"دنيا وأميرة حلب" لماريا ظريف: أسطرة رحلة اللجوء السورية

استطاع فيلم "دنيا وأميرة حلب" أن يؤسطر لنا رحلة اللجوء السورية، ويمنحنا الأمل الذي بثَّته دنيا في ختام الفيلم، بالتزامن مع مشهد والدها خارج المعتقل يحمل على كتفه حقيبته، وكأنه بدأ للتو رحلة لجوئه الخاصة، بحثًا عن ابنته وأمه وأبيه.

جميلٌ أن يُتاح لك فرصة مشاهدة فيلم الأنيميشن "دنيا وأميرة حلب" في دمشق، بالتزامن مع افتتاح عروضه في صالات السينما الكندية. إذ تشعر وكأنك كسرت، ولو جزئيًا، حصارًا ثقافيًا مفروضًا منذ ما يزيد عن العشر سنوات. وتضاف إلى غبطتك غبطة لما حققته ماريا ظريف في سيناريو فيلمها الذي أخرجته مع زميلتها أندريه قاضي، حيث استطاعت أن تنقل لنا قصة اللجوء السوري الاضطراري بفعل الحرب من وجهة نظر طفولية، بكل ما يكتنفها من خيال واسع وسحرية من نوع خاص، والأهم، من خلال براءة وعي يتنامى شيئًا فشيئًا في ظل الفقدان، والصداقات المبتورة، والمخاوف المديدة، والأمان المُرتَجى. وبذلك حققت تمايزًا واضحًا عن كثير من الأعمال الدرامية التي تناولت موضوعة اللجوء السوري ذاتها.

يُضاف إلى تلك المغايرة، الابتعاد عن المشاهد الدموية الصارخة، والاتكاء على الرمز في الصورة والحكاية، والتأكيد على طمأنينة الحب المغروسة في تفاصيل حياة بطلة الفيلم الطفلة "دنيا" منذ ولادتها، إلى جانب خيالها المُعزَّز بالمحيطين بها، من والدتها "ليلى" ذات الجمال الباهر واللطف الآسر، ووالدها "نور" الورَّاق الحلبي صاحب الأفكار الثورية، وجدِّها "درويش" بائع صابون الغار وعاشق الموسيقى، وصولًا إلى جدَّتها "مونة"، الماهرة في كل ما يتعلَّق بأمور المطبخ الحلبي.

الوئام العائلي خفَّفَ من وطء غياب والدتها التي تُوفيت بسبب المرض وابنتها لم تكمل السادسة من عمرها، خصوصًا بعدما غرس أفراد العائلة في ذهن الطفلة أن أمَّها انتقلت إلى جانب ملك الغيم، لتستمر أسطرة الغيابات والحضورات لديها. إذ بات لكل شيء بالنسبة لها أسطورته الخاصة التي تستطيع من خلالها مقاومة الواقع وجبروته. فعندما اعتُقِل أبوها الذي يرفض حتى سَجْنَ العصافير، رافقتها قصة "شوم" و"آي" التي قرأها لها في كتاب "بلاد الرافدين" عن مَلِكَيْن تحاربا وهُدِمَ الجسر الذي يصل بين بلديهما، لكنهما في  النهاية أدركا خطأهما ولم يفترقا من حينها.

كما استقت من جدِّها ولعه بالموسيقى القادرة على أسطرة اللحظات على مقامات صُنِع بسحر، ما جعلها قادرة على تقليب أمزجة الزمن كما لو أنها تنتقل من مقام لآخر. وفي الوقت ذاته، شكَّلت لها وصفات جدَّتها في صنع الأطايب من المأكولات كالمامونية، وأيضًا مونة البيت من مربى الورد والباذنجان، وجبنة الشلل المزينة بحبات البركة، مؤونة للحياة وتجاوز عثراتها، حتى أن صبحيَّات جدَّتها مع جارتهم المسيحية ـــ المدام دبوس ـــ وقراءتها الفنجان، فتحت لها أبوابًا أخرى للخيال.

