تختم الزميلة المكسيكية شرحها عن طقوس يوم الموتى قائلةً: "نحن نفعل ذلك كي لا يموتوا في النسيان". كنتُ ومجموعة من الطلاب نتحلّق حولها في بهو مدرسة اللغات، أمام طاولة تتوسّطها صورة لأوكتابيو باث، وأخرى لفريدا كالو، زجاجة تيكيلا، زجاجة ماء، بخور عطري، ملح، ذرة وحبوب، ورود وقصاصات ذات ألوان منتقاة بعناية لترمز إلى أمور كثيرة مثل الفرح والسلام، وأيضًا الحزن الذي يرافق الفقد مهما احتفينا بزيارة الراحل.
حينها فكّرت بمن لم يغادروا هذا العالم بشكل فيزيائي، لكنهم ماتوا في النسيان فعلًا، خطر لي أن أجمع صورهم والمأكولات والمشروبات والأغنيات التي يحبونها وأضعها أمامي، لكنّني عجزت عن تذكّر تلك التفاصيل التي تخصّهم، وقبضت في الحال على القسوة في أبهى صورها، بينما أتحسّس أكوام الجليد في رأسي، الّتي طمرت تحتها صداقات وقصص حبٍّ بكلّ مرفقاتها. فتحت عينيّ بسرعة قبل أن تخرج لي ذكرى لطيفة على هيئة شبح، ألسنا في النهاية في موسم الهالوين؟
أعدت الأمور إلى نصابها وفكّرت بالأعزّاء الذين غادرت أجسادهم عالمنا، هل أجرؤ مثل المكسيكيين على فتح نافذة بين غرفتي وعالمهم، ودعوتهم لشرب الشّاي وسماع أغنية هادئة؟
لكن الزميلة غفلت عن إخبارنا كيف يمكن للمرء أن يحتمل في كلّ سنة ألم توديع أحبّائه من جديد؟
أضع على الطاولة أمامي: كأس عرق، أغنية لأم كلثوم فلتكن "غلبت أصالح في روحي"، بضعة أبيات لقيس بن الملوّح كتبتها بخطّ يدي، وانتظاري أن يزورني جدّي ويخبرني حكاية جديدة عن مدينتنا.
في بدايات تعلمي اللغة الإسبانية في مدريد، طلب منّا المدرّس أن نخبر زملاءنا أمورًا عن المدن التي أتينا منها، وكان يرفق حديث كلٍّ منّا بعرض صورٍ للمدينة، اختارها محرّك البحث "غوغل". كانت الشوارع الفارهة والكاتدرائيات الضخمة والمتاحف تمرّ على شاشة العرض، إلى أن حان دوري وبدأت البيوت المهدّمة والأحياء المقفرة التي يلفّها دخان أسود تعبر الشاشة بسرعة مع نقرات المدرّس المرتبكة، ومع شعوري بالغضب والقهر والضعف. حاولتُ السيطرة على مشاعري ما أمكن. لا أذكر إن كانت المعلومات التي قلتها عن المدينة صحيحة أم أنني اختلقتها مكترثةً فقط بتصريف الأفعال ورصّ كلمات جديدة من معجمي الفقير حينها، لأنني، مثلًا، لا أعرف ما عدد السكان الّذي يجب أن أذكره، فالمدينة التي أنوي التكلم عنها لم تعد موجودة، حتى محرك البحث "غوغل" يسعى بدأبٍ إلى أن يميتها في النسيان.
حين أستعيد الحياة في بناء العائلة يحضر هدير موتورات المياه كخلفيّة موسيقيّة للأحداث، يقاطعه سعال عمّي معلنًا عن عودته إلى المنزل، لذلك أظلّ أنسى أنّه غادر
قبل مدّة شاهدت وثائقيًا عنوانه 7 Days in Syria 2022 يتكلّم فيه "يوتيوبر" سويدي عن زيارته إلى سوريا. لا شيء جديد عليّ ممّا يراه الشاب، فأنا في النهاية غادرت قبل فترةٍ تعتبر قصيرة نسبيًّا. أعرف نمط الحياة الحاليّ هناك: الحفلات في الشّام القديمة، انقطاع الكهرباء، حبّ الأجانب لتاريخ تدمر ومعلولا، وكم هو شهيّ الطعام في حلب، حتّى ضحكات الأطفال حول الأراجيح أعرفها وأحبّها. كلّو تمام وعادي إلى أن ترجّل الشّاب من السيارة وراح يتمشّى داخل الصّور التي مرّت على شاشة العرض في درس اللغة: جدران منزلقٌ بعضها على بعض داخل مساحات شاسعة من دمار ووحشة لا مثيل لها. يشهق الشاب: "وات ذا فاك"، ثم يردف قائلًا إن ما يراه أسوأ بشكل لا يقاس من توقعاته. رجعت إليّ في الحال مشاعر الغضب والقهر والضعف، وفهمت لماذا كنت أعود من كلّ زيارة إلى بيت أهلي هناك مريضةً، منهكة، وخائفة من الزيارة التالية.
