كلما نظرتُ في المرآة، لاحظتُ شبهًا غريبًا بيني وبين الفيلسوف الدانماركي سورين كيركغارد، فكلانا ذو وجه مثلثيّ وجبهة عريضة. وبرغم أن عيناه أكثر اتساعًا من عيني، إلا أن لمعة الإيمان فيهما توحِّدنا، ليبقى موضوع كثافة شعره وتموُّجاته مثار خلاف، لأنني كنت مثله حتى سن العشرين، وبعدها بتُّ أمتلك صلعة وجودية تُميُّزني عنه كـ "فرد منفرد" يعيش الواقع السوري بأدق تجليّاته.
أما بالنسبة لألبير كامو، فلست غريبًا عنه أيضًا، ولا نتشارك فقط الجينات العربية، لكننا نُفضِّل التدخين عليها لتنجلي. وكلانا يسعى لجعل منفاه الوجودي ملكوتًا كامل الأركان، سواءٌ بالتمرُّد أو مداورة الألم ما استطعنا. وإن كان لا بد من موتنا، فليكن موتًا سعيدًا. إذ نحوِّل التراجيديا المزمنة في حياتنا إلى مجرد نكتة، وانتهى الأمر. بمعنى أنني أحس بموقف كامو من الوجود يُمثِّلني، وأتشارك معه أيضًا بياض البشرة ونقاء السريرة والشَّراهة للدُّخان، وإن كنت أفضله بلديًا خالصًا وبورق الشام حصرًا.
التقارب مع جان بول سارتر كذلك يدخل في حيِّز وجودي. فكلانا عنيدٌ في سعيه لمقاربة كل ما حولنا، ومحاولة تغطية كل الأحداث التي تدور في محيطنا. ربما لم أصل بعد إلى وضوح موقفه من الحرية والعدالة والأخلاق، لكنني على الطريق ذاتها، وتأسرني سيرة نضاله ورؤيته غير الحيادية لكل شيء "على دروب الحرية" من "الذباب" إلى "نقد العقل الجدلي" وغيرها.
في المقابل، ما زالت علاقتي بفريديريك نيتشه ملتبسة. وربما يعود ذلك إلى حِدِّيته ولؤمه أحيانًا في مقاربة الأمور، وعدم مرونته، برغم أني كسوريّ متجذر أيضًا في تجربة الأسى الإنسانية. أما على صعيد الشكل، فأتوقع أنه لو أتيح لي تربية شاربيّ وتعريضهما، لتَعَاظَمَ الشبه بيننا. لكن القصة أكبر من قصة شوارب وملامح مشتركة، لذا دعوني أحكي لكم قصتي كوجودي سوري معاصر.
أنا، كأحد السوريين الذين يرزحون تحت خط الحياة، لا أملك إلا أن أرشّ على الموت سُكَّر. حتى لو كان من سُكَّر المعونات، أو من ذاك الذي أشتريه بأسعار مضاعفة من السوق السوداء، خصوصًا مع يقيني بأن الحياة لا معنى لها في هذا الجحيم المُسمى بلادًا. لكنني، كوجودي أصيل، أسعى في كل تفصيل من تفاصيل حياته أن أصنع ذاك المعنى. وبموازاة ذلك، أرفض العدمية التي ترى أنه لا هدف من العيش في سوريا الآن، وأيضًا أستنكر العبثية التي تعترف بأن الحياة لا معنى لها، لكنها في الوقت ذاته لا تكترث بمغزى ذلك.
هناك من لجأ إلى أحضان الحبيب كخلاص رومانسي في أربعينية الشتاء، على اعتبار أن ذلك حلّ لم تفرض الحكومة قيودًا عليه حتى الآن
وعلى خطى آرثر شوبنهور، الذي يرى بأن الأساس في الوجود هو الإرادة، فإنني كسوري متجذِّر في سوريته، لم أكتفِ بالإمعان في إرادة الحياة، بل جعلت من نفسي سيزيفًا معاصرًا، يدفع الصخرة إلى أعلى جبل معاناتي، ثم أسبقها قبل أن تصل إلى أسفله. وبِهِمَّةٍ قلَّ نظيرها، أُعيد الكَرَّة. وإلا فما الذي يبرر تحويلي، مع غيري من السوريين، لانتظاراتي المريرة على طوابير الأفران وكوَّات الصرافات الآلية والكازيّات والنافذة الواحدة، إلى ما يُشبه جلسات السَّمَر والتَّسالي والسيرانات، وكأننا نخلق من مأساتنا فرصة للتعارف، وتدوير الأسى، عبر سرديات لا تنتهي، ونُكات، وقهقهات لو وصلت إلى مسامع فريديريك نيتشه لأعاد صياغة نظريته عن إرادة القوة والإنسان السوبرمان، وجعل من السوري عمومًا مثالًا يُحتذى في صراعه وتحقيقه التوازن بين متطلبات الحياة الأساسية ومثالب ولادته في هذا البلد الخانق، الذي بات يزيد في كل دقيقة من أسباب تعاسة قاطنيه، وكأن له ثأرًا مريرًا معهم، فتراه يومًا بعد يوم يُمعِنُ في قسوته وبربريته عليهم.
ولأنّي كسوري عتيد أرفض مع جان بول سارتر ما أسماه الأخير بـ"الحتميّة النفسيّة" في مواجهة حتمية الواقع، الذي يفرض شروطه على البشر، تراني تكيَّفت وفق هواي مع عدم توفُّر مازوت التدفئة، ووضعته ضمن منسياتي المنسية. ورغم استمرار الشوق لرائحته الزكية، والمشهدية الساحرة لنقاطه المنسالة إلى جوف المدفأة فتُشِعّ بلهيبها الأزرق الماتيسي (نسبةً إلى ماتيس)، إلا أنني بقيت رافضًا رفضًا قاطعًا انتظارَ رسالةٍ من تطبيق "وين" وبطاقته الذكية، تُعلمني بإمكانية استلام خمسين لترًا لعامٍ كامل، خصوصًا أنني أعتبر انتظار "فلاديمير" و"أستراغون" لغودو أقل مشقة بألف مرة من ذلك.
لذا، فقد استبدلت، مع كثيرين من شركائي في الوطن، حنيننا المازوتي إلى حنين من نوع آخر، من خلال الاستعانة بمدافئ الحطب لمن استطاع إليها وإلى حَطَبَاتِها سبيلا، أو بنشارة الخشب وقشر اللوز وتمز الزيتون، بحسب المتوافر في منطقتنا أو قريتنا أو مدينتنا، مستفيدين منها ضمن اختراع بسيط لمدفأة بدائية بغية ردع البرد عن مفاصلنا وأعصابنا. وهناك منا من لم تسعفه ظروفه إلا باللجوء إلى أحضان الحبيب تحت لحافين وخمس بطانيات كخلاص رومانسي في أربعينية الشتاء، يزيد من فعاليته أشعار الغزل وتنهيدات الغرام، على اعتبار ذلك حلّ ذكي لم تتمكن المنظومة الحكومية أن تفرض قيودًا عليه حتى الآن.
وبرغم أنني، كإنسان سوري، بتُّ غير قابل على التفاجؤ بأي شيء، بما في ذلك قرارات حكومتنا الموقرة وابتكاراتها الليلية وتلاعبها المستمر في مصيرنا وحياتنا، إلا أنني ما زلت أُفاجئ نفسي بكفاحي المستمر، وشغفي الذي لا يهدأ للحياة، لأنني مؤمن مع ألبير كامو بأنّ السؤال الأساسيّ ليس حول ما إذا كان يجب أن يكون للحياة معنى لكي نعيشه، بل هل سيتمّ عيشها بشكل أفضل إن لم يكن لها معنى.
وبغض النظر عن الإجابة، فإننا، كسوريين، لا نرى مفرًا من عنادنا بألا نبقى غرباء عن الحياة، وذلك بتعزيز وجودنا الأسمى من خلال التفكير فيها كما أوصانا صاحب "الغريب". هذا التفكير الذي يدفعنا دائمًا إلى سعادة غامضة، لا تتأثر بالتَّدني المؤرِق لسعر صرف الليرة مقابل العملة الصعبة جدًا علينا، ولا بالرواتب المُخجِلة التي نتقاضاها وتفوق ما ندفعه للمواصلات من وإلى مكان عملنا، ولا بالفروقات الطبقية وتفاقمها يومًا بعد يوم. سعادة موغلة في غِيِّها وثباتها الروحي، لا تتزعزع بأخبار بورصات السياسة وصيارفة البشر المعاصرين، ولا بالمعلومات المُسرَّبة عن تُجَّار السوق السوداء وحساباتهم البنكية، أو بتنبؤات الفلك والأحوال الجوية ومُحلِّلي الاقتصاد والمجتمع ونُقَّاد مواقع التواصل الاجتماعي...
إذ، على ما يبدو، فإن خدودنا كبشر سوريين تعوَّدت على اللَّطمات. ولِيقيننا بأنّ "اللّا خلاص هو شكل من أشكال الخلاص، بل هو الخلاص نفسه" كما يقول إميل سيوران في كتابه "مثالب الولادة"، فقد رتّبنا حياتنا وفق فلسفة تؤكد على أنه مهما امتدّ مأزق وجودنا في هذه البقعة الجغرافية الملغومة أبدًا، فإن علينا إدراك أن مجرد بقائنا على قيد الحياة يستحق الاحتفاء دائمًا. وما دام لدينا القدرة على اختراع أساليب جديدة لمواربة العيش، ومواجهة الكآبات بالسخرية، ومكافحة الأحزان بالغناء والموسيقى، فإن علينا استثمار ذلك إلى الحد الأقصى، وأن نبقى على العهد بمواصلة رَشّ السُّكَّر على الموت حتى يخجل من نفسه ويموت.
هذه قصتي أكتبها لكم وعلى شفتيّ ابتسامةٌ غريبة، وسيجارة لفّ أثق بأنها تنتظر شهيقي لتشعل نفسها لأجلي، وهي أكثر من يعرف شراهتي للحياة وللأصدقاء الذين سيقرؤون هذه المقالة.