"سنطير كالعصفور، والسماء هي ذاتها لأي عصفور في العالم"، يقول الجدّ المتصوّف

كل ذلك منحها زادًا في مواجهة أهوال الحرب والدمار الذي سببتهُ لمدينتها حلب، بما في ذلك منزلها، وكذلك في مواجهة رحلة اللجوء التي اضطرت لها برفقة جدَّيها وجارتهم مع ابنتها وصديق جدِّها "عبدو"، صاحب خلطة البهارات المميّزة، مع زوجته وابنه الرضيع، بحيث أن غِنى مخيّلتها كان يفتح الأبواب الموصدة بإحكام خلال رحلتهم القسرية، وذلك بواسطة حبّة البركة التي اصطحبتها معها وكان لها مفعول سحري، لدرجة أنها كانت وسيلةً لتجاوز حرس الحدود الأتراك بعدما أنشأت متاهةً من الأشجار سمحت لهم بتخطي الحواجز الحديدية وأخفتهم عن عيون العسكر التركي، وكانت أيضًا سبيلهم للنجاة من الغرق وهم في عين العاصفة على متن الزورق المطاطي، إذ حملتهم أميرة حلب على كفَّيها إلى شواطئ اليونان... بعد أن رمت "دنيا" إحدى حبات البركة في البحر.

وبالمثل، نجَّتهم الحبة السوداء من الصِّدام الدامي مع الجنود اليونانيين المشرفين على مخيم اللجوء، وجعلتهم يرمون أسلحتهم بعدما تحوَّلت صرخات استنكار اللاجئين السوريين إلى نوع من الغناء، فانضم الجنود إلى حلقات الدبكة على أنغام عازف البزق "جوان الكردي"، الذي رافقهم في رحلتهم قبل أن يتجاوزوا الحدود السورية ـ التركية.

كذلك جعلت حبة بركة من العصفور الصابوني الذي نحته درويش لحفيدته يحملُ رسالةً منها إلى "بيت يحتاج إلى سُكّان، فالبيوت لها أرواح وهي تبحث عنا، وفي الحياة كلّ ما تبحثين عنه يبحث عنك" بحسب حكمة الجَدّ. ثمّ تم تناقل الرسالة من العصفور إلى نورس إلى حمامة، حتى وصلت إلى بيت في كندا أصحابه يمتلكون صديقًا جزائريًا قرأ رسالة دنيا وتواصل مع رقم الهاتف المرفق بالرسالة، لتنتهي رحلة العائلة الحلبية في أميركا الشمالية.

ولعل أهم ما في هذا الفيلم، الموجه إلى العائلة، هو مقاربة مفهوم الوطن من زاوية مختلفة. إذ ليس هو مكان الولادة، وإنما الروح التي نسكنها وتسكننا، بحيث أن السلام الداخلي للجَدّ المتصوِّف جعله يكرر في أكثر من محطة خلال الرحلة بأننا "سنطير كالعصفور، والسماء هي ذاتها لأي عصفور في العالم". وكأن الفيلم يقارب فكرة ميخائيل نعيمة القائلة بأن "الوطن ليس أكثر من عادة، والبشر عبيد عاداتهم. ولأنهم عبيد عاداتهم، تراهم قسّموا الأرض إلى مناطق صغيرة يدعونها أوطانهم".

وفي الوقت ذاته، يؤكد الشريط السينمائي (72 دقيقة) على المفارقة القاسية بين الرحيل الصعب والبقاء المستحيل، وهو ما جاء على لسان شخصية جوان: "وطننا نحمله معنا في كل مكان، فنحن كما في حكاية الشجرة والقارب، بحاجة دائمًا إلى أمرين متناقضين، بحاجة القارب للرحلة، وبحاجة للشجرة بمعنى الجذور والبيت والهوية، لذا نبقى دائمًا ممزقين بينهما إلى اليوم الذي نفهم فيه أننا بحاجة الشجرة لنستطيع صنع القارب". وهو ما أكدت عليه حبيبته لينا ابنة المدام دبوس بقولها: "جذورنا التي تعطينا أجنحة لاكتشاف العالم هي التي تعطينا الأمل".

في الفيلم تأكيدٌ موسيقيٌ على أن مجريات الحكاية في حلب، لكنّ المقصود هو سوريا كلها

فيلم "دنيا وأميرة حلب" مشبع بالنكهات. فإلى جانب القصة وسلاستها وعمقها، هناك المشهدية الغرافيكية التي حققتها ماريا الظريف مع فريق الفيلم، التي تنطوي على جماليات الصورة وبهاء الانتقالات بين المشاهد العامة والمُقرَّبة. وقد كان لذلك سحر خاص، لا سيما لجهة تصوير مدينة حلب بمفرداتها المعروفة لنا، كالقلعة وسوقها وشوارعها ومناخات البيوت القديمة فيها، فضلًا عن تصوير وجوه الشخصيات المرسومة بعناية وبتفاصيل فيها الكثير من الإبداع والدلالة.

