"والناس يُجبرون في النهاية على التفرّس في وضعهم المعيشي، وفي علاقاتهم المتبادلة بأعين بصيرة..."
(كارل ماركس وفريدريك إنجلز، "البيان الشيوعي")
عشر سنوات من الحكم المستقر ومن دون تحديات سياسية كبيرة، كانت كفيلة بصياغة نظام تنموي جديد يضمن توليدَ الثروة، وخلقَ قيمة مضافة في الاقتصاد، وزيادةَ الإنتاجية، فضلًا عن توزيع الثروة المُنتجة على أكبر قدر ممكن من السكان، أي ــــ ببساطة ــــ حل المشكلات الهيكلية للاقتصاد المصري. لكنّ أيًا من ذلك لم يحصل. بل لم يتمكن النظام المصري من تقديم حلٍّ، ولو جزئي، لأي مشكلة هيكلية في الاقتصاد المصري، وزاد المشكلات الموروثة تشوهًا وتعقيدًا.
على رأس هذه المشكلات تقف مشكلة مصر الكبرى: "رأسمالية المحاسيب"، أي تحقيق الدخل والثروة عبر الوصول إلى السلطة أو التقرب منها والاندماج معها، من خلال الاحتكار أو الاستحواذ على الأرض والحصول على العقود الحكومية، واستغلال النفوذ في ظل نظام يحكم السيطرة على السوق والسياسة معًا.
فقد انتقلنا من نظام بيروقراطي كانت شبكة المنتفعين فيه عبارة عن مجموعات من رجال الأعمال المقرّبين من عائلة الرئيس الأسبق حسني مبارك، إلى نظام أمني يضم طبقة مستفيدين أكثر تنظيمًا، ممثلين في وزارة الدفاع وهيئاتها الاقتصادية وشبكة الضباط المتقاعدين الموزعين على كامل الجهاز الإداري للدولة، بالإضافة إلى المحليات.
وبالتالي انتقلت المصالح الخاصة النافذة من القطاع الخاص إلى المؤسسة العسكرية ولواحقها، وهو ما زاد من تشوّه البنية الاقتصادية الضعيفة أصلًا، وحرم البلاد من فرصة تحقيق أيّ نموذج اقتصادي فعّال، سواء اتخذ شكل رأسمالية دولة تغطّي احتياجات السوق المحلية، أو نموذج تنموي تصديري يضمن قدرًا من التنافسية في السوق العالمية.
إعادة تدوير الفشل
جاء النموذج الاقتصادي للنظام الحالي في مصر تكرارًا فاشلًا لنموذج التسعينيات، المستند إلى مصادر ريعية، سواء كان الريع سياسيًا قادمًا من الخليج، أو اقتصاديًا متمثلًا في قناة السويس وبيع الغاز والسياحة وتحويلات المصريين في الخارج، مع نمو مفرط وزائد عن الحاجة في القطاعات غير الإنتاجية وغير التجارية، سواء في البنية التحتية أو العقارات.
وجرى التوسع في مصدر آخر للنقد الأجنبي هو القروض الأجنبية: السريعة وطويلة الأجل، على طريقة "مخطط بونزي" (كانت وزارة المالية تسدّد القروض طويلة الأجل بالقصيرة الأجل، والقصيرة الأجل بطويلة الأجل). وحتى لا نتعجل بالحكم على النظام، فاللجوء إلى القروض يمثل ميلًا طبيعيًا للدولة المصرية منذ تأسيس الجمهورية عام 1952 بحكم ضعف الإنتاجية وتدني القيمة المضافة في الاقتصاد وضعف كفاءة النظام الضريبي، وبالتالي زيادة النفقات عن الإيرادات.
حصل السيسي على فرصة ذهبية عام 2014، من خلال دعم أسطوري من دول الخليج، لكنّ الأموال كلّها تبدّدت
كلّ ما سبق مشكلات موروثة. لكنّ الفارق أن الأنظمة السابقة كانت تفضّل الاقتراض الداخلي لتمويل عجز الميزانية مع تضييق هامش الديون الأجنبية لتجنيب البلاد الصدمات المتكررة في الأسواق الدولية. وهي الخطيئة التي أنتجتها السياسات الحاليّة، إذ تسببت القروض الأجنبية، التي أدمنها الرئيس عبد الفتاح السيسي مضطرًا كما سنرى، في إدماج مصر في الاقتصاد العالمي من موقع الضعف والهشاشة، وجعلت البلاد مكشوفة أمام أي اضطرابات دولية.
ومع كل تلك القروض، فوتّت البلاد مجددًا ــــ مثلما ضيّعت التسعينيات ما بُني في الستينيات ــــ فرصة بناء قاعدة صناعية موجهة للتصدير تحل بديلًا للعملة الصعبة عن القروض.
إذ حصل الرئيس السيسي على فرصة على طبق من ذهب عام 2014، من خلال دعم أسطوري من دول الخليج، بمنح ومساعدات بلغت 90 مليار دولار، وملاءة مالية قوية للغاية تسمح بالاقتراض في حدود 120 مليار دولار، بحكم انخفاض ديون مصر الخارجية في عهد مبارك. وكان يمكن تحديث كامل القطاع الصناعي للبلد بـ 60 مليار دولار، وإنشاء صناعات قادرة على توليد قيمة مضافة عالية بما تبقّى من هذه الثروة الطائلة التي تبدّدت، ولم تكن الفرصة خافية على أحد.
لكن السيسي أراد ضخ مزيدٍ من الوقود في ماكينة التحالف الأمني. فمن أجل كسب النخبة العسكرية إلى صفه، بحكم افتقاره العميق إلى الشرعية، كان لابد من فتح خزائن الدولة أمام القطاعات العسكرية لتحصل على أكبر قدر من الغنائم.
ومثلما ساهمت القروض في إخضاع البلد، استمر الريع بدوره السلبي في تشويه البنية الاقتصادية، إذ قلّل من اهتمام الدولة بالإنتاج والتصنيع والتصدير، وجعل رأس السلطة متفرغًا لتوزيع عائدات الريع على مكوّنات تحالفه الأمني. وعليه ازدادت البنية السياسية فسادًا، فلا أحد يقدم دعمًا مجانًا في ائتلاف حاكم يرى كل أطرافه أن لا غنى عنهم لاستمرار النظام.
وفي الوقت الذي تنعدم فيه ضغوط التنافس السياسي على السلطة التي لا تسعى، لهذا السبب بالذات، لبناء قواعد اجتماعية مؤيدة، تزداد من الناحية الأخرى ضغوط المتحالفين من أجل تحصيل أكبر قدر من المنافع والامتيازات على حساب الدولة والمجتمع. وهذا أمر لا نهاية له، وهو ما جعل الرئيس أسيرًا لحلفائه في الجيش والأمن، وعاجزًا عن بناء سياسة مستقلة عن الهيئات العسكرية وشبكات الضباط المتقاعدين، وجعل الجيش في المقابل يبذل جهدًا أكبر لإرضاء الرئيس وتنفيذ توجيهاته ــــ حتى لو كان جهدًا مكلفًا وبلا عائد ــــ حفاظًا على نظام يحكم باسمه ويسهّل الطريق أمام طموحاته الاقتصادية.
في المحصلة النهائية، خسرت الدولة بجميع أجهزتها، وأصبحت مكبلة بالديون الثقيلة
ومن هنا يمكن القول إن مصادرة السياسة في البلد لم تكن انزعاجًا من الأحزاب والتيارات المسيّسة، بل نتيجة طبيعية وضرورة أمنية لتكوين تحالف أمني صلب وإعادة تشكيل أجهزة الدولة والمناخ السياسي بطريقة تجعل من تكرار ما حدث في 2011 مستحيلًا.
هذا التحالف الأمني منح الرئيس استقلالًا تامًا عن الشعب والرأي العام والسياسة ككل، وهو ما جعله يلجأ إلى الاقتراض الخارجي بهدف التوسّع في مشروعات عقيمة تفيد في إعطاء صورة إنجاز ما (أيًا كان مضمون هذا الإنجاز).
