ثمة اهتمام عالمي متزايد بالإضاءة على أسباب التغيرات المناخية والآثار الناجمة عنها. ويترافق هذا الاهتمام مع بذل جهود للتوعية بأهمية الاستخدامات البشرية الصديقة للبيئة.
بدأ الحديث عن التغيرات المناخية في الغرب في ثمانينيات القرن الماضي، علمًا بأن الظواهر لم تكن ملحوظة على نطاقٍ واسع حينذاك. لكن مع بداية الألفية الثالثة، أصبحت مؤشرات التغير المناخي وتأثيراتها أكثر وضوحًا. يستدعي هذا سؤالًا حول مدى اهتمامات السوريين بالتغيرات المناخية، وما إذا كان ثمة اهتمام بانعكاساتها الصحية.
مصطلحات ومفاهيم
اعتاد السوريون خلال الأعوام الأخيرة أن يقولوا إنَ الطقس بات "سيئًا" و"متقلبًا" أكثر من ذي قبل، وإنه بات يؤثّر سلبًا على البشر والزراعة والمياه. ولم ينطوِ كلام من هذا النوع على تمييز بين "الطقس" و"المناخ". وحول التمييز بين الاثنين، يقول شادي جاويش، رئيس "مركز التنبؤ" في المديرية العامة للأرصاد الجوية، إن "الطقس يشير إلى الظواهر الجوية الفعلية التي نشهدها الآن، والتغيرات المتوقعة خلال الأيام القليلة القادمة من درجات الحرارة والهطولات المطرية، أما المناخ فهو متوسط الطقس المتوقع لفترة طويلة في منطقة ما".
في المقابل، يوضح المهندس أديب الأسطى، وهو مستشار بيئي في منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية، أن تغير المناخ هو تغير طويل الأجل في أنماط الطقس المعتادة، ودرجات الحرارة، وهطول الأمطار، وأنماط الرياح، والظواهر الأخرى المرتبطة بالطقس. ويشير الأسطى إلى وجود "تغيرات يمكن وصفها بالطبيعية كتلك التي تنجم عن تغيرات الدورة الشمسية، فيما يرجع بعضها الآخر - بشكل مباشر أو غير مباشر - إلى النشاطات البشرية التي تحدث تغييرًا في تكوين الغلاف الجوي للأرض".
أما لجهة الفوارق بين التلوث والتغير المناخي، فيوضح الأسطى أن "التغير المناخي ظاهرة عالمية تؤثر على الكرة الأرضية بأكملها، بينما التلوث يعني إدخال ملوثات ذات طبيعة كيميائية عضوية أو غير عضوية إلى البيئة الطبيعية لمكان ما، بحيث تكون آثاره ضارة على تلك البيئة ومحيطها".
ويشير الأسطى إلى جملة عوامل أخرى تسهم في تغير المناخ، وعلى رأسها الأنشطة البشرية التي تؤثر على التوازن الدقيق للبيئة بشكل عام والمناخ بشكل خاص، والاستهلاك المفرط للطاقة بغرض تلبية الاحتياجات الصناعية والتنموية، والنمط الاستهلاكي لحياة الأفراد الذي يزيد الطلب على المنتجات والخدمات ويتناسب طردًا مع زيادة الطلب على الطاقة، وكذلك مع تناقص مساحات الغابات والمسطحات الخضراء.
2018 الأعلى حرارة سوريًا
تؤكد الدراسات والأبحاث أن التغيرات المناخية ظاهرة تراكمية. يعني ذلك أن التغيرات التي نشهدها اليوم ناتجة من تأثيرات تراكمية تعود بدايتها إلى القرن التاسع عشر، مع بدء استخدام الوقود الأحفوري. ويشرح الأسطى أنه "لا يمكن عزل التغيرات المناخية في سوريا عن إطارها العالمي، فالرياح السطحية وحركتها، والتيارات العالية، وانخفاض درجات الحرارة أو ارتفاعها بشكلٍ كبير، ظواهر لا تمكن دراستها على المستوى الوطني أو حتى الإقليمي، فالأسباب التي تؤدي إلى تلك الظواهر هي الحاصل الجمعي لتأثير جميع دول العالم."