فأميرة حلب هي ذاتها ليلى التي اصطفاها ملك الغيم لتُحيي ظلمة ليله الدامس، بجمال وجهها المشابهة للقمر، وبلمعان شعرها الأسود الذي يُقارب نجوم مجرة درب التبّانة. ودنيا هي شبيهة والدتها بعينيها الواسعتين وفمها الصغير كحبة الفستق الحلبي، بينما والدها، نور، المعارض للعتمة الفكرية، يرتدي دائمًا الكوفية الفلسطينية على عنقه، وهو إما يبيع الكتب أو يقرأها. والجَدّ درويش هو نسخة كرتونية عن مطرب حلب صبري المدلّل، في حين أن الجَدّة مونة بامتلائها المبالغ فيه، ما هي إلا رمز للبيت بكل جمالياته وسلامه، وللحب العابر للطوائف واعتباراتها حصةٌ من خلال جوان الكردي، عازف البزق، ولينا الفتاة الجميلة الصهباء.

وجاءت موسيقى الفيلم لتُعزِّز النكهة، وتتنوع بين عزف درويش وابنه نور على العود في باحة منزلهما الواسعة بالقرب من البحرة التي تتوسطه، إلى جانب صوت الكناري الذي أخمدته قذيفة دمّرت البيت وقتلت الأغنية، بالتوازي مع ترتيلة "يا مريم البكر فُقْتِ الشمس والقمر"، وأغنية "ع الروزنا ع الروزنا كل الهنا فيها، شو عملت الروزنا الله يجازيها.. يا رايحين ع حلب حبي معاكم راح.."، وكذلك أغنية "يا مال الشام" و"يا محلا الفسحة"، وكأنه تأكيدٌ موسيقيٌ على أن مجريات الحكاية في حلب، لكنّ المقصود هو سوريا كلها.

أما آخر حبَّة بركة على هذا الشريط السينمائي فكانت أصوات المدبلجين، وعلى رأسهم الفنانة أمل حويجة بشخصية أميرة حلب، والفنانة ثراء دبسي بشخصية تيتة مونة، والفنان مأمون الرفاعي الذي جسد بصوته جدو درويش، والطفلة رزان الرز التي أدت صوت دنيا. وهناك أيضًا من الأصوات الجميلة الفنانة حنان شقير بشخصيتي شوم والبدوية، وهي المشرفة العامة على الدبلجة العربية، بالإضافة إلى رغدة الخطيب التي جسدت صوت المدام دبوس، وصوت طارق المسكي لشخصية جوان، وسامر الجندي بشخصيتي آي وعبدو، إلى جانب فنانين آخرين هم: زيد الظريف، ومحمد آيتوني، وكرستين شحود، ولما هاشم، وندى محفوض، ومروان غرز الدين، وأسعد سنديان.

استطاع فيلم "دنيا وأميرة حلب" أن يؤسطر لنا رحلة اللجوء السورية، ويمنحنا الأمل الذي بثَّته دنيا في ختام الفيلم بمذكراتها التي وجهتها إلى والدها، تخبره فيها بأن السماء هي ذاتها لأي عصفور في العالم. وتزامن ذلك مع مشهد والدها نور خارج المعتقل يحمل على كتفه حقيبته، وكأنه بدأ للتو رحلة لجوئه الخاصة، بحثًا عن ابنته وأمه وأبيه.

يُذكر أن الشريط السينمائي من إنتاج: جوديت بوروغار، إدارة فنية ورسوم متحركة: ماري ميشيل لافالم، تصوير ومونتاج: كارين فيزينا، رسوم متحركة: أودري ميشو، هوغو جيار لوكليرك، جولي فريشيت، جيريمي سورليني، إلوي تيبو، كيشان شين، صوت وموسيقى: بيير إيف درابو.

بين دمشق والقاهرة... أهو ده اللي صار

الضياع، على سهولته في مدينة شاسعة كالقاهرة، ليس يسيرًا مع ذاكرتي الانفعالية الغنيّة بكل ما يتعلَّق..

بديع صنيج
السوري وجودي معاصر.. يرشّ على الموت سُكَّر

لقد رتّبنا كسوريين حياتنا وفق فلسفة تؤكد على أنه مهما امتدّ مأزق وجودنا في هذه البقعة الجغرافية الملغومة..

بديع صنيج
صوت إيلي شويري.. مسيح يحرس نوم المساكين

"عندما يقتنع بلحن ويعزفه مع إيقاعه، كان يسجله حتى لا ينساه. وأحيانًا، ترى فيضًا من النغمات في رأسه..

بديع صنيج

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة