"كيلوت" منى زكي في "أصحاب ولا أعز"، شيرين عبد الوهاب حليقة الرأس، التشكيك في جنس حارسة مرمى المنتخب الإيراني، فستان رانيا يوسف، تجاعيد سينتيا كرم: أخبار ضجت بها مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأشهر الماضية وتحوّلت إلى "ترندات" ظلّت تتفاعل لأيام، فلماذا؟ يجمع بين هذه الأخبار والنقاشات الافتراضية قاسم مشترك واحد هو جسد المرأة. ولا يكاد الجدل المتصل بهذه الأخبار يخفت، إلّا ليعود ويظهر من جديد في خبر آخر وتفاصيل جديدة، فتختلف شخصيات الخبر ويظلّ جسد المرأة العنصر الثابت في النقاشات الافتراضية "الأكثر إثارة".
جسد المرأة: مادة سريعة الاشتعال في العالم الافتراضي
لا تختلف المنابر الافتراضية كثيرًا عن الواقع، بمعنى أن الخبر "المثير" الذي ينطوي على عنصر الجسد الأنثوي يحقق مشاهدات كبيرة بشكل عام، وتكثر النقاشات حوله. فبرغم أن الرجال يتحدثون ويظهرون في الإعلام أكثر من النساء، إلا أن الأخبار المتعلقة بجسد المرأة تلقى رواجًا أكثر من أنماط أخرى من الأخبار. والحال لا يختلف في أوساط الجمهور العربي، إذ تتيح مواقع التواصل الاجتماعي منبرًا خصبًا لكل من يريد أن يدلي بدلوه، مقارنة بما كان الحال عليه في الصحافة التقليدية. فتجتمع في هذا المنبر التيارات المحافظة الداعية إلى "ستر" الجسد مع نقيضتها التحرّريّة المطالبة باستقلاليته، فضلًا عن التيارات النفعية التي لا ترى فيه إلا سلعة مدرّة للربح، فيصبح جسد المرأة مادة سريعة الاشتعال، مولّدة لنقاشات أبويّة تكاد لا تخضع لأي قيود.
الخوارزميات: كيف تسهم في مضاعفة الجدل على مواقع التواصل؟
الخوارزميات هي "مجموعة رياضية من القواعد التي تحدّد كيف تتصرف مجموعة من البيانات". ودور خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي هو "المساعدة في ترتيب نتائج البحث والإعلانات" كما يشرح موقع Digital Marketing Institute. وعليه، فهي مجموعة من القواعد التي تقرّر اهتمامات المستخدم وما يريد رؤيته على المنصة. ومع ازدياد عدد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في السنوات الماضية، بات من الضروري لهذه المواقع أن تضع قواعد لتحديد ما يراه المستخدمون. ولهذه الغاية، استُخدمت الخوارزميات وسيلةً لجمع بيانات المستخدمين وفرزها ومن ثم تزويد المستخدم بمحتوى ذي صلة باهتماماته. فعلى سبيل المثال، في موقع "فيسبوك" ثلاث إشارات ترتيب (Ranking Signals)، وهذه الإشارات هي البيانات التي يتم جمعها عن المستخدمين عن طريق مراقبة سلوكهم السابق على الموقع. وتتلخص هذه الإشارات في ما يلي: الجهات التي يتفاعل معها المستخدمون، نوع المنشورات التي يتفاعلون معها، ومدى شيوع المنشور. ويستخدم "فيسبوك" هذه الإشارات، لإنشاء “Feed" جديد انطلاقًا مما يبدو أنه مصدر استمتاع للمستخدم.
