ليس بمقدور أحد في هذه اللحظة أن يقدّم إجابات تامّة وحاسمة حول أهداف "التمرّد" الذي قاده زعيم مجموعة "فاغنر" الروسيّة يفغيني بريغوجين، وما ينطوي عليه هذا "التمرّد" من آثار على المدَيين المنظور والمتوسّط.
بديهي القول إن الدوائر الروسيّة المعنيّة مباشرة بما حصل، أي الرئاسة والكرملين والاستخبارات ووزارة الدفاع وقيادة "فاغنر"، أكثرُ علمًا ببعض التفاصيل من أجهزة استخبارات الدول الأخرى. لكنّ هذا لا يعني أنّ هؤلاء اللاعبين مدركون بالضرورة لتداعيات الحدث الدراماتيكيّ كافّة، خصوصًا أنّ آثار التمرّد لا تعنيهم وحدهم، ولا روسيا وحدها بطبيعة الحال.
من هنا، فما يمكن طرحه اليوم هو مجموعة من الأسئلة وتقديم إجابات محتملة عليها، ربطًا بما تمّ جمعه (ووُضع في التداول) من مُعطيات.
هذا استعراضٌ لخمسة أسئلة محوريّة حول "تمرّد فاغنر" وما بعده:
أولًا؛ هل يعكس تحرك "فاغنر" انقسامًا داخل النخبة الحاكمة في روسيا؟
من غير الواقعي افتراض أنّ تحرّك "فاغنر" كان مُفاجئًا بالكامل. إذ ليس ممكنًا التهيئة لقرار من هذا النوع، بما لا يسمح البتّة بتسرّب معلومات خارج الدائرة اللصيقة بزعيم "فاغنر" بريغوجين.
وقد سارعت "مصادر رسميّة أميركيّة" بعد أقلّ من يومين على وقوع الحدث إلى التصريح لـ"نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" و"سي. إن إن." وغيرها، بأنّ أجهزة الاستخبارات الأميركيّة كانت قد التقطت إشارات في منتصف شهر حزيران/يونيو، تُفيد بنيّة بريغوجين تنفيذَ تحرّك عسكريّ موجّه ضدّ وزارة الدفاع الروسيّة. لكنَّ شكلَ هذا التحرّك وتوقيته لم يكونا واضحَين.
وبحسب هذه المصادر، "فاض كَيل" بريغوجين إثر صدور قرار وزارة الدفاع الروسيّة في 10 حزيران/يونيو الفائت، القاضي بتوقيع المقاتلين غير الرسميّين (وغالبيتهم من "فاغنر") عقودًا مع وزارة الدفاع الروسيّة، وهو ما اعتبره خطوة لتجريده تدريجيًا من النفوذ المطلق الذي يملكه في الشركة التي أسّسها.
أما معرفة الرئيس الروسي بنيّة بريغوجين، فتعود إلى أكثر من 24 ساعة على قيامه بالتحرّك وفق هذه المصادر. يُضحي السؤال المطروح إذًا: ما الذي حال دون اتخاذ إجراءات استباقيّة أو، أقلّه، ردعيّة مناسبة تضع حدًا لهذه المغامرة مبكّرًا.
ثمّة من اعتبر أن قدرة "فاغنر" على التقدّم لمئات الأميال داخل الأراضي الروسيّة "من دون مقاومة"، إنّما يؤشّر إلى تعاطف قطاعات من الجيش مع بريغوجين. وهناك من رأى أنّه يعكس غياب رؤية موحّدة داخل النخبة الروسيّة الحاكمة حيال كيفيّة التعاطي الأمثل مع هذا المُستجدّ، أو، بالحدّ الأدنى، ضعفًا في التنسيق على مستوى القيادة.
كلّ هذه الفرضيّات تفيد بوجود فجوة في آلية اتخاذ القرار، وربما أبعد من ذلك، علمًا بأنّ الثابت هو أنّ علاقة بريغوجين بمعظم قيادات الصفّ الأوّل، باستثناء بوتين (حتى الأمس القريب)، إشكاليّة.
