السوريون وثنائية النفط والغاز: "..والماء فوق ظهورها محمولُ"

قد لا يصحّ تصنيف الحرب السورية في إطار حروب الطاقة، غير أنّ حوامل الطاقة استُخدمت في هذه الحرب، مراتٍ بوصفها سلاحًا وأخرى بوصفها وسيلة ضغط، من قبل مختلف الأطراف، وأحيانًا بين طرفين يتخندقان في معسكر واحد، ودائمًا ما يدفع الشارع الثمن!

ليس من السهل تشخيص "المشهد الطاقي" في سوريا، فلكل من حواملها معطياته المختلفة، غير أن ما ينعكس على الحياة اليومية وأنماط عيش الناس، يكاد يتشابه حدّ التطابق. لكن؛ يبقى شحّ النفط هو الأشد تأثيرًا مباشرًا على السكان، بفعل تأثر قطاعات عديدة به، من الزراعة، إلى النقل، والتدفئة، وحتى الكهرباء في ظل الاعتماد شبه الكامل في توليدها على مشتقاته، وعلى الغاز.

لا تعدُّ سوريا دولةً غزيرة الإنتاج النفطي، ولا محققةً للاكتفاء الذاتي في قطاع الطاقة بالعموم، برغم التكهنات حول احتياطيات هائلة من الغاز تحديدًا. مع ذلك، كانت البلاد عشيّة اندلاع الاحتجاجات في العام 2011 أقرب إلى الاكتفاء، مع وجود مشكلات عديدة تتعلّق بالبنى التحتية، وأخرى أكثر وأخطر تتعلق بالتخطيط، وعدم وجود استراتيجية واضحة، لا بعيدة، ولا حتى متوسطة المدى، فضلًا عن أن القطاع النفطي على وجه الخصوص كان ـــ ولا يزال ـــ ميدانًا بارزًا للمعضلة السورية الأزلية المتمثلة بغياب الشفافية، وهذا قد يفسر تضارب المعلومات عن الحجم الفعلي للإنتاج النفطي سابقًا، وواقع واردات المشتقات النفطية راهنًا.

على سبيل المثال، تشير بيانات التتبع وفقًا لـ "The Syrian Report" إلى أن واردات النفط الإيراني إلى سوريا كانت ارتفعت في العام 2022، كما أنها ظلت مرتفعة في الربع الأول من العام الحالي، غير أن ذلك لم ينعكس تخفيفًا للاختناقات في السوق المحلية، ولا خفضًا للتقنين. أما حين عُلّقت تلك الواردات مؤقتًا في أواخر العام 2022، فقد لُحظ ذلك فورًا ودخلت البلاد في حالة من الجمود.

بصياغة أخرى، تأثر السكان بأزمة التوريد بشكل فوري، لكنهم لم يلمسوا أيّ تحسّن حين ارتفعت الواردات. قد لا يلقي الشارع بالًا إلى كل هذه التفاصيل، بل إنّ كثيرًا من السوريين لا يمتلكون معلومات أصلًا عن مصادر حوامل الطاقة الشحيحة التي تصلهم، ولا عن كميات النفط والغاز التي تُنتجها الحقول الواقعة تحت سيطرة الدولة السورية، أو عن زيادة الإنتاج التي يُفترض أنها تحققت مع استعادة السيطرة على العديد من الحقول في البادية.

من أين يأتي النفط؟

يمكن الحديث عن ثلاثة مصادر أساسية للنفط في السوق السورية الرسمية خلال الحرب، من بينها مصدران واضحان: إنتاج الآبار الخاضعة لسيطرة الدولة، والمستوردات التي يشكل النفط الإيراني الحصة الأكبر منها. أما المصدر الثالث فلا يُصرّح عنه بشكل رسمي عادةً، وهو الوسطاء أو السماسرة المحليون، والحديث هنا يقتصر على أسماء بعينها تولت تباعًا عقد اتفاقات مع "قوات سوريا الديمقراطية" التي تسيطر منذ سنوات على الإنتاج السوري الأكبر من النفط، لتقايض منها كميات محددة مقابل كميات من المشتقات النفطية المكررة. أما الخام فيؤمن الوسطاء نقله إلى مناطق سيطرة الدولة السورية التي تسدد لهم ما يفترض أنه كلفة النقل والحراسة (الترفيق) مع هامش ربح غير معلوم.

