مع أواخر عام 2015 وبداية عام 2016، بدأتُ ألتمس عالم النساء في مناطق سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وأتعرّف عليه، في عمل وثائقي قمت بإعداده وإنتاجه بالشراكة مع الصحافي قاسم حمادي. جعلنا، قاسم وأنا، الكاميرا تتسلّل خلف حجاب المرأة في الرقة المسماة حينها عاصمة "الدولة الإسلامية" في سوريا. كان الطوق محكمًا حول المدينة يومذاك، وحول نسائها اللواتي تحوّلن إلى مجموعات بشرية متّشحة بالسواد، بما يمنع ظهور أيّ أثر أنثوي، في العيون وتقاسيم الوجوه والأجساد. لباسٌ يُقفل على المرأة داخله، ويعكس تحريم تجاوزها جدران المنزل. سبقت هذا التدبير خطوة أولى أكثر جذرية: إقفال مدارس البنات، فتعليم المرأة في نظر منتسبي التنظيم "عورة". امتدت رحلتي في البحث والتعرف إلى عالم نسوي تحت سيطرة "داعش" لسنوات. البحث هو بالتحديد موضوع أعمال وثائقية استمرّيت في إعدادها، وتضمّنت لقاءات مكثفة مع الهاربين من أرض "الخلافة"، رجالًا ونساءً انضموا طوعًا أو بالقوة الى تنظيم "الدولة"، ثم كفروا بالعنف، ونجحوا بالهرب منه نحو أمكنة أكثر أمانًا. "الخوف" كلمة ردّدتها النساء اللواتي التقيت بهن، الناجيات من مناطق سيطرة "داعش". لكنّ عبارة الخوف وحدها لا تفي لتوثيق ذلك الشعور الذي ترزح تحت ثقله كثيرات منهنّ. فالخوف نتاج آليات حكم وأدواته؛ الخوف من الرجل، رجل "داعش"، والخوف من المرأة الأجنبية المنضوية في صفوف التنظيم. في ذلك العالم الذي أُعيد فيه ترسيخ ما يشبه التراتبية الكولونيالي، "الداعشية" الأجنبية هي نسخة من مطاوع متزمّت. تتمتّع بسلطة تتفوّق بها على نساء البلاد. تحمل العصا الغليظة، وتضرب بها خبط عشواء. ليس التعبير مجازيًا هنا، بل توصيف لممارسة كانت دارجة، إذ تكرّرت يوميًا مظاهر نساء متّشحات بالسوّاد، لا يتكلّمن العربية، ينهلن ضربًا على أجساد أخريات في الشوارع العامة إذا ما ظهر طرف من أسفل الساق، أو ارتفع صوت رقيق في الشارع، أو أخطأت امرأة في تنفيذ مهمة أو تلكّأت في القيام بها. أعود لأوراقي على مدى أكثر من ثلاث سنوات. أستجمع حكايات الهاربات من "داعش"، المنفصلات عن التنظيم. تتقاطع رواياتهن في توصيف المنظومة التي تنتج التراتبية في تنظيم العنف وممارسته، حيث المرأة، أيًا كانت جنسيتها، في مرتبة أدنى من الرجل.
في ذاك العالم المفتون بالعنف، استُخدمت فتاتان من شمال لبنان طُعمًا لاستدراج والدهما إلى الرقة وقتله، بحجة أنه لم يلتحق كما أولاده بالتنظيم
مساحات الأمان المفقودة في الحيّز العام، يقابلها القلق والخوف المسيطر على أماكن محكمة الإقفال على النساء. ولكنها أيضًا، بحسب عشرات الروايات، أماكن متاحة لدخول أي "داعشي" في الوقت نفسه، ليدلي بأوامره، وليكدّس أسلحة، وليرمي بثياب "المقاتلين" الوسخة كي تقوم نساء المركز - الحريم - بغسلها. تنظيف ثياب رجال "داعش" وظيفة إجباريّة للنساء. كذلك تحضير الأكل لهم والتدرب على حمل السلاح. وفق الشهادات التي جمعتُها، فإن مراكز العمل تلك أشبه بعالم الـ"حرملك" الذي يغذّي فانتازمات الأدبيات حول الشرق الغارق في جواريه. داخله تنتفي ثقة المرأة بأي امرأة أخرى، وتدور الأحاديث همسًا حتى بعد الانعتاق من السجن. تصير بعض النساء من محظيّات الأمير والمسؤولين في التنظيم، أو يتحوّلن إلى أشياء تُمتلك. بموتِ الزوج تُزوّج المرأة بآخر يختاره لها الأمير، وتصير الأم رهينة الغاضبين على أولادها. وبين سرد كلّ تلك التفاصيل، تستعيد لنا ممرضة أُجبرت على إجهاض امرأة تفاصيلَ تلك العلمية التي أجرتها، مجرّدة من الأدوية وأدوات التمريض، يمزّق قلبها صراخ فتاة مراهقة حملت من رجل امتلكها ثمّ رماها. في ذاك العالم المفتون بالعنف، استُخدمت فتاتان من شمال لبنان طُعمًا لاستدراج والدهما إلى الرقة وقتله، بحجة أنه لم يلتحق كما أولاده بتنظيم "الدولة". هناك سلطة "الداعشي" تعلو على كلمة الآخرين، في نموذج يختلف عن المنظومة الأبوية كما تعرفها مجتمعاتنا، وذاك في إطار إعادة تكوين للسلطة تحت سيطرة "الدولة الإسلامية". هناك يصير الأب في خدمة أوامر جيش الأمير: يؤمَر بجرّ ابنته الى الميدان لتخضع للعقاب، حيث تتعرّض للضرب المبرّح، وتتحول أغلى أمنياته وتوسلاته إلى أن يُترك له السوط ليضرب ابنته ويخلّصها من عنف "الدواعش". هذه القصة رواها سائق سيارة في الرقة، فيما وقف رجل آخر ذليلًا أمام أوامر مساعدي "الأمير"، راح يحصي ضربات السوط المنهال على جسد ابنه وابنته، بعدما ضُبطت الابنة واقفة محجبة ولكن وحيدة في باحة بيتها. هذا جزء من حكايات نساء في عالم الرّقة. لكنه أيضًا جزء من سيرة عالم تائه، مرتبك، تحكمه الشدّة وتبرز إمكانيات الهروب عبر أصغر المنافذ فيه، كما لو كانت خلاصًا مبينًا، حتى لو تمثّل الهروب ذاك بالانضواء في صفوف جند الخلافة. هو عالم مرتبك إذًا، عاجز عن "استحضار" الصورة والزمن الماضيين سوى على شاكلة مُتخيّل متطرف إسلاموي. بين التجربة الأولى للتصوير من خلف ستار حجاب مُحكم يُغطي المرأة كاملة، والقصة الأخيرة لممرضة أصرّت على أن تُصوّر مكشوفة الوجه، كردّ فعل على القمع الذي رزحت تحته لأكثر من عام، وبمراجعة الشهادات التي جمعناها خلال الوثائقيات، يمكن التفكير بأسئلة من قبيل الأسئلة التالية: كيف يمكن أن تُشفى النساء هؤلاء من العنف الذي مورس ضدّهن؟ وكيف يمكن التقدم في مناقشة قضايا النساء العصريّة في مواجهة الجروح التي ما زالت مفتوحة في ذاكرتهن؟