مثل كثير من الأمور التي حصلت في حياتي بلا تخطيط مسبق، اختارتني كلية الهندسة المدنية لأكون واحدة من طلابها لدورة 2001/2002، أي قبل 22 سنة تقريبًا. الآن أنتبه إلى الرقم 22 وأفكر بأنه ينفع لكي يكون عمر صبيّة على وشك أن تتخرّج من الجامعة، وتزيد من عدد المهندسات في العالم.
في واحدة من المحاضرات الأولى التي اختبرتُ فيها مدرّجات الجامعة، ووضع الكحل في العيون قبل دخول الصّفوف، وشكل الطلاب من دون ملابس موحّدة، وحمل مسطرة الـ T حتى لو لم تكن لها أي فائدة عدا إخبار المارّة باختصاصك، في واحدة من تلك المحاضرات الأولى بدأ الدكتور المدرِّس يحثّنا على أن نكون فخورين بمهنتنا المستقبلية، محاولًا الإضاءة على عظمة هذه المهنة، ثم انتقل نحو إبراز تفوّقها على مهنة الطب البشري قائلًا: "الطبيب لو أخطأ فسيقتل إنسانًا واحدًا، بينما المهندس سيقتل مئة إنسان".
لم أكتب جملته مرفقة بعبارة "كما تسعفني ذاكرتي"، لأنها في حقيقة الأمر محفورة داخل رأسي منذ ذلك اليوم. تلك الجملة التي عمرها الآن 22 سنة كانت كفيلة بأن تبني حاجزًا نفسيًّا عاليًا بيني وبين المهنة التي اختارتني كي أمشي نحوها.
من ضمن المنشورات المتداولة هذه الأيام تمرّ صور تشرح متى تكون الشقوق في العناصر الإنشائية للبناء خطيرة. أحاول أن أرجع بذاكرتي إلى الوراء وأفتح صفحة الكتاب التي تحوي صورًا مشابهة. أذكر أنني أحببت ذلك الدّرس، ولكن الآن في هذه اللحظة لا أستطيع أن أقول شيئًا بهذا الخصوص. وحتّى عمليّة النقر من أجل نشر مثل هذه الصور أنا أضعف بكثير من القيام بها، فصوت الدّكتور يرنّ في ذهني: مئة إنسان، مئة إنسان.. ومن ثم تتراءى أمامي نظرة الظفَر التي ختم فيها.
أفتح كشف علاماتي في الجامعة. في السنة الأولى مادة "الجيولوجيا الهندسية: ستون فقط". أذكر جيدًا الدروس العملية لهذه المادة، كانت ممتعة إلى حدّ ما، ندخل إلى مختبر ونرى أشكال الأحجار المختلفة الموجودة في الطبيعة ونختبر مواصفاتها. لازمني حبّ الأحجار حتّى اليوم، اعتدت في السنوات الأخيرة أن أهدي أحبّتي وأصدقائي أحجارًا كريمة تجلب الحظّ لهم، من بعدما أهدتني صديقتي زين حجر زبرجد لأعلّقه في سلسلة تتدلّى من عنقي، ثم عادت وأهدتني حجر عقيق كبير جلبته معها من اليمن، حين كانت هناك تشارك في أعمال إغاثة. وضعتُ الحجر في خاتم. لم تكن لديّ مشاعر واضحة تجاه الصفائح التكتونية، أو مواقف من حركتها. أقصد قبل يوم الاثنين الماضي. ولكن، لحظة، لم أبحث سابقًا عن معلومة تقول إنّ الزلازل تلعب دورًا في إخراج بعض الأحجار الكريمة.
ستّون فقط. ليست علامة بالغة السوء، ولا هي علامة ممتازة. هي تشبه ما اعتدت أن أجيب به عن أحوالي حين يسألني أحد ما:
- كيفك؟
- ماشي الحال.
من الطّريف أن أنوّع في المستقبل وأجيب: ستون فقط. لكن حتى السخرية لا أقوى عليها في هذه الأيام.
عندي إحساس دائم بأن حقوقي في الحزن، أو في التعبير عن الحزن، سُلبَت منّي لأنّني بعيدة عن الكارثة
تخبرني زين بأنها لم تستطع البقاء في دمشق، وهي في الطريق إلى حلب. أبكي ولا أخبرها بأن جملتها أبكتني، من ثم ليس غريبًا أن يبكي الواحد في هذه الأيام.