من ناحية أخرى، أصبح الرئيس بفضل التحالف الجديد مستغنيًا عن بناء قاعدة اجتماعية، فتمكّن من رفع الدعم وزيادة الضرائب وعلى رأسها ضريبة التضخم التي أرهقت البلاد وسكّانها. لقد فضّل الرئيس إعادة إنتاج نظامه على بناء نظام سياسي مدعوم شعبيًا واقتصاد ذي قاعدة إنتاجية واسعة.
في المقابل، ربطت هذه المعادلة الجيش باقتصاد مهلهل، فاستنستخ العسكريون كل الممارسات الريعية التي سادت الاقتصاد المصري على مدار الأربعين عامًا الماضية، والتي لم تسفر سوى عن اقتصاد ضعيف التخصّص، ويتميّز بضعف القيمة المضافة لمنتجاته وضعف الإنتاجية بشكل عام، ويعتمد على تصدير الغاز والمنتجات الزراعيّة (برغم الفقر المائي)، لتمويل استيراد مستلزمات التصنيع المحلي.
لقد استفادت المؤسسة العسكرية مرحليًا واستفاد بعض الضباط شخصيًا. لكن، في المحصلة النهائية، خسرت الدولة بجميع أجهزتها، وأصبحت مكبلة بالديون وتركة من الفشل الثقيل.
دولة الجيش
بدأت هذه المسيرة بتقنين سيطرة المؤسسة العسكرية على مجمل أراضي الجمهورية في 2013، وانتهت بحصول القطاعات العسكرية المختلفة على ثلث العقود الحكومية حاليًا، حتى أصبحت هي المقاول الأكبر في البلاد، فضلًا عن تنحية مؤسسات القطاع الإنتاجي كافة، وإحلال القوات المسلحة محلّها، بدءًا من مزارع الأسماك وصولًا إلى لبن الأطفال، مرورًا بتنمية المجتمعات العمرانية، وهو ما درسه يزيد صائغ بإتقان في كتابه المهم "أولياء الجمهورية".
ليس عليك أن تكتسب تأهيلًا نظريًا في الماركسية حتى تدرك أن الثروات التي كوّنها المقاولون والضباط، هي من جيب الشعب رأسًا
وقد أفادت "خطة تمكين العسكريين" آلافًا من الضباط العاملين في الهيئة الهندسية وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية ووزارة الدفاع نفسها، و"الهيئة العربية للتصنيع" التابعة للوزارة، ووزارة الإنتاج الحربي، والشركات المملوكة لوزراة الدفاع رسميًا وكليًا، والشركات المملوكة عرفيًا وجزئيًا للجيش، والشركات التابعة للعسكريين المتقاعدين ذوي الولاء للوزارة، وجيش من المتقاعدين العسكريين داخل الورازات والهيئات الاقتصادية وشركات قطاع الأعمال. وبالتالي، تحوّل الاقتصاد العسكري من جَيب محدود إلى الفاعل الأول في الاقتصاد المحلي.
لكنّ النتيجة كانت ــــ بخلاف توسّع اقتصاد الجيش على أنقاض القطاع العام وعلى حساب القطاع الخاص ــــ استثمارًا بالسلب. فكيف ذلك؟
عام 2014، كان الاقتصاد العسكري يمثل حصة ضئيلة من الناتج المحلي الإجمالي، ولم يكن أحد مشغولًا به سوى المتخصصين، وبعض الاقتصادييين ورجال الأعمال الذين أرداوا تحرير الأرض من السيطرة العرفية لوزارة الدفاع المنوطة بمنح التراخيص اللازمة لإقامة المشروعات الاقتصادية.
أما الآن، فالأنظار كلها ملتفتة للاقتصاد العسكرية. بل إن صندوق النقد الذي لطالما تعاطى بتفهّم صبور وحكيم ولطيف مع المشروعات الكبرى التي تديرها الهيئات العكسرية المتنافسة، يشترط الآن خروج الجيش من الاقتصاد، وهو شرط تفرضه السعودية بحزم أيضًا.
لقد أصبحت الشكوى من تدخلات الجيش تميمة يردّدها القطاع الخاص والسياسيون دون توقف، فضلًا عن الرأي العام الذي يرى في المكاسب التي حققها العسكريون حسمًا من "عَرَقه"، وأنه تحمّل كلفة ذلك الازدهار الوهمي، وفي ذلكَ ظِلٌ وصدىً للحكمة الماركسية القائلة: إن "تراكم الثروة في قطب واحد من المجتمع، هو في الوقت نفسه تراكم للفقر والبؤس في القطب الآخر".
لكن ليس عليك أن تكتسب تأهيلًا نظريًا في الماركسية حتى تدرك أن الثروات التي كوّنها المقاولون الذين كانوا مُعدمين قبل عشر سنوات، وفوقهم آلاف الضباط، هي من جيب الشعب رأسًا، عبر استراتيجية التوسّع في مشروعات "الفيلة البيضاء" العقيمة في الصحراء لتوفير عقود وأشغال للعسكريين والمقاولين، وكذلك عبر آلية توسيط الجيش في المقاولات بين الجهات الحكومية من ناحية ومنفّذي القطاع الخاص من ناحية أخرى، ودون حاجة لذلك التوسيط سوى "تنفيع الجيش" بـ 15%. لكن ما المحصلة النهائية؟
حين لاحت اللحظة المناسبة بعد تحطيم "الإخوان"، رأت المجموعات العسكرية العاملة في القطاع الاقتصادي أن الفرصة سانحة للاغتناء
دعنا عزيزي القارئ نفترض حسن النوايا، وأن الهيئات العسكرية المتنافسة لم تكن طامعة في البداية في مقدرات البلاد، برغم أننا نعلم جميعًا أن العسكريين كانوا يراقبون القطاع الخاص و"المحاسيب" وهم يسطون على ثروة البلاد دون رقيب ولا حسيب، اللهم إلا قربهم من عائلة مبارك. وقد رصد الباحث الاقتصادي د. محمود عبد الفضيل سطو مجموعات رجال الأعمال على ثروة البلد في كتابه "رأسمالية المحاسيب" بشكل وافٍ.
وكان ذلك السطو يثير غضبًا دفينًا في الأوساط العسكرية، لم يظهر منه سوى اعتراض المشير طنطاوي على بعض صفقات الخصخصة، وأهمهما بيع "بنك القاهرة: في العقد الأول من الألفية. وقد جرى تفسير الأمر حينذاك (وما زال التيار الناصري يتبنى هذا التفسير) بالقول إنّه إنّما يدل على "نزوع وطني" داخل القوات المسلحة التي ترمي للحفاظ على أصول الدولة. لكن، لاحقًا، اتضح أن البنك كان يُسهّل حصول بعض قطاعات الاقتصاد العسكري على التمويل اللازم للانخراط في مشروعات البنية التحتية المحدودة حينذاك.
المهم أنه حين لاحت اللحظة المناسبة عام 2013 بعد تحطيم "الإخوان" ــــ القوة المنظمة الوحيدة في الشارع السياسي ــــ رأت المجموعات العسكرية العاملة في القطاع الاقتصادي لوزارة الدفاع وهيئاتها التابعة، وكذلك المتقاعدون العسكريون، أن الفرصة سانحة للاغتناء، تمامًا مثلما فعل رجال الأعمال في عهد مبارك، وقد استغلوها بكل قوتهم. لكن ماذا بعد الاغتناء؟
أن تصبح ثريًا مسألة فردية بالأساس، فلا شيء يضاهي شعور أن تقود "مرسيدس" بعد أن كنت تقود سيارة "فيرنا" هالكة. وأنت لن تتخلى عن وضعك الجديد بكل ما تملك من قوة. لكن إذا كنت تنتمي إلى مؤسسة ما، فإن حاصل ما تفعله وزملاؤك سيلقي بظلال كثيفة عليها.
بالتالي، فإنّ فاتورة تلك المكتسبات الشخصية والمؤسسية ستدفعها البلد ككل. وبما أن الجيش في حاضر الصورة، حتى ولو لم يكن في مركزها، فإنه سيساهم في دفع أثمان باهظة. كيف؟ سنوضح ذلك في الحلقة الثانية.