"كانت مثل بيانو، في بلد تقطّعت فيه أيدي ساكنيّه." (أنجيلا كارتر)
وافق التاسع والعشرون من آذار/مارس الماضي يوم البيانو العالمي.
بيانو هي تسمية جاءت من كلمة "بيانوفورت"، التي تعني الرِقة أو اللين. الرِقة أو اللين، وليس الرقة واللين. ثمانية وثمانون مفتاحًا صُنعت كلّها من العاج والأبنوس.
أَلّف الفرنسي إيريك ساتيه أطول مقطوعة بيانو في العالم. مخطوطة واحدة تتطلب التكرار 840 مرة، بتنوّعات مختلفة. ستة وثلاثون مفتاحًا أسود رقيقًا، وقد كنتُ يومها أكبر من المفاتيح السوداء بثلاثة مفاتيح، حين عَبرتُ جبل الزاوية في إدلب إلى تركيا.
التكرار الأول والأخير:
ليل سوريا؛
أنا والمجاميع حولي، كمبارس ذلك المشهد.
المشهد الذي لم يتطوّع أحدٌ لإخراجه.
صعودُ جبل الزاوية مع العشرات.
ضغطةٌ طويلةٌ على المفتاح الأسود.
العباءة السوداء التي أرتديها لأول مرة في حياتي، تُضاعف القتامة حولي.
ابنتي التي لم تتجاوز السنة ونصف السنة، في حمالة الأطفال أشدّها إلى صدري، وجهاز اللابتوب في حقيبة قماشية أحملها على ظهري. طفلي الآخر الذي تجاوز الثالثة بقليل، مشدود إلى ظهر أبيه. وأنا أصعد، وأخشى أن تتعثر قدمي، ثم أصعد وتزلّ بي القدم. يشتدّ خوفي من دحرجة مفاجئة، قد تنتهي بي إلى أسفل. مفتاحٌ أسود.
الخوف من التحطم!
كان خوفي الأكبر ألا ينجح مسعاي، وحيدة برغم كل أولئك الذين يحيطون بي.
العبور الذي لم يكُن سوى خلاص فردي. الخلاص الذي يعنيني فقط، يعني أمومتي بالدرجة الأولى.
كاشفاتُ الأضواء للجندرما التركية، بقعة الضوء التي من غير المسموح أن تسقط علينا. المفتاحُ الأبيضُ الغريب في هذا الفرار، وكان لزامًا عليّ أن أتحاشاه.
كلّ من تقع عليه بقعة الضوء تلك، سيكون في مجال رصاص الجنود الأتراك.
حتى لو كانت طلقات في الهواء. وهذا مجرد كلام، فالاتفاق الضمني بين المهرٌب ودورية حرس الحدود كان واضحًا تمامًا؛ عبورهم مشروط بعدم وقوعهم تحت بقعة الضوء.
تدور كاشفات الضوء بتعاقب سريع، وبلعبة القفز فوق العتم، والسكون وقت الضوء يكسب أحدنا ويصير على الحد الثاني.
مفتاحان، أسود وأبيض!
الصعود الأول والأخير من سوريا العظيمة.
مفتاح أسود!
قلت؛ يا رب، ليس هذا وقت الحساب، لست مهيأة بعد للقصاص!
العالم صامت وصاخب حولي في آن.
مهمتي الأصعب كانت أن لا أسمح للصغيرة بالبكاء، وهذا شرط النجاة. البكاء فعل فاضح على الدوام، والصغيرة تبكي ويرتفع صوتها.
يصرخ فيّ المهرب بأن عليّ أن أسكتها، وإلا فسيتوجّب عليّ أن أعود أدراجي، فمن غير المسموح أن أغامر ببقية المجاميع حولي. الأخلاق، بحسب ما يرى، تعني أن تتحقق الفائدة لأكبر عدد من الناس حولي. الأخلاق الوحيدة التي يعرفها المهرّب هي المبلغ الذي سيتقاضاه منا حين نعبر الحدود.
أُغلق فمَها بيدي، وأبكي مثلما تفعل.
الحمى التي فاجأت الصغيرين، استفراغهما، والرجفة المتصلة في جسديهما، في طقس خريفي أخذت درجات الحرارة فيه بالانخفاض في أول الليل، كلّها مفاتيح سوداء.
كنتُ ألهثُ في حركة الصعود تلك، وشعرت مرارًا وتكرارًا في تلك الدقائق بأنّي لن أتمكّن من المتابعة.
لن أدّعي بأن قوة خفية قد أعانتني، ولم أكن شجاعة بما يكفي. كنتُ ضمن حيز العبور فقط، ولا شيء عداه.
