تحت شعارات مختلفة، مثل إعادة توزيع الدعم إلى مستحقيه، وتخفيض العجز في الموازنة العامة، وتحسين مستوى معيشة المواطنين، صدرت في 15 آب/أغسطس جملة من القرارات التي أحدثت صدمة في الشارع السوري. إذ حلّقت أسعارُ السلع والخدمات بشكل صاروخي لحظة صدور قرارات رفع الأسعار، في تمام الساعة 12:04 من ظهر ذاك اليوم، فيما غالبية موظفي القطاع العام لم تستفد من مرسوم زيادة الرواتب حتى تاريخ كتابة هذه المقالة.
كل هذا بينما العاطلون عن العمل لا حول لهم ولا قوة. إذ لا راتب يسندهم (من باب "بحصة بتسند جرّة")، ولا شبكات حماية اجتماعية تكفلهم تطبيقًا للمادة 22 من الدستور السوري التي تنص على كفالة "الدولة كل مواطن وأسرته في حالات الطوارئ والمرض والعجز واليُتم والشيخوخة".
وبرغم أن حكومة المرسوم رقم 208 للعام 2021 برئاسة المهندس حسين عرنوس أعلنت في بيانها الوزاري أن "تحسين مستوى معيشة المواطنين هي الهاجس الأهم للعمل الحكومي، سواء من خلال الزيادات المدروسة للرواتب والأجور أو متمماتها، ومن خلال تخفيض تكاليف المعيشة، وتعزيز القوة الشرائية للعملة الوطنية، وضبط الأسواق والأسعار..."، إلا أن تدهور سعر الصرف بحدّة، وتآكل القوة الشرائية لليرة السورية، وارتفاع معدلات التضخم إلى أرقام قياسية بلغت 228% في 7 أيلول/سبتمبر من العام الجاري على أساس سنوي، وهو ثالث أعلى معدل في العالم بعد زيمبابوي وفنزويلا، جعلت الزيادة في الرواتب والأجور المقطوعة اسميّة إلى حد بعيد، إذ إنها انخفضت فعليًا بما يزيد عن 100%.
لجأت الحكومة إلى طباعة العملة لتمويل إنفاقها، كما لو أنْ لا عواقب لهذا الإجراء
بمعنى آخر، فإنّ الحكومة السورية الحالية، بعد عامين من إصدارها البيان الوزاري وثلاث موازنات سنوية، وبعد تعديلاتها الوزارية التي شملت سبعة وزراء، أخفقت في تنفيذ وعودها. وقد برّأت الحكومة نفسها عن طريق تحميل المسؤولية للظروف، من العقوبات، مرورًا بجائحة "كوفيد -19" وقانون قيصر، وصولًا إلى آثار الحرب الروسية ــــ الأوكرانية.
المتهم الحقيقي.. والمشتبه به
يعلم كلّ متابع للواقع الاقتصادي في سوريا جيدًا أن الوضع الاقتصادي في تدهور منذ مطلع الحرب ــــ وهذه نتيجة طبيعية لمعطيات الحرب وظروفها ــــ لكنّ الاقتصاد السوري دخل دوامة الانهيار عام 2019، تحديدًا بعد الأزمة المالية التي عصفت بالقطاع المصرفي اللبناني في أيلول/سبتمبر 2019، إذ كان الأخير يشكّل المحفظة السرّية للسيولة الدولارية للسوريين، المتواجدة خارج سوريا، والتي لا نملك أرقامًا دقيقة حولها، لكنها بالتأكيد كانت أكبر بكثير من الاحتياطي الدولي للاقتصاد السوري بأكمله في العام 2010.
ويوضح الشكل أدناه كيف بدأت معدلات التضخم الشهرية تزداد حدة منذ أواخر العام 2019. فقبل أيلول/سبتمبر 2019، تراوحت معدلات التضخم على أساس شهري بين قيم سالبة (أي انخفاض في معدل التضخم) وقيم موجبة (ما بين 1% و -2%)، لتتجاوز بعد أيلول/سبتمبر 2019 2% شهريًا، وتبلغ 15% في كانون الأول/ديسمبر 2019.
عليه، يمكن القول إن النظام الاقتصادي الذي كان يستجيب بخجل لمصالح الطبقة الوسطى والفقراء خلال سنوات الحرب، اختُطف بأكمله منذ ذلك الحين، ليتحوّل إلى سياسات وقرارات اقتصادية تخضع لمصالح قلّة من الأفراد، كما لو أن الأمر هدف إلى تعويض قطاع الأعمال والأثرياء عن خسائرهم في أروقة المصارف اللبنانية.
حكومات بلوتقراطية
لم يحدث التفاوت في سوريا فجأة، ولا يمكن القول إنه ناجم عن فشل فردي أو مرحلي. بل إن عقودًا من السياسات العامة أوصلتنا إلى هذه النقطة، الأمر الذي جعل الأثرياء أكثر ثراءً على حساب بقية أفراد المجتمع. والمشكلة أن معظم الأثرياء جمعوا جزءًا كبيرًا من ثرواتهم ــــ خصوصًا خلال السنوات الأخيرة ــــ لا بسبب عملهم الجاد، بل من خلال رأسمالية المحاسيب، فيما كانت غالبية السكان غير قادرة على تحمّل تكاليف العيش بكرامة، وتكافح من أجل كسب الحد الأدنى للأجور والحصول على التعليم والرعاية الصحية بحدودها الدنيا، وتعاني من نقص مزمن في الاستثمار من قبل الحكومة.
كان بإمكان الحكومات فرض ضرائب على الأثرياء، وبإمكانها أن تضع تعريفًا للثري
ما ذُكر أعلاه يعكس الملامح البلوتوقراطية للحكومات السورية المتعاقبة، حيث يتركّز هدف الحكومة على وضع سياسات عامة تفيد أصحاب الثروات الكبيرة في المجتمع. فالبلوتوقراطية هي نظام يهيمن عليه الأثرياء، أي أنها حكم الذين يملكون الثروة، أو الذين سيضمنون احتفاظ الأثرياء بالسلطة والسيطرة على عمليّة صنع القرار.
ومن الأدلة على ذلك:
- أولًا، لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من خلق فرص عمل وازنة للداخلين الجدد إلى سوق العمل. وإذا دققنا أكثر بواقع العمالة، سنلاحظ أنه ـــ بالإضافة إلى الذين يبحثون عن عمل ولا يجدونه ــــ هناك من لديه أكثر من عمل، بعضه بدوام كامل، وهناك من توقّف عن البحث عن عمل (العمّال المحبطون والحالمون بالسفر...). سنلاحظ أيضًا أن مستوى الأجور في تراجع، وهو أقل بـ 50% مما كان عليه عام 2000، أي قبل 23 عامًا. كلّ هذا بانتظار "غودو القطاع الخاص"، الذي وَعد أركانه بأنهم سيصبحون محرّكات لخلق فرص عمل في حال حصولهم على إعفاءات ضريبية وتحررّهم من القيود التنظيمية.
- ثانيًا، في ظل الانكماش الاقتصادي، ثمّة حاجة أكبر إلى تقديم خدمات عامة. غير أنّ عدم تحصيل الضرائب العادلة على الأنشطة الاقتصادية، والإكثار من الإعفاءات الضريبيّة، أّديا ــــ مع جملة من الأمور الأخرى ــــ إلى ندرة الإيرادات العامة للدولة، وبالتالي إلى تقليص الإنفاق الحكومي على الخدمات، في الوقت الذي يحتاج فيه المواطنون الأكثر فقرًا وهشاشة إلى خدمات أكبر.
- ثالثًا، برغم أن الموازنة العامة للدولة تعاني من عجز هيكلي مزمن، إلا أن الحكومة لجأت إلى طباعة العملة لتمويل إنفاقها، كما لو أنْ لا عواقب لهذا الإجراء. كان بإمكان الحكومات فرض ضرائب على الأثرياء، وبإمكانها أن تضع تعريفًا للثري، كأن يكون الشخص الذي يمتلك عقارين غير مسكونين أو غير مؤجرين في محافظة واحدة مثلًا، أو العائلات التي تكسب أكثر من 500 مليون ل. س. سنويًا، أو أي معيار قابل للقياس والرقابة.
إنّ ما فعلته الحكومات البلوتقراطية المتعاقبة كان محاولة لتحسين الميزانية العامة للدولة عن طريق تقليص الإنفاق، لا عبر زيادة الإيرادات من خلال الضرائب المباشرة، وكان محاولة لإنعاش الاقتصاد الاستهلاكي عن طريق الاستيراد، لا تنشيط العملية الإنتاجية. بمعنى آخر، لقد فاقمت الحكومات المتعاقبة فجوة التفاوت تحت ذرائع مختلفة، وساهمت في إثراء الشركات، في حين تركت المواطنين العاديين يتدبرون أمرهم بأنفسهم.