في المقابل، يوضح المتنبئ جاويش أن سوريا "شهدت حالات جوية متطرفة ناجمة عن سلسلة من التغيرات المناخية، بينها وصول كتل هوائية باردة في غير موعدها، ما أدى إلى انخفاض درجات الحرارة بشكل كبير خلال أوقات قصيرة، بالإضافة إلى كتل هوائية حارة خلال فصل الصيف. كما ارتفع معدل درجات الحرارة خلال العقود الثلاثة الأخيرة بأكثر من 1.14 درجة مئوية، وهو ارتفاع كبير، وقد بلغ هذا الارتفاع 1.54 درجة مئوية سنة 2018".
تلوث الهواء مسبب رئيس لحالات الوفاة المبكرة حول العالم، بحسب دراسة نشرها "البنك الدولي"
الحرب والتلوث والمناخ
هل يوجد هواء نقي اليوم في سوريا؟ وما تأثير ذلك على المناخ؟ في العام 2019، "حلت سوريا في المرتبة 18 بين أكثر الدول تلوثًا في العالم من بين 92 دولة شملها تصنيف لـ"منظمة الصحة العالمية"، إذ بلغ تركيز"الجسيمات الدقيقة / PM2.5" ثلاثة أضعاف مستوى التعرض الموصى به من المنظمة. ومن غير الواضح ما إذا كانت هذه النسبة تأخذ في الاعتبار مؤثرات الحرب، فبنظرة على مستويات تعرض السوريين إلى هذه الجسيمات، وفق بيانات "البنك الدولي" المنقولة عن "منظمة الصحة العالمية"، نجد أنها لم تتغير كثيرًا بين عامي 2010 و2017، بل تراوحت بين 43 و44%.
حتى اليوم، لم تُنشر أي بيانات رسمية في سوريا تقدم نسبًا واضحة حول دور الحرب في التلوث، أو في الإدخالات البشرية المسببة للتغير المناخي. ويقول المتنبئ الجوي شادي جاويش إن أوضحَ تأثير للحرب على المناخ تمثل بتقليص المساحات الخضراء، وبالتالي نقص الغطاء النباتي مقابل زيادة الأراضي القاحلة. ويكمل المهندس أديب الأسطى الفكرة شارحًا أن حرائق الغابات التي حصلت في سوريا خلال الأعوام الأخيرة، هي من أكبر الكوارث التي أخلت بالتوازن البيئي الهش أساسًا بسبب الحرب. ويتفق الباحثان على أن العودة إلى الأساليب البدائية في تكرير المشتقات النفطية هي كارثة بيئية ومناخية بحد ذاتها أيضًا.
ماذا عن صحتنا؟
تشير دراسة نشرها البنك الدولي عام 2022 إلى أن "تلوث الهواء والتغير المناخي وجهان لعملة واحدة، ولكن التعامل معهما يجري كل على حدة". وتخلص الدراسة إلى أن تلوث الهواء مسبب رئيس لحالات الوفاة المبكرة، (6.4 ملايين حالة وفاة سنويًّا حول العالم)، وتوضح أن من أهم الأمراض التي يسببها تلوث الهواء هي انسداد شرايين القلب، والسكتة الدماغية، وسرطان الرئة، ومرض الانسداد الرئوي المزمن، والالتهاب الرئوي، والنوع الثاني من مرض السكري، واضطرابات حديثي الولادة.
وتلحظ دراسات متفرقة علاقة بين أنواع من السرطان وبعض الظواهر الطقسية، برغم تناقض نتائج الدراسات أحيانًا. على سبيل المثال، تخلص دراسة أميركية إلى وجود علاقة بين سرطانات الثدي، والمبيض، والرئة، وبين والمناطق الباردة الغزيرة الأمطار، لأن الأمطار تتفاعل مع عناصر في التربة، "وبعد تحولات طبيعية عديدة، تتحول [هذه العناصر] إلى حمض النيتروز الذي يُطلق في الغلاف الجوي، ويُعد مادة مُسرطنة". كما أن "عدم التعرض لأشعة الشمس كفاية في هذه المناطق يؤدي إلى نقص الفيتامين دال، وبالتالي الإصابة ببعض سرطانات الجلد". كذلك تفيد دراسات ومسوحات ألمانية بارتفاع حالات الإصابة بسرطان الجلد في ألمانيا خلال السنوات العشر الأخيرة على نحو كبير، وتشير إلى أن "التغير المناخي هو السبب، لأن زيادة الأيام المشمسة تعني زيادة التعرض للأشعة فوق البنفسجية". في المقابل، لا يلحظ "المركز الألماني لأبحاث السرطان" علاقة بين ارتفاع درجات الحرارة وارتفاع حالات الإصابة بالسرطان.