لمواقع التواصل قدرة محدودة على ضبط المحتوى المتّصل بالإساءة إلى النساء والتمييز ضدّهن
وبرغم هذا التطور، لا يمكن لخوارزميات مواقع التواصل قراءة التعليقات أو فهم محتواها، سواء كان هذا المحتوى يؤيد المنشور أم يعارضه، بل تعتبره "تفاعلًا". وتفرز الخوارزميات المنشورات بحسب عدد مرات الإعجاب وعدد التعليقات. وتفضل المنشورات التي تحصد تعليقات وإعجابات أكثر على تلك الأقل حظوة، فتظهرها بوتيرة أكبر في حسابات المستخدمين. فإذا تفاعل المستخدم، على سبيل المثال، مع منشور يتعلق بمشهد خلع منى زكي سروالها الداخلي (سواء أبدى المستخدم إعجابًا أو كتب تعليقًا أو شارك المنشور)، فإنه قد يرى تباعًا أخبارًا ذات صلة مثل بيان نقابة المهن التمثيلية في مصر الذي أعلن تأييده للفنانة، أو تصريحًا لمغني "المهرجانات" المصري حمو بيكا (الذي أوقفته النقابة عن الغناء بحجة تهديد الذوق العام) بأنه سيذهب إلى النقابة بالـ "كيلوت"، أو غيرها من الأخبار المتعلقة بهذا الحقل الافتراضي من الأخبار. يشرح ربيع بركات، وهو أستاذ زائر في جامعة نيويورك ومحاضر في قسم الإعلام في الجامعة الأميركية في بيروت، أن "خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي تؤدي دورًا مهمًا في تشكيل وعي الجمهور، وبالتالي في تحديد اهتماماته وأولوياته، وهي ليست بالتالي مجرّد انعكاس لهذه الاهتمامات أو الأولويّات". ويضيف أن "الخوارزميات تزيد من قابليتنا لإنتاج واستهلاك ونشر الأخبار المثيرة، وذلك لسبب بسيط، ألا وهو أنها تولي الأولوية للأخبار التي تحصد التفاعل، والأخبار المثيرة هي أكثر ما يحصد التفاعل بطبيعة الحال". من هنا، نسأل هل كانت الأخبار السابق ذكرها لتحتل المساحة نفسها لو لم تكن الخوارزميات عاملًا مساهمًا؟ ويدعونا ذلك للتفكير في كم الأخبار والقضايا الأخرى التي تنتقص هذه الأخبار من أهميتها وتنتشر على حسابها.
هل للخوارزميات دور في مكافحة كراهية النساء؟
في حين تسهم الخوارزميات في إنشاء فقاعات التواصل الاجتماعي، التي يصبح فيها كل "feed" عالمًا افتراضيًا مركزه المستخدم وتتدفق إليه الأخبار المتجانسة، تتيح منصات التواصل الاجتماعي تولّد دفق هائل من التعليقات على الأخبار الواسعة الانتشار في هذه الفقاعات. وتنطوي هذه التعليقات في كثير من الأحيان على كراهية النساء والعنف السيبراني الموجّه ضدّهن. وبرغم تأكيد الشركات المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي إزالة منشورات تتضمّن خطاب كراهية وتستهدف أفرادًا، وعدم السماح لمستخدميها بتوجيه الإساءات على أساس الجنس أو الهوية الجندرية، إلا أن الواقع يظهر محدوديّة قدرتها على ضبط المحتوى المتّصل بالإساءة إلى النساء والتمييز ضدّهن. وفي هذه الصدد، يقول بركات إن مواقع التواصل لا تشكّل بالضرورة بيئة حاضنة للأشخاص المعادين للنساء، لكنّ "القضايا التي تتّصل بالنساء وبأجسادهنّ قابلة للانتشار سريعًا نظرًا لإثارتها فضول الجمهور، ويترافق ذلك في العادة مع التداول بأفكار وأوصاف تساهم في تسليع المرأة وتنميط صورتها، وهو ما يعزّز من العنف الرمزي ضدّها". وتفيد 33% من النساء في أميركا، بحسب دراسة استقصائية نشرت في موقع Pew Research، استهدفت رجالًا ونساء أميركيين في الفترة من 8 إلى 13 أيلول 2020، أنهن تعرضن قبل سن الخامسة والثلاثين للتحرّش الجنسي على مواقع التواصل الاجتماعي. وفي العالم العربي، وجدت دراسة لهيئة الأمم المتحدة للمرأة صدرت في العام 2021 وشملت 8 دول عربية (المغرب، وليبيا، وتونس، والأردن، وفلسطين، ولبنان، والعراق واليمن)، أن نسبة النساء العربيات اللواتي تعرّضن للعنف على الإنترنت، على الأقل مرة واحدة، بلغت 16%. وبلغت نسبة اللواتي سبق لهنّ التعرض للعنف عبر الإنترنت وأبلغن عنه في العام 2020 في العراق 70.4%، وفي اليمن 62%، وفي الأردن 60.4%، وفي ليبيا 60.3%، وفي المغرب 58.1%، وفي فلسطين 54.2%، وفي تونس 46.7%، وفي لبنان 35.2%. أما بالنسبة إلى منصات مواقع التواصل الاجتماعي التي تعرّضت فيها النساء في الدول العربية لهذا النوع من العنف، فحصد "فيسبوك" النسبة العليا (43%)، يليه "إنستغرام" بنسبة 16%، و"واتساب" بنسبة 11%.