في الطريق إلى مدرسة اللغات أقرأ على "فيسبوك" تعزية بامرأة وأطفالها الخمسة. أقف على طرف الشارع محاولة السيطرة على البكاء وتهدئة أنفاسي التي تسارعت حتى ظننت أنني سأختنق. لا أعرف المرأة ولا أطفالها بشكل شخصي، هي أخت فلان. حتى فلان بالكاد أعرفه. لا أجد كلمات كي أعزيه. اللغة تخذل بالطبع، يا إلهي كم تخذل.
طيّب، لا أريد أن يروني في المدرسة أبكي. صحيح، ليس غريبًا أن يبكي الواحد في هذه الأيام، لكن آخر ما أتمناه أن يربّت أحد على كتفي، فأنا ماشي الحال، ستون فقط، لكن انتبه؛ كان حدّ النجاح في تلك الأيام 48.
أدخل إلى الحصّة وأصيغ جملًا متقنة مستخدمة أزمنة مختلفة للمستقبل. تشير المدرّسة إلى زمن يُستخدم للمستقبل، وتنصحنا بالانتباه في حال استخدمه أحد ليعِدنا بشيء ما، وعلينا أن نتوقع أنه لن يفي بوعده. أفتح موبايلي لأجد رسالة من شركة الاتصالات: "تركيا وسوريا بحاجتك، اكتب تركيا برسالة نصية وستذهب اليوروهات للتبرّع". هل استخدموا زمن الوعود الكاذبة للتوّ؟ ثمّ إن كانت سوريا بحاجتي أيضًا، لماذا لا أكتب سوريا في الرسالة النصية؟ اللغة فاضحة أكثر مما نتوقّع بكثير.
كلّ ما يحصل اليوم سوف يصير كتبًا وأفلامًا في المستقبل. في العربية ليست لدينا أزمنة محدّدة للكذب، نستطيع أن نكذب باستخدام ما نشاء من أفعال. لذلك أنت حرّ في أن تصدقني أو لا، أو الأصحّ: أنا وإياك حرّان في أن "نصدقاني" أو لا، فلننتظر ونرَ. جرّبت مرة أن أشرح لأحد الأصدقاء الأجانب المُثنّى بالعربية، أدركت حينها أنني أحبّ تدريس العربية للآخرين، خصوصًا لغير الناطقين بها، وتمنيت لو أن كلية الأدب العربي هي من اختارتني قبل 22 سنة. فبكلّ الأحوال لا أجدني إلاّ داخل التراكيب اللغوية، أبحث فيها عن الكذب والجمال والموت.
زين أيضًا اختارتها كلّية الصيدلة، لكنها لاحقًا اختارت السينما. شاهدتُ قبل فترة فيلمها الوثائقي القصير "الطريق إلى البيت" الذي يحكي عن علاقة شابّة ببيتها في دمشق. بعض مشاهد الفيلم أشعرتني بغضب شديد، أخبرت زين بأن هذا يُحسَب لصالح الفيلم. أفكّر الآن بالأفلام التي تدور داخل رأسها بينما تتنقّل بين الأبنية الهابطة ومراكز الإيواء في حلب. أم ما الذي يدور؟ لا أعرف إن كان من حقّي أن أسأل. لكن كلّ ما يحصل اليوم سوف يصير كتبًا وأفلامًا في المستقبل.
أعود إلى كشف العلامات وأبحث عن أعلى علامة نلتها في سنوات الدراسة الخمس، لأجد أنها "مقاومة المواد: 83" ومقاومة المواد بحسب تعريف المعجم الموحَّد لمصطلحات الهندسة المدنية: "حساب الإجهادات الناتجة من الشد أو الضغط أو القص أو الانعطاف أو الفتل أو أي من تراكباتها، وتتضمن دراسة انهيار المواد والهبوطات".
صحيح أن مسمّاي الوظيفي كان لسنوات طويلة "مهندسة مدنية"، لكنني عند الاضطرار دأبت على أن أضع في خانة الوظيفة: خرّيجة هندسة مدنية. لم أتوظف يومًا في شركة إنشائية، لكن شاءت الظروف مرة أن أزجّ بعد التخرج بقليل في الإشراف على مشروع إنشائي صغير. وفي يوم صبّ الأعمدة صادف أنني كنت الوحيدة الموجودة من بين مهندسي الإشراف المدنيين. دخلت مكتب المدير وأنا أبكي، مع أنه في تلك الأيام كان غريبًا أن يبكي الواحد، لكنني لم أكن مؤهلة لتحمل مثل تلك المسؤولية. حلًّت المسألة وقتها بأن يرافقني ويشرف هو، ويوقّع على أن العمل صار بحضوره.
العودة إلى البيت - رغم أنها أكثر الأفعال اعتيادية - تبقى أجمل ما يمكن أن يفعله المرء على الإطلاق
يدور داخل رأسي ما رأيته فجرًا من أخبار بنايات وقعت في حلب، أنطاكيا، إدلب، جبلة، عفرين، اللاذقية.. خطأ واحد يعني مئة إنسان، زلزال بقوة 7.4 درجات على مقياس ريختر، درجة واحدة على مقياس ريختر تعني زيادة هائلة في التدمير. إذًا الخطآن كم إنسانًا؟ مئتان؟ ألف؟ كم؟ لا أريد أن أبكي، ليس غريبًا أن يبكي الواحد في هذه الأيام، لكن لا لا لا أريد.. طيب طيب هل نسيت أحدًا من الموجودين هناك ولم أتفقّده؟
قبل سنتين حصلت مشكلة تخصّ اشتراكي مع شركة الاتصالات، فطلبت عقدي مع الشركة لأجد أن جنسيتي المدونة فيه: أفغانستان. حاولت أن أتخيل المنطق الذي احتكم إليه الموظف الذي كانت وثائقي بين يديه. وصل إلى خانة الجنسية فوجد أن حرف الـ S بعيدٌ جدًا، أوكي ها هي أفغانستان أقرب، يعني لا فرق، المهمّ حيث يموت الناس. والله والله اللغة فاضحة، وأيضًا انظر كيف أن تغيير كلمة واحدة قد يقول لك بوضوح ما الذي يراه الآخر فيك. "تركيا وسوريا بحاجتك، اكتب تركيا برسالة نصية... إلخ".
في بعض متاجر الأحجار الكريمة في الهند غرف مخصصة لتنجيم مجّاني أو بأسعار رمزية للزبائن. قبل سنوات دخلت واحدًا منها في جايبور، ولم أكن ساذجةً بالقدر الكافي كي لا أفهم أن العملية مجرد خداع لكي ينقذني خاتمٌ أو قلادة من قدري الّذي ثمنه 500 روبية. لكن الآن أذكر بوضوح جملة قالها ذلك المنجِّم ولم أعرها أي اهتمام حينها: "في تلك المنطقة حيث تركيا وسوريا يوجد سحر أسود، عليك أن تحذري" الآن أيضًا لا أريد أن أعيرها أيّ اهتمام، فقد صارت لديّ إجابة عن سؤالٍ طرحه عليّ في آخر الجلسة: "لماذا أنتِ حزينة؟"
صباح اليوم تحدثنا أنا وزين هاتفيًّا. وجدت نفسي أبكي أمامها، ليس غريبًا أن يبكي الواحد في هذه الأيام. لكن عندي إحساس دائم بأن حقوقي في الحزن، أو في التعبير عن الحزن قد سُلبَت منّي لأنّني بعيدة عن الكارثة، وهذا الّذي أفعله حرام، عيب...
منذ أيام تمرّ أمامي دعوات تطلب من المهندسين تقييم أضرار البيوت المتصدعة لكي يستطيع الناس العودة إليها. منذ أيام وأنا أفكر: لماذا لم أستجب لتلك المهنة التي اختارتني؟
"العودة إلى البيت - رغم أنها أكثر الأفعال اعتيادية - تبقى أجمل ما يمكن أن يفعله المرء على الإطلاق". كتبت هذه الجملة مرّة، ثمّ انتشرت إلى حدّ لم أعد أشعر بأنّها تخصني. أفكّر بأن أكثر الأفعال اعتيادية بالنسبة للبعض، هي أحلام صعبة التحقق بالنسبة للبعض الآخر، البعض الآخر الّذي أنتمي إليه.
"أنا الذي لم أُقتَل حتى الآن
في الحروب أو الزلازل أو حوادث الطرق
ماذا أفعل بحياتي؟*"
*محمد الماغوط- كتاب" الفرح ليس مهنتي"