لكن ثمّة، في المقابل، فرضيّتان لا يُمكن استبعادهما تمامًا. أولاهما أنّ بوتين فضّل ـــ كما قال بنفسه ـــ التعامل مع القضيّة بما يُقفل الباب أمام انفلاتها من عقالها. وبقدر ما كان تصرّفه يشي بقدر من الارتباك، فقد كان يعكس حرصًا على امتصاص الأزمة عبر إبقائها في دائرة الاستعراض الذي يُجيده بريغوجين. أما الفرضيّة الثانية فمفادها أنّ ما حدث، أو بعضه على الأقل، ينطوي على حلّ مرغوب لمعضلة بريغوجين، أراد بوتين نفسُه أن يسلك هذا المسار.
سُئل بريغوجين عمّا إذا كان جائزًا تشبيهه براسبوتين، فأجاب بانفعال: "أنا لا أوقف الدم، أنا أسفك دماء أعداء وطننا الأم"
من هنا، ثمة من يدعو لانتظار الدور الذي يُحتمل أن يؤديه بريغوجين ومجموعته من "منفاه" في بيلاروسيا، على حدود أوكرانيا الشمالية. وفي المقابل، هناك من يدعو بريغوجين إلى الابتعاد عن النوافذ (في إشارة إلى أنّه قد يُرمى منها عقابًا له على "التمرّد") ــــ مثل مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية السابق ديفيد بترايوس ــــ ربما بقصد جرّ بريغوجين إلى إفصاح عن اطمئنان أو مخاوف، تُبرز معلومات قابلة للتحليل الاستخباري.
ثانيًا؛ هل اهتزّت صورة بوتين؟
الحديث عن الانقسام داخل النخبة الروسيّة يستدعي السؤال عن صورة بوتين وسطوته داخل هذه النخبة، ومدى تأثّرها نتيجة "التمرّد".
في أوّل مقالة ينشرها موقع "ستراتفور" للدراسات الأمنية حول الحدث، طُرح تحليل مفاده أن بوتين سيوظّف ما حصل لتقليص مساحة الانتقاد الداخلي لمُجريات الحرب في أوكرانيا. قد يبدو، للوهلة الأولى، أن الخطر الرئيس على بوتين إنما يأتي من ذوي الميل الليبراليّ الراغبين بوصل ما انقطع مع الغرب. غير أنّ الحقيقة تكمن في أن الاتجاه القومي المتشدّد في روسيا آخذ بالصعود، خصوصًا بعد اندلاع الحرب الأوكرانيّة. يعني ذلك أنّ الخطر قد يأتي من اليمين الشعبويّ الراغب بانتزاع "نصر حاسم" في أوكرانيا تُظهر الأيام أنّه أصبح بعيد المنال.
في الخطاب الذي ألقاه بوتين بُعيد "تمرّد فاغنر"، عقد الرئيس الروسي مقارنة بين التداعيات المحتملة لهذا الحدث وبين واقع روسيا بُعيد ثورة 1917. قصد بوتين الإشارة حصرًا إلى الحرب الأهليّة الدمويّة التي تبعت إسقاط آخر القياصرة الروس، نيكولاي الثاني. علّق البعض بالقول إنّ المخاطر في روسيا اليوم أقرب إلى تلك التي ولّدت ثورة 1905 (التي دفعت القيصر إلى القبول بتحويل نظام بلاده إلى ملكيّة دستوريّة) أو 1991 (أي محاولة الانقلاب على غورباتشيف، آخر رئيس سوفييتي).
وبمعزل عن المقارنة الأدقّ، يُفيد التذكير بأن ما زخّم ثورة 1917 كانت النتائج الكارثيّة لمعارك الجيش الروسي على الجبهة الألمانيّة. وكذا كان الأمر عام 1905، إذ جاءت الثورة يومذاك بعد الخسائر الكبرى التي مُنيت بها روسيا في الحرب مع اليابان. وبالمثل، يصحّ التساؤل عن مدى تأثير ضعف الكفاءة والفعاليّة العسكريّتين في أوكرانيا على صورة بوتين، على اعتبار أنّ "تمرّد" فاغنر ما هو إلا صدى لهذا التعثّر.