ولا تقتصر الإساءة عبر مواقع التواصل الاجتماعي على النساء الراشدات فحسب، بل تتعرض الفتيات والشابات أيضًا للمضايقات. فقد أفاد تقرير نُشر في العام 2020، لمنظمة Plan International التي تعمل في نحو 75 بلدًا، بأن أكثر من 50% من الفتيات والشابات المشمولات في الدراسة وهن من 31 دولة حول العالم (كندا، الولايات المتحدة، جمهورية الدومينيكان، السلفادور، كولومبيا، الإكوادور، بيرو، البرازيل، شيلي، النرويج، هولندا، ألمانيا، إسبانيا، غينيا، غانا، بنين، نيجيريا، السودان، جنوب السودان، كينيا، تنزانيا، ملاوي، زامبيا، الهند، نيبال، مينمار، تايلاند، اليابان، الفلبين، إندونيسيا، أستراليا) تعرّضن للمضايقات والإساءة عبر الإنترنت. وتعكس هذه الأرقام واقعًا إلكترونيًا تنعدم فيه الحماية للنساء حول العالم. وفي حين ينبغي على مواقع التواصل الاجتماعي السعي لمكافحة هذه الظواهر، أظهر تحليل لـ"منظمة العفو الدولية" صدر في العام 2020 وشمل بلدانًا عدّة منها الأرجنتين والهند وبريطانيا والولايات المتحدة، أن موقع "تويتر"، على سبيل المثال، ما زال يتقاعس عن اتخاذ ما يكفي من إجراءات لحماية النساء من العنف والإساءة عبر الإنترنت، برغم وعود متكررة بأن يفعل ذلك. وتؤكد شركة Meta ("فيسبوك")، المالكة أيضًا لموقع "انستغرام"، أنها تأخذ دورها على محمل الجد "لمنع إساءة استخدام" المنصة، وأنها لا تسمح بالخطاب الذي يحض على الكراهية على أساس العرق والعجز والانتماء الديني والجنس وغيرها. ولكن في العام 2021، وجد تحقيق لـBBC Panorama أن خوارزميات "فيسبوك" تروّج بنشاط لمحتوى معادٍ للنساء لدى بعض المستخدمين. وبيّن تقرير لمركز مكافحة الكراهية الرقميّة (CCDH) نُشر مطلع نيسان الحالي وشمل حسابات خمس نساء معروفات على "إنستغرام" بمجموع متابعين بلغ 4.8 ملايين شخص، أن "إنستغرام" لم يقم بإزالة 9 من أصل 10 رسائل مباشرة مسيئة تم الإبلاغ عنها. ويرى بركات أن "خطاب الكراهية يتلطّى أحيانًا وراء حرية التعبير، ويصعب رصده أحيانًا أخرى لأنه لا يشكّل خطاب كراهية صريحًا، حتى لو احتوى على تنميط مسيء". ويضيف أنه "في أحيان ثالثة يصعب تتبّع كافة الأخبار التي تسيء إلى النساء، نظرًا إلى دفق المنشورات الهائل على منصات التواصل"، ولكنه يؤكد في الوقت عينه أن "غض الطرف عن بعض الإساءات بهدف إنتاج التفاعل، وبالتالي استقطاب الإعلانات لدرّ المزيد من الأرباح، هو أكثر ما يجب التنبه له ونقده في أداء مواقع التواصل". وبرغم أن خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي تزيد من كثافة النقاش حول مواضيع إشكالية وتسهم في انتشارها، فإن هذا لا ينفي دورها أيضًا كمنبر للمستخدمين للتواصل والتعبير عن آرائهم بحرية. وفي حين أتاحت هذه المنصات على مدى السنوات الماضية مساحة لإعلاء صوت الناشطين والناشطات والحركات الحقوقية والتحررية، فهي لم تقم حتى الآن بما يلزم لمكافحة المحتوى المعادي للنساء. في الختام نسأل؛ هل ستستثمر مواقع التواصل الاجتماعي في تطوير خوارزمياتها للوصول إلى عالم افتراضي "مثالي"، لا يُسمح فيه بوجود محتوىً كهذا؟ وكيف ستوازن بين معايير الاستخدام الضابطة من جهة، والرغبة برفع نسب أرباحها من جهة أخرى؟ وأخيرًا، ما مدى سهولة تسييس هذه المعايير الضابطة، وتحوّلها إلى رقابة على أشكال أخرى من التعبير؟ صحيحٌ أن معرفة الإجابات على هذه الأسئلة رهن السنوات القادمة، إلا أن النقاش بشأنها دائر منذ فترة، وهو مرشّح للازدياد مع تكاثر القضابا التي تثير الرأي العام، وتُستحضر معها أشكال من الخطاب التنميطي أو التمييزي أو المسيء، خصوصًا بحقّ المرأة.