أضع على الطاولة أمامي صوت ياسر المظلوم (منشد حمص الأوّل)، وعلم فريق الكرامة، ثمّ أفكر لبرهةٍ أن المدينة ربّما كانت تشجّع فريقيها بالتساوي، فأضع القميص الأحمر لفريق الوثبة، اللّهجة المحبّية، نكتةً لطيفة، وأعواد من نبات الآس.
كنت في طريقي اليوميّ نحو عملي في المتحف أرى الأرصفة قرب السّاعة القديمة مفروشة بالآس، والنّسوة يتأبّطن باقات منها ويمضين نحو المقابر لزيارة أحبّتهم. حتّى الموت في تلك الأيام كان أقلّ قسوةً، وكان لون الحزن أخضر.
"نحن قوم مخلّدون وإن كنّا خلقنا لكي نموت غراما" يقول المنشد، وقالت الستّ مرّات، وكنت في تلك الأيام أصدّقهما وأبكي.
ماذا نفعل أكثر كي تزورنا المدن التي غادرت؟
...
بعد فترة قصيرة، تحلّ الذكرى السّنوية الأولى لرحيل عمّي. عمّي الّذي لطالما كان موفور الصّحة، ومعنيًّا بالحفاظ على تلك الصّحة بكلّ الوسائل المتاحة من أغذية مضمونة المصدر، خفيفة الدّسم، وبمجابهة يوميّاته بأعصاب هادئة وابتسامة لا تفارق وجهه. لكنّه، وفي الفترة التي تضاء فيها أشجار الميلاد وتُعلَّق الزينة رحلَ بلحظة واحدة، بينما هو بكامل صحّته المعهودة يلعب الورق.
حين أستعيد الحياة في بناء العائلة يحضر هدير موتورات المياه كخلفيّة موسيقيّة للأحداث، يقاطعه سعال عمّي معلنًا عن عودته إلى المنزل. عمّي الموجود دائمًا، الذي يعود دائمًا، هو وسعاله وابتسامته ومحبته للعائلة وبيت العائلة. لذا أظلّ أنسى أنّه غادر، وحين أفطن إلى تلك الحقيقة الموجعة، أجدني أودّعه من جديد، وكأنني تلقّيت الخبر للتوّ.
أضع على الطاولة أمامي عددًا من مجلة "العربي" الكويتية من تسعينيات القرن الماضي، تقاسيم عود عبادي الجوهر (لست واثقةً من أنه المفضل لديه، لكنّني أذكر بشكل واضحٍ أنّني تعرّفت على أغنياته لأن عمّي امتدحه أمامي مرّة)، مباراة نهائي مونديال 2002، كأس متّة، ولمّة العائلة.
...
كتبتُ كثيرًا عن صديقتي التي رحلت في حادث سير داخل دمشق سنة 2013، وأظنّني سأظلّ أفعل، أجعلها ترافقني من كتابٍ إلى آخر، وكأنّني أحاول أن أبعثها بالكلمات، على حدّ تعبير أحد أبطال بول أوستر.
قبل أيام قليلة مرّت ذكرى ميلادها، إذًا سأضع على الطاولة أمامي قالب حلوى، فستانًا أحمر، خواتم فضّة من التّكية السليمانية، رقصة فالس، وساحة الدّوامنة.
صديقتي وأنا نتشارك الاسم ذاته، ولدنا وكبرنا في المدينة ذاتها، بدأت حياتنا المهنيّة من المكان ذاته، أحببنا الصّديقة ذاتها، وغادرنا البلد ذاته بطريقتين مختلفتين.
"مجروح وضامم جناحه على الجراح اللّي فيه"
...
ماذا نفعل كي تزورنا الحياةُ التي غادرت؟