ثالثًا؛ هل يمكن الاستغناء عن "فاغنر"؟
حين سُئل بريغوجين مرة عمّا إذا كان جائزًا تشبيهه براسبوتين، الراهب الذي امتلك نفوذًا واسعًا بعدما حاز على ثقة آخر قياصرة روسيا وزعم أنه قادر على شفاء ابنه من مرض الهيموفيليا (الذي يمنع تجلّط الدم)، اغتاظ بريغوجين وردّ بانفعال: "أنا لا أوقف الدم. أنا أسفك دماء أعداء وطننا الأم".
ما زالت شركة "فاغنر" التي أسّسها بريغوجين تشكّل ذراعًا حيويّة لنفوذ روسيا الخارجي. وكما أوحى بريغوجين في ردّه على المقارنة أعلاه، تؤدي "فاغنر" أدوارًا لا ترغب روسيا بالتورّط فيها بشكل رسمي، خصوصًا في الدول الإفريقيّة التي تنخرط موسكو في صراعاتها بشكل غير مباشر مثل ليبيا، والسودان، وإفريقيا الوسطى، ومالي.
هل تحتمل روسيا أكثر من "فاغنر" واحدة؟ أم أنّ الشركات الأخرى ستؤدي أدوارًا موازنة لقدرات "فاغنر"؟
وتمتلك ميليشيا "فاغنر" شبكة واسعة من المصالح الاقتصاديّة، وعلاقات سياسيّة مع أنظمة، وقدرة هائلة على تجنيد المقاتلين، وبنية أمنيّة وعسكريّة مرنة تسمح لها بأداء أدوار مختلفة على ساحات عدّة في الوقت عينه، وهي بذلك تمثّل واحدًا من أبرز الجهات الفاعلة من غير الدول (non-state actors) في العالم.
ويحلو لبعض المحلّلين الغربييّن القول إن "فاغنر" تؤدّي دور "رأس المال الاستثماريّ في السياسة الخارجيّة" الروسيّة (venture capital in foreign policy)، أي أنها أشبه باستثمار يقوم به بوتين في شركة خاصة (تقع خارج التسلسل الهرمي للقيادة الرسميّة) لديها إمكانات نموٍ طويلة الأجل.
غير أنّ "فاغنر"، بالإضافة إلى دورها البيّن على المستوي الدولي، تشكّل أيضًا عنصرًا في التوازنات داخل روسيا نفسها. ووقوعها خارج التسلسل الهرمي يتيح خلق هذا التوازن، خصوصًا في مرحلة محفوفة بالمخاطر ــــ كما الآن ــــ قد تَبرز خلالها طموحاتٌ سياسّة لقيادات عسكريّة.
السؤال هنا هو: هل ستستمر "فاغنر" بأداء هذا الدور، في ظلّ الميل إلى تنظيم العلاقة بينها وبين أجهزة الدولة الرسميّة ومأسَسة هذه العلاقة؟ واستطرادًا، هل هناك رغبة جدّية بتفريخ مؤسسات أمنيّة مشابهة لـ"فاغنر"، تديرها شركات الغاز والنفط الروسيّة العملاقة؟
ويفيد التذكير هنا بأن شركة "غازبروم" نفّذت أوّل خطوة في هذا الاتجاه. لكن هل تحتمل روسيا أكثر من "فاغنر" واحدة؟ وفي المقابل، هل يمكن للشركات الأخرى أن تؤدي أدوارًا موازنة لقدرات "فاغنر"، وتساعد على ضبط العلاقات المعقّدة بين المؤسّسة العسكريّة الرسميّة الروسيّة وبين الكيانات المسلّحة غير الرسميّة؟ وهل هذا ممكن التنفيذ حقًا؟
رابعًا؛ ما تأثير "التمرّد" على الحرب في أوكرانيا؟
لم يسمح قِصرُ أمد "التمرّد" بأن تكون للأخير تداعياتٌ مباشرة على أرض المعركة في أوكرانيا. يفسّر هذا تصريحات مسؤولين غربيين وأوكرانيين فور شيوع الخبر، شدّدوا فيها على أهميّة الساعات الثماني والأربعين الأولى في تحديد مسار الأحداث.