كما أتيح في بعض الفترات للقطاع الخاص استيراد المشتقات النفطية من خارج البلاد، وتعبير "القطاع الخاص" هنا قد يكون فضفاضًا، فعلى أرض الواقع يقتصر الأمر على أسماء بعينها مرة أخرى، كما في معظم قطاعات الاقتصاد السوري التي باتت تعمل بشكل أشبه بـ"التلزيم" أو "التعهيد" غير المعلن، لكن المعلوم!

شكّلت السيطرة على آبار النفط هدفًا لأطراف مختلفة، سواء لتمويل المجهود الحربي، أو لحرمان دمشق من مردودها

بهذا؛ تتعدد العوامل التي قد تؤدي إلى شحّ أحد مشتقات النفط، لتشمل علاوةً على الدول (ة) المورّدة، الجهات المسيطرة على الحقول، والوسطاء، والجهات المؤثرة على النقل الآمن للشحنات الداخلية، فضلًا عن العقوبات الخارجيّة التي تجعل وصول الناقلات قضية بالغة التعقيد، وفي بعض الأحيان مستحيلة. واستنادًا إلى هذا أيضًا يمكن تفسير توافر كل أنواع المشتقات النفطية في السوق السوداء، حتى في ذرى الأزمات، بل ربما شكلت تلك الذرى "مواسم ذهبيّة" لتجارها.

أما في مناطق سيطرة "قسد"، فثمة مصدران أساسيان للمشتقات النفطية: المكررة محليًّا بوسائل بالغة الأضرار، بيئيًّا وبشريًّا، والمكررة في مصافي الدولة السورية الواردة عبر الوسطاء في عمليات المقايضة بالخام.

بينما تحتكر "هيئة تحرير الشام" هذا القطاع في مناطق سيطرتها عبر ذراعها "حكومة الإنقاذ" التي ظلت حتى أواخر العام الماضي تعتمد على واجهات مثل شركة "وتد" في الدرجة الأولى، إلى جانب شركتي "كاف"، و"الشهباء"، قبل أن تتغير الاستراتيجية في تشرين الثاني الماضي، وتتجه "الإنقاذ" إلى تولي الأمور بشكل مباشر، من خلال "المديرية العام للمشتقات النفطية" التي أحدثتها في شباط 2022. وفي جميع الأحوال هناك مصدران أساسيان للمشتقات النفطية في الشمال: الاستيراد من تركيا، أو الحراقات البدائية التي تُكرر نفطًا خامًا يرد من مناطق سيطرة "قسد". وعلى نحو مشابه يسير الأمر في مناطق سيطرة "الجيش الوطني" (الخاضعة للسيطرة التركية الكاملة)، حيث تحتكر القطاع شركة "إمداد" المحسوبة على "الجيش الوطني"، وأُسست في منتصف العام 2020.

الخام والأرقام

مع أنّ نفط البلاد قد لا يكون مغريًا بالقدر الذي يستدعي شنّ حرب أو افتعال قلاقل داخلية من أجله، فقد شكّلت السيطرة على آباره هدفًا لأطراف عديدة مختلفة، إن بُغية توظيف وارداته في تمويل بعض نفقات الحرب، أو بغية حرمان دمشق منها في إطار الضغوط الاقتصادية والخدميّة المستمرّة. وقد توارثت هذه المهمة جهات عديدة تبعًا لتغير خريطة السيطرة، من "فصائل الجيش الحر"، إلى "جبهة النصرة"، فـ"داعش"، ثمّ "قسد"، وبطبيعة الحال الولايات المتحدة الحاضرة عسكريًّا قرب حقول النفط، وسياسيًّا في كل التفاصيل.

تنتج الآبار السوريّة نوعين من النفط الخام: ثقيل (يتركّز بالدرجة الأولى في حقول الجزيرة)، وخفيف (وهو الأسهل تكريرًا، ويتركّز في دير الزور). حتى العام 2011 كانت البلاد تستهلك نحو 45% من إنتاج النفط الثقيل، وتصدر الباقي، وتستهلك نحو 33% من النفط الخفيف وتصدّر الباقي.

وبحسب تقرير الطاقة العالمية الذي تصدره شركة "BP" (بريتيش بتروليوم البريطانية) بلغ إنتاج سوريا من النفط العام 2010 ما نسبته 0.5% من الإنتاج العالمي. فيما قدر التقرير احتياطي البلاد النفطي بنحو 2.5 مليار برميل، تمثل 0.2% من إجمالي الاحتياطي العالمية، وتقارب احتياطي بريطانيا.

أما وفقًا للبيانات الحكومية، فقد بلغ متوسط الإنتاج الرّسمي في العام 2010 نحو 386.000 برميل يوميًا بزيادة 9407 براميل يوميَا عن العام 2009.

في العامين 2021 و2022 سُجل تحول في طريقة الكشف الرسمي عن كميات الإنتاج، مع تسريبات صارت تُجمل كامل ما يُنتج، وتُحدد ما يصل إلى المصافي السورية، ليكون الإنتاج الإجمالي في 2021 نحو 31.5 مليون برميل "بمتوسط يومي 85.9 ألف برميل، يصل منها 16 ألف برميل يوميًا"، مقابل "14.5 مليون برميل في النصف الأول من 2022، بمتوسط 80.3 آلاف برميل يوميًّا، يصل منها 14.2 ألف برميل إلى المصافي".

الغاز.. ألغاز!

في منتصف شهر أيلول/سبتمبر من العام 2021، أعلنت وزارة الكهرباء السورية خروج محطة دير علي (ريف دمشق) من الخدمة، من جراء "اعتداء على خط الغاز المغذي للمحطة". لم تكن تلك المرة الأولى التي تشهد فيها سوريا حدثًا من هذا النوع، لكن التفاصيل التي تستدعي الوقوف عندها في هذا التفجير بالذات كانت عديدة، على رأسها أن المنطقة كانت قد خرجت من دائرة الاشتباكات العسكرية منذ وقت طويل، والنفوذ العسكري فيها بات مقتصرًا على القوات السورية، وعلى القوات الحليفة، مع حضور قريب منها لـ"فصائل المصالحة في درعا".

الأهم، أن خط الغاز المغذي للمحطة هو خط متفرّع عن "خط الغاز العربي" الذي كان يتصدر واجهة الأخبار في الإقليم، إثر إبرام اتفاق يقضي بوصول الغاز المصري إلى لبنان عبر ذلك الخط مرورًا بالأردن وسوريا، بهدف إيجاد حل لأزمة الكهرباء في لبنان.

قبل الاعتداء المذكور بأيام، كان وزير النفط السوري قد أكد أن خط الغاز العربي جاهز، وأن سوريا ستحصل على كميات من الغاز المصري مقابل مروره إلى لبنان.

يظلّ ملف الغاز مفتوحًا على احتمالات عدة، لا سيّما ما يتصل بالتنقيبات الجديدة والاستثمارات المستقبلية

لم يطل الوقت، حتى طُوي الحديث عن وصول الغاز المصري إلى لبنان، وتعددت تفسيرات توقف المشروع، كان من أبرزها القول إن القاهرة أصرّت على الحصول على استثناء أميركي مكتوب من عقوبات "قيصر" (برغم منطقية التفسير، يظل غريبًا أن تفطن القاهرة إليه بعد إبرام الاتفاق وإصلاح أجزاء عديدة كانت متضررة من الخط)، فيما ربطت تفسيرات أخرى بين فرملة المشروع وبين تسريبات تقول إنّ "الغاز الذي كان سيصل لبنان هو غاز إسرائيلي"، وذهبت تحليلات إلى الحديث عن دور روسي حينًا، وإيراني حينًا في تعطيله. على أية حال، لم يعد خط الغاز العربي إلى الحياة، ولم يحُلّ مشكلة الكهرباء في لبنان، ولا استفادت سوريا من حصة الغاز الموعودة.