أما سوريًا، فلا تتوافر دراسات عن التغير المناخي عمومًا، ولا عن آثاره على صحة الإنسان. كما تكاد الإحصاءات والبيانات والدراسات الصحية تنعدم، فيما تشير ملاحظات بعض الأطباء والسكان إلى تزايد لافت في حالات الإصابة بالسرطان في السنوات الأخيرة. ويقول طبيب في إحدى قرى ريف حمص الشمالي الغربي (رفض ذكر اسمه)، إنه استقبل خلال العام الماضي عشر إصابات بأنواع مختلفة من السرطان في قرية يبلغ عدد سكانها 8000 نسمة، مشددًا على أن "هذا الرقم يستحق إجراء دراسات في المنطقة عمومًا".
وفي سياق تأثير التغيرات المناخية على صحة الإنسان، يقول الدكتور طارق العبد، وهو اختصاصي في معالجة الأورام إن "التغيرات المناخية تؤثر على صحة الانسان، خصوصًا في الأماكن التي لا تحدث فيها موجات حرارة عالية. ففي السنتين الماضيتين، سجلت دول أوربية ارتفاعات قياسية في درجات الحرارة لم تحدث سابقًا، فنتجت منها وفيات، خصوصًا في الأعمار المتقدمة، وتعرضت فئات أخرى في المجتمع لحالات تجفاف. كذلك لا يمكننا إغفال مسألة جفاف العديد من المسطحات المائية وصعوبة الحصول على مصادر مياه نظيفة أو الاعتماد على مياه المستنقعات، ما يعني تغيرات صحية متعددة، وربما كان انتشار إصابات الكوليرا في سوريا والعراق أحد ظواهرها".
ويوضح العبد أن الأمراض الفيروسية مرتبطة بشدة بالتغيرات المناخية، خصوصًا في البلاد التي تعاني من الجفاف ونقص موارد المياه، ويطرح السودان مثالًا، حيث تسجل حالات متكررة من حمى الضنك الفيروسية والملاريا، وحيث تتوقع منظمة الصحة العالمية أن يسبب تغير المناخ بين عامي 2030 و2050، نحو 250,000 وفاة كل عام، بسبب سوء التغذية والملاريا والإسهال والإجهاد الحراري".
وحول ارتفاع نسب الإصابة بالسرطان وعلاقته بتغيرات المناخ، يقول العبد "لا دراسات حاسمة تربط السرطان بالتغير المناخي، لكن ما هو محسوم أن أورامًا كسرطان الرئة مرتبط بشدة بالتلوث الهوائي، وفي حين لا تظهر نتائج التلوث في غضون عام أو اثنين بالضرورة، فإن تراكمه على المدى الطويل يشكل تحديًا كبيرًا للقطاع الصحي".
ويتقاطع كلام العبد مع رأي الدكتورة مها مناشي، وهي اختصاصية في أورام الدم، ورئيسة "الرابطة السورية لأطباء الأورام"، إذ ترى أن للتلوث دورًا في زيادة نسب السرطان عمومًا. وتوضح مناشي أن «"السجل الوطني للتحكم بالسرطان" في سوريا قيد الإنجاز، علمًا بأنه لا توجد إحصاءات دقيقة مُحدّثة عن نسب الإصابات بالسرطانات، إذ إن أحدثها يعود إلى 2020، حين صرح مدير الأمراض السارية في وزارة الصحة قائلًا إنّ "عدد المصابين بالسرطان عام 2020 بلغ 17 ألفًا و300 مريض"، وأنّ "معدّل الإصابة بالسرطان بلغ 90 حالة لكلّ 100 ألف من السكان"، وهو عدد قريب من الأرقام المسجّلة في دول الجوار، فيما تُسجَّل وفاة واحدة بسبب السرطان من بين كلّ ستّ وفيات في سوريا. وفي أيلول 2018، قالت الوكالة الدولية لبحوث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية، إن "سوريا تحتل المركز الخامس من بين دول غرب آسيا في عدد الإصابات بأمراض السرطان، قياسًا إلى عدد سكانها".