أُجهض التمرّد المُفترض، أو وُضع حدٌّ له، قبل أن تتجاوز الأمور نقطة اللّاعودة. وتبيّن أنّ كثيرًا من التصريحات على المقلب الأوكرانيّ إنّما انطوى على تفكير رغبويّ أكثر من قيامه على تحليل موضوعي للمعلومات (الشحيحة خلال اليوم الأوّل).
ستحرص الصين على عدم القيام بخطوة من شأنها أن تبدو معها كمن يتدخّل في الشأن الروسي
غير أنّ الأثر الرئيس لما حصل يكمُن في انعكاساته المعنويّة داخل المؤسّسة العسكريّة الروسيّة، وكذلك على عامل الثقة بين أركانها. كذلك، فإنّ الأمر سيدفع أوكرانيا وحلفاءها، أقلّه في المدى المنظور، إلى محاولة استثمار نقاط الضعف المُفترضة التي برزت لدى الروس، إلى الحدود القصوى. وهذا من شأنه أن يُبعد احتمالات النظر في خيار التفاوض، لا إلى ما بعد استكمال "الهجوم المضاد" للجيش الأوكرانيّ فحسب، بل إلى ما بعد استنفاذ محاولات البناء على التشقّقات المُفترضة داخل المؤسّسات السياسيّة والعسكريّة الروسيّة.
خامسًا؛ ما الذي يعنيه كلّ ذلك للصين؟
لماذا السؤال عن الصين تحديدًا؟ لأنها تلعب اليوم دور الحليف "الأكبر" لروسيا. "الأكبر" بمعنى أنها الشريك الأهم لموسكو، و"الأكبر" لجهة حجمها الاقتصادي والديمغرافي بالمقارنة مع روسيا، والأهم من ذلك، لجهة تسليم موسكو ضمنًا بدور بكين "الأكبر" على المستوى الدولي.
بالطبع لا ترغب الصين في حصول اهتزاز أمني داخل روسيا. وتكمن مصلحتها البيّنة باستقرار نظام حليف ممثلًا ببوتين. وهي، إذ تراقب الحرب في أوكرانيا، تستخلص العبر في ما يخصّ ملف تايوان.
لكلّ من الصين وروسيا قدرة على تأمين ظهر الأخرى، على اعتبار أنّ حدودًا مشتركة هائلة تجمعهما (4,200 كلم). يمكن للصين، والحال هذه، إراحة موسكو في حال مواجهة الأخيرة اهتزازًا أمنيًّا في الداخل، وتسهيل تحريك بضعة آلاف من الجنود الروس في آسيا الوسطى (طاجاكستان وقرغيزستان).
لكنّ بكين، كما ورد في تقرير لـ "ذي أتلانتيك كاونسيل"، ستحرص على عدم القيام بخطوة من شأنها أن تبدو معها كمن يتدخّل في الشأن الروسي. إذ إنّ تمرير معلومات استخباريّة حول مخاطر محتملة داخل روسيا قد ينطوي على إقرار غير مباشر بأنّ أجهزة استخباراتها نشطة، وهو ما لن يعجب المؤسسة الأمنيّة الروسيّة على الأرجح. كما ستفكّر بكين دائمًا بأنّ أيّ خطوة تجاه موسكو اليوم، يجب ألا تنعكس سلبًا على علاقاتها مع أيّ رئيس روسي مُقبل.
* * * * *
بمعزل عن أهداف "تمرّد فاغنر" وما كان يمكن، واقعيًا، أن ينجم عنه، فالأكيد أنّه حجرٌ كبيرٌ مرميٌّ في مياه ساخنة داخل روسيا وتغلي على حدودها.
بهذا المعنى، لا يتّصل النقاش اليوم بما إذا كان يشكّل محطة تفصل بين ما قبلها وما يليها، بل بطبيعة المسار التالي، وبوجهة هذا المسار، وبالتالي بالإجابات المرجّحة على أسئلة محوريّة ليست هذه سوى بعضها.