في لبنان، شخصٌ من بين كلّ أربعة تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا جرّب مادة غير مشروعة بحسب مركز "سكون" لمكافحة الإدمان. لا تتوفّر أرقام وطنية دقيقة عن واقع الإدمان في لبنان، خصوصًا منذ بداية أزمته، إلا أن تقارير الجمعيات والمراكز في السنوات الأخيرة ليست مطمئنة.
لجأت زينة إلى تعاطي المخدرات في سنّ الثانية عشرة، بعدما عانت من عدم الاستقرار النفسي بسبب مشكلات والديها وتفكّك أسرتها الناجم عن ذلك. تبلغ زينة اليوم 27 عامًا، وما زالت تخضع للعلاج من الإدمان. على مدار سنوات، كانت تتوقّف عن تعاطي المخدرات ثم تعاوده بسبب ظروفها العائلية والأوضاع الاقتصادية الصعبة. وكان صعبًا عليها التوقف عن تعاطي الهيروين على وجه الخصوص، حتى بعد زواجها وحملها، خصوصًا أنها كانت تتعاطى المواد المخدّرة مع زوجها. "كنتُ أشعر بالذنب يوميًا. وكنتُ خائفة من أن تولد طفلتي مريضة بسببي، لكنّ الأمر كان قد خرج عن سيطرتي".
توقّفت زينة عن تعاطي الهيروين قبل يوم من ولادة طفلتها، وقرّرت أن تبدأ بالعلاج مجددًا. مرّ عام منذ أن بدأت رحلة علاجها، لكن سوء الظروف المعيشيّة جعل تأمين كلفته صعبًا عليها. تقول إنّ الجمعيات لا تغطّي تكاليف العلاج كافة، وإنها اضطرت إلى تخفيض جرعة الدواء من ثلاث حبات يوميًا إلى حبة واحدة بسبب صعوبة تأمين الأدوية. فهي تحتاج إلى Zollapine 10 mg الذي يبلغ سعره نحو 20$، وProsak 20mg الذي يتجاوز سعره 22.5$، بالإضافة إلى العلاج البديل Beunorphine 8mg الذي تبلغ كلفته نحو 12.15$، وتحتاج منه علبة مرتين كلّ شهر، علمًا بأن سعره متذبذب بسبب انقطاعه وبيعه في السوق السوداء.
وتُواجه القطاعَ الصحيَّ في لبنان مشكلةُ انقطاع الكثير من الأدوية بسبب غياب الدعم عنها. ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة "اليونيسف" عام 2022 ، فإنّ أكثر من نصف العائلات اللبنانية لا تستطيع الحصول على الأدوية التي تحتاجها، كما أنّ نحو 40 في المئة من الأطباء غادروا البلادَ منذ بداية الأزمة. وفي ظلّ عدم توفّر السيولة الكافية لتأمين حاجات من يلجأ إلى جمعيات مكافحة الإدمان ومراكزها في لبنان، تزداد المؤشرات المقلقة من تبعات هذه المسألة. فوفقًا لتقرير "سكون" السنوي، بلغ عدد المرضى النشطين، عام 2022، 276 مريضًا. وبحسب دراسة لم تُنشر بعد عن الجمعية ذاتها، تبيّن أنّ شخصًا من كلّ أربعة في لبنان تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا معرضون لخطر الاعتقال بسبب تعاطي المخدّرات.
بلغ عدد محاضر تعاطي المخدّرات عام 2022، بحسب تقرير لـ"الدولية للمعلومات"، 584، بينما وصل إلى111 خلال شهري كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير المنصرمين (2023). وفي حديثِِ لـ "أوان"، أشارت المديرة التنفيذية لمركز "سكون" للمعالجة والوقاية من الإدمان تاتيانا سليمان إلى أن الوزارة طلبت تخفيف عيار الأدوية و"البدائل الأفيونية" تفاديًا لانقطاعها، إلا أن تقليص ححم الجرعات قد يتسبّب بانتكاسات للمرضى.
وأضافت سليمان أن الإدمان والصحة النفسية في لبنان لا يندرجان في سلم أولويات المانحين والوزارة، خصوصًا بعدما أصدرت الحكومة اللبنانية قرارًا برفع الدعم الجزئي أو الكلي عن معظم الأدوية. كما أنّ البدائل الأفيونية هي أدوية معتمدة في لبنان منذ عام 2011، وهي توصف للمرضى الذين يتعالجون من الإدمان على مادة أفيونية، علمًا بأن مريض الإدمان يحتاج إلى هذا الدواء، تمامًا كما يحتاج مريض السكري أو الضغط إلى العلاج.