كان ذلك الوقت هو حاضري. لم أفكّر أبدًا بأي وعد قطعته على نفسي ولا على الآخرين.
تلك الدقائق هي أثمن وآخر ما يمكن أن أقبض عليه.
احتمينا بين أشجار الزيتون التي تسلّقت معنا المرتفع. كنتُ أتشبثُ بالأغصان كلما زلّت قدمي.
أرتعد رعبًا وجزعًا وقلّة حيلة!
قبل أن أعبر الحدود بثوان معدودات، نزعتُ عباءتي ورميتُها على طول يدي! لم أنظر أين استقرت!
أضاع الصغيران فردتي حذائيهما. ووصلنا إلى وجهتنا بفردة فقط في قدم كلّ منهما.
سقطت الفردتان. صوت المفتاح الأسود هنا.
المفتاح الأسود!
آخر ما عرفته من تلك البلاد كان سلكًا شائكًا على الحدود، مزق بنطالي، وأحدث شقًا امتد على كامل الساق.
لم أشاهده إلا بعد ليلة كاملة. حين وصلنا، ودخلتُ لأغتسل، لاحظتُ بقايا الدم اليابس على الساق.
وعرفتُ أيضًا بقعة طرية من الإسمنت الأبيض، كنتُ قد غُصت فيها دونما وعي.
مفتاحٌ أبيض جديد.
آخر ما لمسته وعشته وأحسسته في تلك البلاد، كان الخوف والعتم والطين والدماء، وأشجار الزيتون! كان ذلك في ليلها الطويل، في ليل تلك العظمة التي وقفت في حلقي.
مفتاح آخر أسود.
لم يكن أمامي من يمدّني بنظرة تطمين واحدة، كلّ الوجوه حولي كانت صفراء، زجاجية لا معنى لها
عند البحر:
كان من الممكن أن نموت. شعرنا بالموت، ذاك الشعور الذي يختلف عن أي شعور آخر. لكنّي ما زلت في منتصف القصة، ولابد لي من إكمال الحكاية!
على شاطئ أزمير.
لم تتوقف بعدُ محاولتي للهروب. عاد إريك ساتيه لإكمال مقطوعته. عاد إلى التكرار. صوت البيانو، صوت المفاتيح.
مفاتيح سوداء.
المفاتيح السوداء الرقيقة، التكرار المقيت، التكرار البطيء.
كانت الموسيقا أكثر صخبًا، والليل أشد حلكة. وكان الخوف والخوف، ورهابُ البحر.
في سيارة مغلقة تمامًا، تكومنا مرة أخرى. وأول ما فكرت فيه وأنا أحضن الصغيرة بقوة، جدران الخزان. الجدران التي لن يتسنى لنا أن ندقّها.
فكرتُ بالموت وأشفقتُ علينا. كرهتُ قراري هذا. ولأول مرة، أدركت بأن عنادي، الذي لطالما حذرني منه أبي، سيقودني إلى التهلكة!
تكدّسنا في مساحة لم تسمح سوى للأنفاس بالفصل بيننا. التصقنا بجدران الخزان.
الطفلة في صدري، وحقيبة الظهر تحوي أوراقنا الثبوتية وكتابًا وحيدًا، نجا معنا في ما بعد.
قطعتْ بنا السيارة طريقًا وعرة، وبرغم أننا لا نعرف الوجهة أو المكان، كنّا نشعر بارتطام العجلات بحجارة الطريق. لم نقُل وَلَو كلمة واحدة.
صمت، صمت ثقيل.
كان يُسمع صوت ارتطام لحدقات عيوننا بقاع أنفسنا، مفتاح أسود أيضًا!
لم يكن أمامي من يمدّني بنظرة تطمين واحدة، كلّ الوجوه حولي كانت صفراء، زجاجية لا معنى لها.
عدت لأسمع صوت الموسيقا… مفتاح أسود بضغطة طويلة أخرى.
التكرار، التكرار!
البحر حقيقة من أمامنا، والغابات من خلفنا، ومسير أكثر من أربعة كيلومترات على الأقدام.
هبطنا من السيارة. هشّنا الرجل الذي لم نعرف من يكون، كما تُهش الخراف.
وحيدة هذه المرة مع مجاميع لا أعرف بينهم سوى ابنتي.
يتابع ساتيه عزف مقطوعته. أتابع أنا الصعود، واستقر في قاع (البلم)، القارب المطاطي الذي يرتفع أقل من خمسين سنتيمترًا.
المجاميع حولي، المشهد الذي تكرّر في كل المرويات.
