في مقالة مهمة للدكتور زيدون الزعبي يتطرق فيها إلى التناقض الظاهر في الحراك الشعبي السوري في السويداء، بين خطاب علماني وطني من جهة، وعَلَم ديني أصبح رمزًا بصريًا للحراك من جهة أخرى، يرى الزعبي أن تبنّي العَلَم ما هو إلا تعبير عفوي عن الهوية المحلية التي تتقاطع بشكل كبير في محافظة السويداء مع الهويّة الدرزيّة، ويضيف أن التعبير المحلي هذا لا يتعارض مع الهوية الوطنية التي ينبغي إعادة تشكيلها كي تكون حاضنة للهويات الفرعية.
في هذه المقالة، ومتابعة لنقاش خاص مع د. زيدون وبطلب منه، سأقدّم مراجعة لبعض المقدمات التي بنى عليها الكاتب هذا الاستنتاج. لكن، قبل الشروع في ذلك، أودّ التأكيد على أن المقالة هذه لا تهدف إلى انتقاد الخيار الشعبي، بل إلى تقديم نقد يحلّل السيرورات الاجتماعية الكامنة خلف هذا الخيار، وإلى وضعه في سياق يسمح بدراسة أبعاده من جهة، وفهم عمليّة تشكّل الهويات في الصراعات عمومًا من جهة أخرى.
من هنا، ستتطرق هذه المقالة إلى ثلاث نقاط رئيسية:
1. السيرورة التاريخية للعَلَم واستخدامه كهوية محلية
2. الديناميّات التي جعلت هذا العَلَم رمزًا للحراك
3. التداعيات طويلة الأمد لتبنّي رموز طائفية في سياق التعبير عن هوية محلية
أولًا: السيرورة التاريخية للعَلَم
يحمل العَلَم المرفوع في السويداء خمسة شرائط أفقية ملوّنة، هي كالتالي من أعلى إلى أسفل: أخضر، أحمر، أصفر، أزرق، أبيض.
ولهذه الألوان دلالات دينية يتجاوز شرحُها طبيعة هذه المقالة. لكنّ الجديرَ ذكره أن الألوان هذه ليست من صلب المعتقد الدرزي، بل مستقاة من نص اجتهادي حديث نسبيًا، يحاكي سردية فرسان نهاية العالم في سفر الرؤيا في العهد الجديد.
كذلك ينبغي الأخذ في الاعتبار أنّ كلًا من هذه الألوان يرمز إلى راية أحادية اللون. أما جمعها في علم واحد، فأنتج رمزًا بصريًا غرائبيًا منفصلًا عن الرموز البصرية المتعارف عليها في المنطقة، وشجّع على تكريس حالة عزلة ديموغرافية للدروز.
وبالعودة إلى الإمارات الدرزية، يمكن القول إنّ هذا العَلَم يختلف عمّا ظهر خلال القرون الأخيرة، بما في ذلك خلال مرحلة الانتداب وصولًا إلى خلق دويلة جبل الدروز. حينذاك، عمد الفرنسيون إلى التحقّق مما إذا كانت لدى الدروز ألوان ترمز إلى هويتهم، فطُرحت هذه الألوان ومعها هذا العلم.
واللافت أنه، في سياق الثورة السورية الكبرى التي قامت ضد الانتداب الذي أنتج عَلَم الحدود الخمسة، كان هناك ما يزيد عن 100 بيرق لقرى السويداء وعوائلها، جُلّها لونه أحمر ويحوي سيفًا أو هلالًا أو نجمة، في مقابل خمسة بيارق فقط حملت الحدود الخمسة كرمز ثانوي. وقد ظلّ الأمر على هذا النحو إلى أن استقرّ على تبنّي العَلَم الذي يحوي ألوان الثورة العربية.
مع احتكاك الدروز السوريين بسائر الدروز الذين تمايزوا طائفيًا في لبنان وفلسطين، أصبح استخدام العَلَم أكثر مقبوليّة
وقد ظهر هذا العَلم مرة أخرى إثر تشكيل الكتيبة الدرزية في الجيش الإسرائيلي، مع تعديل تمثّل في تحويل الشريطة الخضراء إلى مثلّث جانبي عليه نجمة داوود.
في المقابل، حمل معظم الدروز في خضم الحرب الأهليّة في لبنان علم "الحزب التقدمي الاشتراكي"، غير الديني. لكن، مع انتهاء الحرب، برز ازديادٌ في استخدام الرمز الديني مجتمعيًا كتعبير عن الحالة الطائفية التي أنتجتها الحرب، بحيث تجاوزت المسألة التأطير الحزبي القتالي لتصبح تعبيرًا عن حالة ديموغرافية، يكون فيها الدرزي اللبناني درزيًا أولًا، ولبنانيًا ثانيًا.
وبالعودة إلى سوريا، يمكن القول إنّ المنحى العام للأقليات الطائفيّة في هذا البلد تمثّل بالسعي إلى ريادة أحزاب قومية (عربية أو سورية) أو وطنية، عوضًا عن أحزاب ذات هوية دينية. وخلال العهد العثماني، اقتصر استخدام العَلَم الدرزي على المؤسسات الدينية وبعض الفئات المحلّية العصبويّة. لكنّه لم يكن مستساغًا كتعبير هويّاتي لتعارضه مع فكر الغالبية العلمانية من أبناء السويداء، وكذلك مع السردية الوطنية وإرث الثورة السورية الكبرى.
أما في سياق الأزمة السورية الحالية، ونتيجة للتشظي المجتمعي الراهن والإشكالية المتصلة بالعَلَم السوري الرسمي، ومع احتكاك الدروز السوريين بسائر الدروز الذين تمايزوا طائفيًا في لبنان وفلسطين، فقد أصبح استخدام العَلَم أكثر مقبوليّة، خصوصًا عند المفاصل التاريخيّة التي تتطلّب تأمين حشد شعبي كما حدث بُعيد هجمات "داعش" عام 2018، وخلال انتفاضة 2023 اليوم. ومن المهم التأكيد هنا على أن شيوع استخدام هذا العَلَم منفصل عن الحالة العقائدية للدروز، وهو، في المقابل، لصيق بالحالة العصبوية الناشئة.
ثانيًا، الديناميّات التي جعلت العَلَم رمزًا للحراك
خلال الأيام الأولى لحراك السويداء، برزت بين المتظاهرين ثلاثة أَعلام: أوّلها العلم الرسمي، وثانيها علم الاستقلال، وثالثها العلم الطائفي.
إنّ أوّل ما دفع بالعَلَم الطائفي إلى المقدمة هي الإشكالية التي ينطوي عليها كل من العَلَمين الآخرين، وعدم صلاحيّتهما لأن يمثّلا عامل توحيد للحراك.
أما العامل الثاني فتمثّل بتصدّر الرئاسة الروحية للطائفة قيادةَ الحراك، واتخاذها موقفًا متقدمًا.
أصبح أيّ نقد للعَلَم، في نظر أعدادٍ من المتظاهرين، بمثابة فعل "تآمري" ضدّ رمز وحّد الحراك
وقد أدّى تقاطع هاتين الديناميّتين إلى تسيّد العَلَم الطائفي متن التظاهرات سريعًا. ولعلّ قولَ أحد الناشطين اليساريين الرافعين للعلم إنّ "الغاية تبرر الوسيلة" خيرُ تعبير عن الجانب النفعي (المباشر) لهذا الخيار. إذ إنّ الرموز الدينية قادرة على لعب دور في الدفاع عن الحراك في مواجهة أي تصعيد أمني محتمل، كما أنها قادرة على حبك شبكة تضامن طائفي مع الدروز عبر العالم، وهو ما يعقّد الخيارات التي تقصر الحلول على بعدها المحلّي (يكفي هنا أن تنظر إلى صورة تجمّع دروز فلسطين/إسرائيل بدعوة من الشيخ موفق طريف وصور الحراك في السويداء لتتكشّف شبكة التضامن العابرة للحدود، والتي يعبّر عنها العَلَم).