تسلط تلك الواقعة الضوء على بعض تعقيدات ملف أنابيب الغاز في سوريا، لا ربطًا بمشروعات أنابيب محتملة فحسب، بل بأخرى قائمة، ومعها تضاربات في المصالح الإقليمية. وينبغي التنويه هنا بأن خط الغاز العربي نفسه يمتدّ وصولًا إلى تركيا، عبر تفريعة تمتد من حمص إلى حلب، ثم وصلةٍ إلى كلِّس، لم تدخل الخدمة أبدًا.

على صعيد الاستهلاك المحلي يكتسب الغاز أهمية مزدوجة، مرة بسبب اعتماد المستهلك السوري على الغاز المنزلي بدرجة كبيرة، وأخرى لتوليد الكهرباء. إذ يشكل الغاز منذ العام 2008 الركيزة الأساسية لعمل محطات التوليد السورية، (يحل بعده النفط، وتأتي أخيرًا المياه/الطاقة الكهرمائية)، ويُعزى الاعتماد المتزايد على الغاز إلى تطوير حقول جديدة زيادة في الإنتاج منذ العام 2008، لتُحول محطات توليد عديدة إلى نظام "الدارة المركّبة" بين 2008 و2011.

تتوزع حقول الغاز السورية بشكل أساسي في محافظات الحسكة، ودير الزور، وحمص، فضلًا عن أخرى أصغر في ريف دمشق، أُعلن اكتشافها في العام 2010، وتأخر دخولها الخدمة إلى العام 2018. حتى منتصف العام 2011 كان متوسط الإنتاج يزيد عن 30 مليون متر مكعب يوميًا، قبل أن يصيبه ما أصاب النفط من تهاوٍ، ثم يعود إلى التحسن التدريجي مع استعادة السيطرة على جميع حقوله في البادية (حمص) ودخول حقول ريف دمشق الخدمة. وبحسب وزارة النفط والثروة المعدنية، فقد كان متوسط الإنتاج في شباط 2022 نحو 12 مليون متر مكعب يوميًا. وفي مطلع العام الماضي أُعلن عن اكتشاف جديد للغاز، في بئر زملة المهر 1 (تدمُر)، وبعد شهور أُعلن دخول البئر مرحلة الإنتاج بواقع 250 ألف متر مكعب يوميًا.

وسط كتلة التعقيدات هذه، يظلّ ملف الغاز في البلاد مفتوحًا على احتمالات عديدة، لا سيّما ما يتصل بالتنقيبات الجديدة، والاستثمارات المستقبلية. وفي حين تحافظ القوات الأميركية على حقول الجزيرة شرقًا تحت سيطرتها المباشرة، تُحكم روسيا قبضتها على ملف "غاز المتوسط السوري" غربًا، بينما تبحث دمشق احتمالات استيراد الغاز المنزلي من الجزائر.

دمشق "ما بعد غزّة": كلّما ضاق الهامشُ اتّسع!

تبدو دمشق للمرّة الأولى شبه محيّدة عن واحدة من أكبر جولات الصراع "العربي ــــ الإسرائيلي"، من دون أن يعني...

صهيب عنجريني
دردشات على هامش الزلزلة

أي مفارقة هذه: "عقدة الناجي تكاد تستحق جنسية سورية فخرية، في بلادٍ لم ينجُ أحدٌ من أبنائها"!

صهيب عنجريني
ملف اللجوء السوري سيظل مفتوحًا: ما فعلته السياسة لا يُحلّ بغيرها

لا مصلحة حقيقية لأي طرف بعودة اللاجئين إلى سوريا، وأي حديث عن "عودة طوعية" بلا حل سياسي حقيقي، قائم على ت...

صهيب عنجريني

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة