"ما بدّي إرجع ..
ما بدّي إرجع ولو حتى زيارة على سوريا وعارفة إنه ما إلي بيت هون إرجع عليه.
رح ضلّ خايفة إني إعلق هنيك"
هون/هنا = بيروت
هنيك/هناك = سوريا
انتهى المونولوج بتلك الجمل. تقطر مع نهاية كل كلمة فيها دموع تُغرق وجهي من دون أن تلطّخه بالسواد. كانت المرة الأولى التي أستخدم فيها ماركة "MAYBELLINE" منذ سنوات، بعد أن صعّبت العقوبات الاقتصادية وصول العلامات التجارية العالمية إلى سوريا ."رفاهية المعيشة بلبنان" قلت لنفسي أثناء غسل وجهي، وابتسمت في المرآة بعد أن أعطتني الماسكارا التأكيد الذي احتجته، بأنني اتخذت القرار الصحيح بالانتقال إلى هنا.
قبل سفري، استهجن الأصدقاء البيروتيين فكرة انتقالي للعيش في مدينة تنهار، ويحاول غالبية سكانها مغادرتها. لم أحاجج، بل تبعت، بعد سنوات من الخوف والتردد، خطى السوريين الهاربين من دون حريّة اختيار مدينة مناسبة للعيش. كان الهرب هو الهدف، لا الوجهة. فحملت حقيبة الظهر وبعض الدولارات وانطلقت إلى بيروت التي أعرفها.
أوديسا البحث عن شقة في بيروت
لم يكُن حالي كحال اللاجئين السوريين من قبلي، برغم نقاط التشابه الكثيرة. امتلكت امتيازات عديدة جعلت من رحلتي أقل ألمًا، كحيازتي المال وأوراقي الثبوتية الكاملة مع الشهادات العلمية والتدريبية وقائمة طويلة من المعارف والأصدقاء في لبنان.
في الأول من آذار/مارس 2022، وصلتُ إلى بيروت بعد سنتين من الانقطاع عنها. وجدتُ المدينة التي كانت معشوقتي الأولى أيام الزيارات السياحية إليها، قد تحوّلت إلى آلة فتّاكة بالبشر إثر الأزمة الاقتصادية وانفجار 4 آب. فبدأت رومانسية بيروت تتلاشى بالنسبة لي مع بداية محاولات البحث عن شقة.
"بلبنان، رح تبقي حاسة حالك عايشة بخيمة حتى لو سكنتي بقصر"، تصف لي صديقتي السورية شعورها بانعدام الأمان والاستقرار الذي يرافق السوريين الذين يعيشون في البلاد، فقد تنقّلت منذ وصولها من سوريا من خمس سنوات بين 11 منزلًا، كان سبعة منهم في السنة الأخيرة فقط. تعدّدت الأسباب بين رفع الإيجار أو دولرته أو التعرض لموقف عنصري. كان السبب الأخير يخصّنا نحن "الأجانب المهاجرين" وحدنا، أما الأسباب الأخرى فشاركنا فيها أشقاؤنا اللبنانيون.
عاينت بهلع فتحة الفستان التي خَفّّفت من وطأة "سوريّتي" بالنسبة لصاحب الشقة الذي اتّضح مع الوقت أنه متحرّش لعين
استطعت بفضل مساعدة الأصدقاء الوصول إلى شقّة مناسبة مطلة على مرفأ بيروت. كان بيتًا قديمًا حوّلت آثار انفجار 4 آب رومانسيته المعمارية المفترضة إلى محفّز لذكرى صدمة نفسية (تروما). وشكّلت شرفته التي تلتصق بشرفات الجيران أكبر انتهاك للخصوصية شهِدته في حياتي، على عكس ما يوهمنا به فرج سليمان في أغنيته النوستالجيّة لمدينة حيفا، بشاعرّية "البرندة عالبرندة أقرب من شفّة ع شفّة". على يمين المبنى، يتدلّى صليب حديدي ضخم مثبّت بأسلاك تشدّ الأبنية المتباعدة من شرفاتها، محاولةً أن تجعلها أقرب وأكثر ترابطًا وتشابهًا.
في تلك الفترة، كانت حياتي في بيروت قد بدأت بالتحوّل، كحياة الغالبية، لمحاولات نجاة. فأرفع جسدي بأطراف أصابعي كل صباح لأرى الخط الأزرق في الأفق الذي يمثّل نجاة البحر ونجاح محاولاتي ليوم آخر في هذه المدينة، وأكرّر: "أين نذهب بكل ما رأينا و… سمعنا و… عرفنا؟… أين تذهب المدينة من بحرها؟".