بناء عليه، أصبح أيّ نقد للعَلَم، في نظر أعدادٍ من المتظاهرين، بمثابة فعل "تآمري" ضدّ رمز وحّد الحراك، بل بات في عداد قائمة "المقدّسات الثورية"، وهذه حالة مفهومة ــــ أي قابلة للتفسير ــــ مما يمكن وصفه بـ"استبداد الجموع".
ثالثًا، التداعيات طويلة الأمد لتبنّي رموز طائفية
أعود هنا إلى مقالة د. الزعبي، التي يتساءل فيها عن سبب تحفّظ البعض على التعبير عن الهوية الطائفية، بدلًا من تقبّل التعدّد الهوياتيّ في مجتمعاتنا.
من المهم، في هذا السياق، الإشارة إلى أن الهويات الطائفية في المشرق هي هويات إثنية ــــ دينية ( ethno-religious). وهي تدلّ على تشكّل إثني (ethnogenesis) حول قاسم ديني وتاريخي مشترك بين أفراد مجموعة من البشر. بهذا المعنى، فإنّ التعصب الطائفي لا ينطوي على تعصّب عقائدي فحسب، بل يتعداه إلى ولاء للطائفة (كجماعة بشريّة قبليّة أو عرقيّة، أو جماعة تضمّ أبناء منطقة جغرافية، أو لها سمات دينية محدّدة).
خيارنا كسوريين هو إما أن نقدّس حراكات تتشكل في بيئة سياسية مريضة، أو أن نشارك في دفع هذه الحراكات في اتجاهات أخرى
ويمكن القول إنّ غالبية أبناء السويداء ليسوا محافظين دينيًا. أما المتديّنون منهم فليسوا ناشطين سياسيًا. لكن، في ظل المأساة السوريّة الراهنة، يضحي مفهومًا أن تندفع مجموعات من الدروز نحو أشكال من التعبير الفئوي. إلا أن الكارثة تكمن في أن تتحوّل هذه الفئوية إلى بنى اجتماعية، وأن تُكرَّس الحالة الطارئة في النزاع السوري كحقيقة سياسية تمهّد لتأسيس بنى وطنية فاشلة، كما هو الحال في العراق ولبنان.
إنّ تبني رموز دينية للدروز يكرّس بعدًا عقائديًا ضعيفًا تاريخيًا، ويعيد تشكيل تصوّر الجماعة لنفسها، وتصوّر الآخر لها. أما محاولة "تمدين" الرمز الديني ليصبح "رمزًا حداثيًا" فمن شأنه أن يدخلنا في متاهات الأكثرية والأقلية مرة أخرى.
فإذا أصبح الرمز الديني معبّرًا عن المجتمع المحلي، ما هو وضع الأقليات المسيحية والسنية في السويداء إذًا؟ هل سيُنظر إليهم كأصلاء أم كمواطني درجة ثانية فُرض عليهم رمز الأكثرية الذي لا يمثلهم؟ هل طرطوس و اللاذقية "علويتان"؟ وهل حماة "سنية"؟ ماذا عن "السلمية"؟
إنّ الاحتفال بالتنوّع وحريّة المعتقد والاجتماع الديني شيء، وترميزه بأعلام لا مناص من تحوّلها إلى أعلام سيادية تُماهي في استخدامها، ولو سلمًا، رايات الحرب خلال النزاع، شيء آخر.
كما أنّ الظواهر المجتمعية ليست جوهريّة أو ثابتة، فهي تولد وتتشكّل في سياق اقتصادي وسياسي، كما حدث في سياق الانتداب الفرنسي الذي تمّ خلاله تصنيع العلم الهوياتي.
فلاحو السويداء في مطلع القرن العشرين أدركوا هذا بفطرتهم، ورفعوا أعلامًا تصل ولا تفرق. وخيارنا كسوريين في هذا المخاض الطويل هو إما أن نقدّس حراكات تتشكل في بيئة سياسية مريضة، أو أن نشارك في دفع هذه الحراكات في اتجاهات أخرى، تخرجنا من مأساتنا الراهنة!