"هل أنت شاعر/ة؟
?Eres poeta¿ قرأتُ السؤال، ولم أُفكر في البحث عن جواب.
بالكاد تتوقف الاحتفالات والمهرجانات في المدينة التي أعيش فيها. ثمة مقولة يردّدها الأجانب، وبشكل خاص القادمون من الشمال: "وما الحياة هنا سوى سييستا وفييستا؟" (أي قيلولة واحتفال)، ليلتبس الأمر على الفهم، هل هذا مديح أم ذمّ؟
كلّ عام، وفي النصف الثاني من حزيران/يونيو، تعيش المدينة عيدها الأهم على الإطلاق: عيد سان خوان (القديس يوحنا المعمدان)، وتكون ذروة الاحتفالات في ليلة مولده 24 حزيران/يونيو. وعلى بُعد دقائق من منتصف الليل، وقفتُ في عيد ميلاده الأخير بين جموع الناس في الساحة القريبة من بيتي، أنتظرُ أن تشبّ النار وتأكل الشعراء وكتبهم. أجل الشعراء وكتبهم.
في الأيام التي تسبق هذه الليلة، عادةً ما تنتشر في ساحات المدينة معالم فنية مشغولة بحرفية عالية، غنيّة بالألوان والتفاصيل والمواضيع، تحمل رسائل سياسية أو اجتماعية أو إنسانية، أشبه ما تكون بالتماثيل، لكنها مصنوعة من مواد قابلة للاشتعال، يتاح للنّاس التمتّع بها بضعة أيام قبل أن تُحرق ليلة 24 يونيو، وتسمّى "Las Hogueras"، أي "النار التي تضرَم في الهواء الطلق".
أما بالنسبة لي، فالترجمة الأفضل لها "راموشات أو رواميش"، وهذه ترجمة "حمصية". اعتدنا في حمص أن نحتفل منتصف شهر أيلول/سبتمبر بعيد الصليب بطريقة مشابهة، لكنها بقيت احتفالات بسيطة وعفوية إلى يومنا هذا: ينشغل أطفال الحيّ لشهور عدة بتجميع الخشب وأغصان الشجر وتخزينها حتى تأتي ليلة العيد، تكوّم الأخشاب بشكل قاعدة هرمية كبيرة في الشارع وقد ارتفع داخلها صليب خشبي، وبعد أن يصير لتلك الأخشاب اسم جديد: راموشة عيد الصليب، تشعل فيها النيران وسط موسيقى وصخب وألعاب نارية.
تولي عائلتنا اهتمامًا خاصًّا لتلك الليلة، فهي تصادف ذكرى زواج جدي وجدتي. اعتدنا منذ الصغر أن نجتمع في أرض دارهما، نسهر حتى الصباح مع الصخب القادم من الشارع ورائحة الدخان. إذًا؛ بشكل ما تلك الليلة واحدة من الليالي التي أسهمت في تكويني: زواج الجدّين، ولادة الأمّ، ..إلخ.
يعجبني أن أفكر الآن بأن حكايتي بدأت من حريق.
أشعر بأنهم عصبوا عينيّ وأنا في العشرينيات من عمري، ثم رموني هنا على بعد بضعة أيام من الأربعين
بينما أقرأ عن تاريخ احتفالات عيد سان خوان متتبعة الخط الزمني لتطور الطقوس من كونها وثنيّة الأصل إلى تصييرها دينيّة، مرورًا بكونها احتفالات مألوفة بالانقلاب الصيفي في أوروبا، عرفت أنها بدأت سنة 1928، قبل أن تُعلنها حكومة إسبانيا "مهرجانات ذات فائدة سياحية دولية" في سنة 1983، وهي السنة التي ولدتُ فيها. تفصلني أيام معدودة عن إتمام الأربعين عامًا، هل وصلت سنّ الحكمة فعلًا؟ هل بلغت أشدّي؟ أشدّي؟!
"Poesía eres tú/الشِّعر هو أنت".. هذا كان شعار المَعلم الفني البديع (الراموشة) المنصوب هنا، في هذه الساحة التي كانت قديمًا محطةً للباصات، قبل أن تتغير وظيفتها وتصير فضاء حيويًّا متعدّد الاستخدامات.
العمل يسعى لجعل الشِّعر حاضرًا في يوميات المجتمع، مع تكريم للشعراء الإسبان مثل ميغيل هيرنانديز، غابرييل ميرو، أنطونيو ماتشادو، وغوستابو أدولفو بيكر صاحب كتاب "الشعر هو أنت".
"يقول الأمل: يومًا ما ستراها، إذا انتظرت جيدًا.
يقول اليأس:
إنها فقط مرارتك.
يدقّ القلب... لم تبتلع الأرض كل شيء."
تردّدت داخل رأسي هذه القصيدة التي أحفظها لأنطونيو ماتشادو، بينما أدور مع المتفرجين حول معلم آخر منصوب قبالة المرفأ، ثيمته سعي المهاجرين نحو حياة أفضل: مركب صغير يقلّ عائلة من أصول أفريقية، داخل عيونها خوفٌ، كلّ يومٍ أرى واحدًا يشبهه في مرآتي، وراءهم لافتات "الجوع، الفقر، العنف..إلخ" وأمامهم سهم مكتوب عليه "المستقبل" يشيرُ نحو علم الاتحاد الأوروبي.
"هل أنت شاعر/ة؟
"?Eres poeta¿".. تقول إحدى لافتات معلَم "الشعر هو أنت". أمر مجدّدًا بالسؤال الذي يبدو مطروحًا بطريقة ساخرة، وأفكر أنّهم وضعوه من أجلي، وأنّ عليّ العثور على إجابة حاسمة له قبل أن تكمل شمسي دورتها الأربعين.
في الحقيقة، لقد وصلت الأربعين بسرعة لم تكن في حسباني، أشعر بأنهم قد عصبوا عينيّ وأنا في العشرينيات من عمري، ثم رموني هنا على بعد بضعة أيام من الأربعين. لقد شبّت النار في أعوامي المنصرمة ولا أدري ما الّذي أُنقذ منها، وما الّذي اختفى ترافقه طقطقة النيران.
الناس يصفّقون ويهللون للنّار التي تبتلع الشعراء. لم أكن قريبة من النار بالقدر الكافي كي أعرف إن كان لوركا قد أُنقذ من الحريق، فقد كان طيلة الأيام السابقة جالسًا داخل المعلَم، لافًّا رجلًا على الثانية، حوله ترفرف قصيدة.
يقضي التقليد بأن يصوّت الناس لاختيار ما يسمّى بـ"النينوت المعفوِّ عنه"، والنينوت هي مفردة كتلانية تعني الدمية. النينوت الذي يحظى بالتصويت الشعبي الأكبر لا يُحرَق.
قبل فترة، انطلقت مناشدات لإنقاذ نينوت لوركا في الذكرى الـ 125 لميلاده من الحرق، وبذلك "يكون المهرجان قد حقّق ما عجز عنه الواقع" كما قرأت.
هل حظيت المناشدات باستجابة، وأُنقذ نينوت لوركا؟ منذ ليلة الحرائق تلك وأنا أحاول الوصول إلى جواب قاطع بلا جدوى، وكأنما لا أحد يكترث بأن يحتفل شاعرٌ في هذا العالم بعيده الـ 125 أو الأربعين. أو ربما أنا نفسي لا أريد بحقٍّ أن أعلم.
أفكّر: ربّما على الشاعر أن يكون بشكل ما مثل يوحنا المعمدان "صوتًا صارخًا في البريّة"، وأنا بالكاد أهمس.