عند وصولي إلى الحيّ، تساءل بعض سكانه عن طائفة تلك الغريبة، لمعرفة ما إذا كانت تتطابق مع معاييره وواجهته الثقافية أم لا. وبسبب تحفظّي عن الإجابة، تخلّوا عن الفضول الأول واستبدلوه بـ"من وين من سوريا؟". أجيب، فيتغيّر لون وجههم، وينحرف مسار نظرهم عني بارتباك. في النهاية، قرّر صاحب المنزل أن يعفي الجميع من هذا الارتباك بطردنا، أنا وصديقي، من المنزل.
في المرة الأولى التي التقيتُ فيها بصاحب هذه الشقة، لم يُبدِ اهتمامًا بطائفتي أو جنسيتّي، ولم يوجّه لي أي أسئلة حولهما، بل انصبَّ جلّ تركيزه على فستاني المشقوق حتى الفخذين، وعندما رفع عينيه نحوي قال: "لولا الهويّة ما كنت صدّقت إنك سوريّة. شكلك ما بيوحي". في الطريق إلى منزل صديقتي حيث كنت أقيم، حاولت إنشاء قائمة مُتخَيّلة عن العناصر الخارجية التي قد تجعل من الشخص يبدو سوريًّا، وعاينت بهلع فتحة الفستان التي خَفّّفت من وطأة "سوريّتي" بالنسبة لصاحب الشقة الذي اتّضح مع الوقت أنه متحرّش لعين.
الأخ من وين؟
اعتمد قاموسي الجغرافي مذ وصلت إلى بيروت على ظروف المكان بدلًا من التسميات الحقيقية للمدن والأماكن، فأصبحت أشير لشمال لبنان بـ"طلوع" ولجنوبه بـ"نزول". ففكرت أني ربما تشرَّبت خلال هذه الفترة ضمائر "الآخر" التي استخدمها من حولي من أصحاب الدكاكين والسماسرة وسائقي التكسي وغيرهم، كهنِّ وهدوكِ التي لن يفهمها من ليس على اطلاع بالطوائف اللبنانية وتوزيع نفوذها السياسي وتاريخ صراعها في الحرب، وبالتأكيد طائفة المشير إلى "هَدِنكِ".
في الشهر الثالث من إقامتي في بيروت، تحتم عليّ البحث عن منزل جديد. وبعد رحلة مضنية وفاشلة من البحث عبر التطبيقات ونواطير الأبنية، لجأت للسماسرة.
- السمسار: سجِّل عندك: سارة خازم. المهنة صحافية. الجنسية سوريّة.
- صاحب الملك: سوريّة؟؟؟
- السمسار: إيه بس كتير مرتّبة.
- صاحب الملك: طيب، والطايفة؟
- السمسار: ما بعرف. هيّي من اللاذقية.
- صاحب الملك: بدك تجبلي عنجَر عالأشرفية؟
- السمسار: بس رفيقها اللي معها مسيحي من حمص.
صاحب الملك: إلغٍ العقد. جبلي هديك اليَمَنيّة اللي بدها تستأجر. هكذا نقل السمسار الذي يساعدنا في البحث عن شقّة جديدة الحديث بتفاصيله، وطمأننا بحماسة إلى أنه سيبحث لنا عن شقة أفضل. كنت جالسة على الأرض بجانب الهاتف الذي يحمله صديقي، أرسم المشهد في رأسي مع كل كلمة يقولها السمسار، حتى وصل الدم إلى عينيّ مع نهاية المشهد، فكانتا على وشك النّزف لا البكاء.
يقولون إنه خوف
بعد مناوشات استمرّت يومين، تدخَّلت فيها أطراف مختلفة لتغيير رأي المالك بدرجة "سوريّتي" غير الواضحة أو الخطرة، ومع الأخذ بالاعتبار الميزانية المتاحة وعدد الأيام المتبقية لي قبل موعد الإخلاء، ذهبنا لتوقيع العقد. بدا مالك الشقة المستقبلية لطيفًا. يملك وجهًا سَمِحًا وقامة ضخمة ييرزها بعناية لتَشيَ بمكانته كمحامٍ. شاهدتهم بيأس يلتقطون صور الدولارات التي دفعتها ويرسلونها لبعضهم على "الواتساب" لحفظ أرقامها. تلك الدّولارات التي جمعتها من كل حدب وصوب لتغطية إيجار بيت صغير على سطوح بناية متهالكة في الأشرفية.
قُبيل خروجنا، وقف صاحب المنزل يلوّح لنا من شرفة شقّته الفاخرة، فابتسم السمسار في وجهه ابتسامة عريضة، قاطعها ليقول لي "شفتِ إنه الزلمة منيح؟ بس كان خايف. حقّه. مش قليل اللي عمله النظام السوري بالأشرفية بالتحديد". لم أستطع الرد. كنتُ أطوف في المكان والزمان مع الوحوش في رأسي، تهمس لي مؤكِّدة "لعنة سوريا لن تنتهي. لعنة سوريا لن تنتهي، وستقتلك يومًا ما إحدى هذه المدن اللئيمة؛ دمشق أو بيروت أو برلين".