مبادرات وقصص نجاح صغيرة
اعتادت ريتا بولس، وهي مؤسّسة مبادرة "Pour George" قبل أربع سنوات، جمعَ التبرعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لدعم الشباب ومساعدتهم على التعافي من الإدمان. اليوم، توقّفت مبادرة ريتا بسبب ارتفاع كلفة العلاج والأدوية التي يتعذر عليها تأمين تكاليفها، حتى بعد جمع التبرعات. "ساعدتُ كثيرًا من الشباب وسهّلتُ انتقال العديد منهم إلى مراكز التأهيل، وأرغب بالاستمرار على هذا النحو، لكنّي بحاجة إلى دعم، فتكلفة اليوم الواحد في المستشفى تتجاوز المليون ونصف المليون ليرة لبنانية، عدا عن تكاليف الأدوية والمصروف الشخصي للمريض".
ويروي مروان، وهو أحد الشبان الذين سهّلت ريتا توفير العلاج لهم، قصته لـ"أوان"، بعدما أوصله الإدمان إلى التسوّل والنوم في الشارع. بدأ مروان بتعاطي المخدرات في سنّ صغيرة، وعندما كبُر، عمل لفترة طويلة في صالون لتصفيف الشعر حيث كان يتقاضى راتبًا جيدًا نسبيًا، بيد أنه كان ينفقه على شراء المخدرات: "أوصَلني الإدمان إلى النوم تحت الجسور في العراء. كنتُ أمضي أيامي جائعًا، وكانت ريتا قد ساعدت أمي خلال مرضها، فلجأتُ إليها وأخذَتني إلى مركز التأهيل".
لم تكن رحلة العلاج سهلة على مروان، خصوصًا أنه كان يتعاطى الهيروين، ولم يكن يملك المال ولا القدرة على تأمين العلاج. ومع بداية الأزمة، وصل مروان إلى ذروة إدمانه بعدما خسر والدته ودخل شقيقه السجن، ولم يعد قادرًا على دفع إيجار المنزل، فطرده المالك وبقي في الشارع حتى نقلته ريتا إلى المركز. اليوم، وصل مروان إلى مرحلة "المتابعة"، وهو يتدرّب ليصبح "مربيًا" في مركز التأهيل الذي يقيم فيه.
تأثير الأزمات المتتالية
تحوّل تعاطي المخدّرات من كونه "وسيلةً" للترفيه والانتشاء، إلى علاجٍ ذاتيٍ من التوتر والاكتئاب والأرق في نظر بعض المدمنين. وفي حديث مع المعالجة النفسية في مركز "سكون" ندى القاعي، أشارت الأخيرة إلى أن غالبية المتعاطين إنما يرغبون بالهروب من الواقع الذي يُثقلهم في ظلّ الأزمة التي تمر بها البلاد.
ووفق دراسة أجراها European Web Survey on Drugs، شملت 274 مشاركًا أفادوا باستخدامهم مادة مخدّرة واحدة على الأقل في الأشهر الاثنتي عشرة السابقة للمسح، تبيّن أنّ تعاطي "المخدّرات الخفيفة" (soft drugs) التي لا تؤدّي إلى الإدمان، مثل حشيشة الكيف، ازداد بنسبة 53% بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020 الذي ترافق مع انهيار العملة المحلية وسوء الأوضاع الاقتصادية. كذلك صار استهلاك الكحول أكثر شيوعًا، وأيضًا مادة الميثامفيتامين (meth) المخدرة بسبب سهولة الحصول عليها بالمقارنة مع المواد الأغلى ثمنًا مثل الكوكايين والإكستاسي.
وبحسب القاعي، لا توجد دراسات علمية تُظهر ارتباطًا واضحًا بين الأزمة الاقتصاديّة وزيادة نسبة تعاطي المواد المخدرة، غير أنّ الأرقام الصادرة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بالإضافة إلى الحاجة الماسة إلى توسيع نطاق عمل الجمعيات في المناطق، إنّما يشيران إلى ارتباط العاملين. وأضافت أنّ البعض يتعذر عليه الحصول على العلاج لسبب بسيط كارتفاع كلفة المواصلات، وفيما تحاول الجمعيات توفير الظروف المناسبة للعلاج في ظلّ بطالة غالبية المستفيدين، فإنّ الأعداد ــــ كما تقول القاعي ــــ "أكبر مما نظن".
* أُنجز هذا التحقيق بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.