالي على التأقلم مع نمط حياة مدينة "مُحدّثة"، قائم على سهرات يوميّة أو أسبوعيّة تتخطى تكلفة الواحدة منها الراتب الشهري لمواطن عادي. في هذه المحطة التي كان عليّ المرور بها للوصول إلى بيروت، تتعاظم غربتي عن المكان، وأستعيد دومًا المرة الأخيرة التي مشيت فيها في أحد أزقة باب شرقي، وكاد أن يقتلني انهيار شرفة منزل قديم. تذكّرني هذه الحادثة دومًا، بأنه لا مكان للغرباء هنا.
المحطة الأولى: مار مخايل والحمرا
رحّبت بي بيروت من خلال رسالة عبر "الواتساب" فور وصولي إلى منزل أصدقائي في منطقة مار مخايل، في وقت متأخر من الليل. احتوت الرسالة على صورة لجواز سفري، مع رسالة تفيد بأن أحد المسافرين وجده على شريط الحقائب. "حتى إثبات الهوية الذي أملكه يهرب مني"، قلت لصديقي ضاحكة. هذه محطة لا أكثر، يقول معظم أصدقائي السوريين في لبنان. فالوجهة النهائية وفق مخططاتهم هي أوروبا بالتأكيد. استطاعت فئة واسعة من الشباب السوري المثقف والناشط في لبنان أن تشكل مجتمعًا خاصًا بها، يحاكي الموجود في دمشق في بعض جوانبه، كالسهرات الأسبوعية أو شرب القهوة الصباحية يوميًا في الأماكن ذاتها، حيث يعرف الجميع بعضهم بعضًا، ويتحدثون في السياسة أو الفنون.
حرص السوريون على تحذيري من التكلم بلهجتي الحقيقية أو ارتداء ملابسي المعتادة في طرابلس، وسردوا لي قصصًا تفاوتت في التفاصيل، وتساوت في حجم المبالغة
استغرقت رحلة السيارة من مار مخايل إلى الحمرا، محطتي البيروتية الأولى، ساعة كاملة. ذهبت إلى هناك برفقة سوري من السويداء، وآخر من حمص، وسورية فلسطينية عاشت معظم حياتها في اللاذقية، ولبنانية من زغرتا. اجتمعنا في السيارة الصغيرة من دون معرفة مسبقة تجمع معظمنا، وبدأنا حديثًا وجدت نفسي معه في قلب نقاش عن الهويّة. - وين بدنا نتعشى؟ مار مخايل؟ - لا، بدي مكان ما فيه بيض. ما إلي خلق عليهم آخر هالليل. - يا عنصرية، إذا إنتِ المثقفة والمدافعة عن حقوق الإنسان هيك، شو تركتِ لغيرك؟ - يمكن معك حق، بس… - "مزيان" معناها. - لا، كمان كلّه بيض. - مزيان أغلبه سوريين متلك على فكرة! - أغلبه سوريين بيض، وما بعتبر حالي متلن. - شو؟ انتهى الحديث هنا مع ضحكات غير واثقة، تحاول الفهم والتفاعل في الوقت ذاته. وصلنا إلى شارع الحمرا الذي، برغم طبيعته الكوزموبوليتية، كان الخيار الأقل "بياضًا" بالنسبة لنا، وركنّا إلى "مزيان" في نهاية الأمر. أثناء العشاء الذي ضمَّ أطباقًا شاميّة تقليدية كالحمّص والفتوش والكبّة وغيرها، احتدم النقاش حول أصول كل من الأطباق واختلاف طرق صنعها وتقديمها ربطًا باختلاف الجغرافيات. ثم راح نقاشنا يتناول قضايا الأصالة والتهجين وسرقة الهويات الثقافية وتسليعها، إلى أن قاطعنا رنين هاتفي المحمول. أجبت بسرعة ثم أقفلت الخط بحماسة لإخبار الحاضرين عن محمد ومشروعه الأخير، فبدأتُ بتقديمه كفلسطيني لبناني يعمل مع منظمة "أطباء بلا حدود". وقبل أن أكمل، قلت لنفسي بصوت خفيض: "هل الفلسطيني اللبناني موجود حقًا؟" "لقد لمحت أحدهم متسللًا خارج المخيم منذ فترة وبدا لي حقيقيًا. تخيلي!"، قالت لي سارة - السورية الفلسطينية - مازحةً. تُعرِّف سارة عن نفسها كما بقية الفلسطينيين في سوريا ممن يحملون بطاقة الإقامة المؤقتة، بأنها فلسطينية سورية. إلا أن الأمر مختلف بالنسبة للفلسطينيين في لبنان. فالمصطلح غائب تمامًا عن السياقين الشخصي والعام. إذ ليس للفلسطيني اللبناني من وجود، إلا إذا ما نال اعترافاً محليًا أو عالميًا بتحقيقه إنجازًا ما، يُعلي من مكانته.