الماء المالح هذه المرة.
العرق والدموع والبحر.
البحر، أتذكر"الشيخ والبحر"، أتذكر الشيخ بلحيته البيضاء.
الشيخ الذي قال إنّ البحر هو بمثابة امرأة تمنُّ أحيانًا بعطايا عظيمة، أو تبخل بها في أحيان أخرى، وإذا ما فعلت أشياء شريرة أو غريبة، فلأنّه لم يكن في وسعها أن تفعل غير ذلك.
يقول الشيخ: يؤثّر القمر في البحر كما يؤثّر في المرأة.
لا قمر في تلك الليلة، فما من قمر يطل على امرأة وحيدة!
أنياب القرش، أنياب الموج العالي.
الشيخ والبحر، الشيخ والقرش الذي سينهش قاربنا المطاطي بعد وقت.
قرش الموج العالي.
كنتُ أكثر يقظة وحزنًا، إنه الهلع!
يخرج الزبد من فم صغيرتي، أشدها أكثر إلى صدري، نلتحم معًا، يختلط سواد خوفي ببياض هذه الصغيرة
الموسيقا، صوت البيانو.
العازف الوحيد الذي يقرأ جزعنا. الأيدي المقطوعة كلها في قاع (البلم)، الأيدي التي لم تحرك ساكنًا، البعض الذي يدافع عن الملح. البعض الذي سيسوّي أمامنا طريق الغرق.
كل الذين أحاطوا بي، جاؤوا من البلاد السوداء.
عراقيون، إيرانيون، أفغان….
هؤلاء الذين عرفوا الأوتار، هؤلاء الذين ثقبوا القصب والبامبو لتمرّ منه الريح. هؤلاء الذين عزفوا على الأوتار ونفخوا في النايات. هؤلاء الذين قطعوا الموت ليلحقوا صوت البيانو!
حملنا الضجيج معنا في عمق البحر.
فكرت بالآثام بالخطايا.
فكرت بالملكين على كتفي.
فكرت بالمفتاحين الأبيض والأسود، أيهما سيعزف أكثر، ولمن الغلبة!
قلت؛ يا رب، ليس هذا وقت الحساب، لست مهيأة بعد للقصاص!
قلت؛ يارب، أنظرني ليوم آخر، أنظرني ليوم أبيض.
قالوا في الأساطير إن الخيل خرجت من البحر. لذلك يعدو هذا الموج دون توقف. وقالوا أيضًا إنّ الخيل.. بحر. وإن البحر... كالخيل!
تعدو هذه الخيول بيضاء وسوداء. تعدو هذه المفاتيح.
يكمل ساتيه مقطوعته. تعدو الخيول فوق المفاتيح، يرتفع صوت الموسيقا، صوت الحوافر في قلبي.
يخرج الزبد من فم صغيرتي، أشدها أكثر إلى صدري. نلتحم معًا. يختلط سواد خوفي ببياض هذه الصغيرة، يسيل الخوف مني، يلطخ وجهها الرقيق.
لا أعرف إن كنت بكيت، لا أعرف بما فكرت. لكنني أذكر أني أقسمت بكل المقدسات، أن لا أعيد الكرّة.
بعد أقل من ساعتين، قبض علينا خفر السواحل، وأعادونا إلى الشاطئ.
بعد أكثر من مئة عام وسط الماء، أعادونا إلى اليابسة. سحبونا كما يسحب جزار ذبيحته إلى المسلخ.
لا أدري من الذي تشبث بالآخر، أنا أم الحياة.
على شاطئ أزمير مشيت لأربع ساعات وأكثر، قطعتُ ربما عشرة كيلومترات في المكان نفسه.
لم أعرف إلى أين أذهب. حين بزغ علينا ضوء الصباح، ظهرَت فجأة أمامنا دورية للشرطة التركية.
فرحنا كثيرًا، فهذا يعني أن نكفّ عن الدوران والتكرار في ذات المكان.
المفاتيح السوداء!
قام رجال الشرطة بسرقتنا. سرقوا الهواتف المحمولة، وسرقوا النقود المتبقية مع الأشخاص الذين كانوا حولي.
ركبنا معهم على أمل أن نقطع الغابة ونصل إلى قلب مدينة أزمير، حيث يفترش الآلاف شوارع ومقاهي وفنادق المدينة.
بعد عشرين دقيقة وأكثر في الحافلة، أنزلونا على بعد خمسة كيلومترات أمام البحر تمامًا. لقد أعادونا من حيث خرجنا قبل الفجر.
مفتاحٌ أسود.
إنه فخ الحياة الذي ما فتئنا نقع فيه.