المحطة الثانية: طرابلس- المينا
تُصدَّر لنا، كجمهور غير لبناني، صورة نمطية عن مدينة طرابلس: مدينة كبيرة تنافس منطقة عكار على الصدارة في معدلات الفقر والبطالة، ويختلف شكل الحياة الحضرية فيها تمامًا عن بيروت. فبينما كان الصراع الطائفي ينفجر كل فترة بين جبل محسن والقبة، وتلقى الاشتباكات رواجًا واسعًا في الإعلام والأخبار الشفوية التي يتناقلها الناس، كانت بيروت تحتفظ بصورتها الحداثية "البوست ميليشياوية"، إلى أن زعزعتها أحداث الطيونة العام الفائت (وقبلها أحداث السابع من أيار 2008). في رحلتي الأولى من اللاذقية إلى القبة عام 2019، حرص السوريون على تحذيري من التكلم بلهجتي الحقيقية أو ارتداء ملابسي المعتادة هناك أو في طرابلس بشكل عام، وسردوا لي العديد من القصص التي تفاوتت في الدقة والتفاصيل، وتساوت في حجم المبالغة. "ذكريني بس نوصل عند المنعطف دلّك وين كانوا معلقين علم "داعش". كنت إختار الركاب حسب خانة الهوية أول الحرب، لأنو خاف يدبحوا حدا من غير ملّتن"، قال لي سائق التكسي السوري ببرود قبل أن يتركني وحيدة في ساحة النور، أشق طريقي بحذر شديد في حقل الألغام المفترض.
تطوّر شكل محلي من "البياض"، يؤشر إلى طبقات اجتماعية منفصلة عن الواقع "العالمثالثيّ" الذي تعيشه الطبقات الأخرى
لم أرَ من القبة سوى الأبنية الموسومة بعلامات الرصاص، ولم أحمل معي من طرابلس سوى لوحات ذهنية عابرة على قياس كادر شباك السيارة، ولقطات مبعثرة وملونة من الألبسة المستعملة في سوق الأحد. لذلك، حاولت إثر عودتي إلى المدينة بعد أكثر من سنتين أن أقابلها خالية الوفاض؛ بسلة فارغة من التنميط والأفكار المسبقة أو التوقعات. واكتشفت أني فشلت عندما طلبَت مني إحدى الزميلات أن أبدل البيجاما الفضفاضة التي أرتديها بلباس آخر، لنتوجه إلى أقرب حانة تنفض عنا تعب الرحلة. أجبتها بأني لم أحضر معي لباسًا مناسبًا للخروج لأني لم أتوقع ذلك، وأردفتُ: "هل توجد حانات هنا أصلًا؟" في صباح اليوم التالي، قرر المسؤولون عن ورشتنا الصحافية في المينا دعوة أحد سكان المدينة "الأصليين" ليحدثنا عن تاريخها، واختاروا شابًا في الثلاثين من عمره يملك حانة في الجزء القديم منها. تطرق الشاب إلى مواضيع مهمة، إلا أنه قاربها بشكل سطحي، ما أفقدني الاهتمام بحديثه إلى أن نطق بالجملة التالية: "كانت المينا من أجمل المدن في لبنان، لكنها شُوّهت وطُمست هويتها الأصلية بفعل الغرباء الذين استقروا فيها". رفعت رأسي المسمّر إلى شاشة هاتفي المحمول، وطلبت منه أن يخبرني عن التواجد السوري في المنطقة، فأجابني بأنه قليل جدًا وغير محسوس. "من تقصد بالغريب إذًا؟"، سألته بابتسامة ساخرة تترقب جوابًا أعرفه جيدًا، علّ قوله بصوت عالٍ يحرجه. "الغرباء هم من أتوا إلى المدينة من مدن أخرى في الآونة الأخيرة"، أجابني. هكذا إذًا، بدا أن الزمن يلعب دورًا مهمًا في عملية قولبة الشاب للآخرين، وتمييز الغرباء منهم عن الأصليين.
المحطة الثالثة: ابتسامة غدير
ضمت الورشة الصحافية في المينا صحافيات وصحافيين من جنسيات وخلفيات متنوعة. اجتمعنا في دير سان فرانسيس المعروف في المدينة حيث أقمنا لمدة أسبوع. وكانت تلك المرة الأولى التي يمضي فيها العديد منا مدة بهذا الطول في دير. على رأس ذاك الدير قسيس إيطالي الجنسية. يحكى أنه قدم إلى لبنان ضمن بعثة تبشيرية، يبدو أنها لم تنتهِ. رجل سبعيني صارم إلى حد التسلط. كثير الصراخ والنقد لكل من يعمل معه، خصوصًا المرأة التي تنظف المكان. تساعده في مهمته سكرتيرة تجسد الذراع النسائي للمؤسسة الأبوية. يغلق الأب الأبواب كل يوم عند التاسعة مساءً، وتُمنع الحركة خارج الغرف بعد هذا التوقيت. وبرغم دفعنا المال مقابل إقامتنا وعدم تبعيّتنا لمؤسسته الدينية، فقد أصرَّ الأب على فرض قوانين مملكته علينا من دون مساومة. وعندما طلبنا منه نسخة احتياطية من المفتاح، أجابنا بنبرة تحقيرية: "أحضرن لي رجلًا لأتفاهم معه. لا أجيد التعامل مع ثرثرة النساء". شاهدت "أبونا" من بعيد يشرح لصديقتي غدير أشياء بدت غير مهمة لها، فيما كانت تمعن النظر إليه وتبتسم من دون أن تنبس بكلمة. تكرر المشهد مرتين، ولدى سؤالي إياها عن الموضوع قالت لي باسمة: "قال لازم شيل الحجاب. عم يحاول يقنعني إنه أنا أكيد ما بحب ديني ولا حجابي، ومش مقتنعة فيهن". استعانت غدير بابتسامتها مرة أخرى بعدما اشتكت إحدى الزميلات الألمانيات لها من مستوى النظافة المتدني في المكان، لأن المرأة المسؤولة عن التنظيف لبنانية. وراحت تشرح لها كيف دخل "مفهوم النظافة" إلى لبنان بعد الاستعمار. ولأن اللبنانيين عجزوا عن القيام بالأمر وحدهم، فقد اخترعوا نظامًا استعباديًا لاستيراد العاملات المنزليات. عند الإشارة إلى "الرجل الأبيض" أو "البيض" بشكل عام، تتوارد إلى أذهاننا الكثير من المفاهيم التي ارتبطت بالمصطلح المذكور تاريخيًا: الاستعمار، السلطة القمعية، العنصرية، التفوق العرقي، الامتيازات، العالم الأول، إلخ. وفي دول ما بعد الاستعمار، تطور شكل محلي من "البياض"، يؤشر إلى طبقات اجتماعية منفصلة عن الواقع "العالمثالثيّ" الذي تعيشه الطبقات الأخرى. كان يمكن لغدير أن تقول هذا الكلام، لكنها آثرت الابتسام.
غربة ومساحات آمنة
في اليوم الأخير لي في المينا، دعتني القدود الحلبية إلى دخول إحدى الحانات والغناء مع الحضور قليلًا، قبل أن أمشي خارجها بعد فترة قصيرة بضع خطوات تحت المطر، على وقع أغنية "شيك شاك شو" التي رقص عليها أحد الشباب ببراعة مدهشة، حاملًا بين أسنانه وردة حمراء، في المساحة الوحيدة الآمنة لمجتمع "الميم" في المدينة. طوال الفترة التي قضيتها هناك، لم أخفِ لهجتي عن السكان، بل أفصحت عن هويتي السورية، وعن كوني من اللاذقية تحديدًا، بعد تقديم نفسي كصحافية. وقابلني غالبية من تعرّفت إليهم بالجملة عينها: "نحنا ولاد نفس الساحل، ما في فرق بيناتنا". قاومت فكرة "تغريبي"، وشاهدت كثرًا من حولي يفعلون الأمر نفسه، عبر الابتسام، أو السخرية، أو الرقص. ربما ذكّرتنا مقاوماتنا بأننا نعيش جميعًا في مدن تنهار شرفاتها علينا، وفي بلاد تبدّل سلطاتُها أشكالها، وتتبدّل معها تموضعاتنا حيال كلّ "آخر". بدا الثابت الوحيد في المحطات كافة خلال هذه الرحلة أننا غرباء، يحدّد غربتنا في هذه البلاد مكوّن هويّاتي ما، يفتعل على الدوام نقيضه.