ذهب، مرّ، بخور و"شيبس"
يتمّ إعلام فلسطينيين يوميًا بأن عليهم أن يهربوا من آلة القتل. عائلة يسوع فعلت ذلك، وقُتل حينها أطفال فلسطينيون أيضًا. الفارق أننا قرأنا عن ذلك في الكتاب المقدس، أما اليوم فنشاهده بالبث المباشر.
يتمّ إعلام فلسطينيين يوميًا بأن عليهم أن يهربوا من آلة القتل. عائلة يسوع فعلت ذلك، وقُتل حينها أطفال فلسطينيون أيضًا. الفارق أننا قرأنا عن ذلك في الكتاب المقدس، أما اليوم فنشاهده بالبث المباشر.
مرحبًا، أنا نسرين، نحن الآن في اليوم الـ 81 من الحرب على غزة.
أحببت أن أفتتح النّصّ على طريقة الصبايا والشباب داخل غزة، الفارق أنني أكتب وأنا على الجهة المقابلة من المتوسط.
جرّبت قبل شهرين أن أطلب من "خرائط غوغل" اقتراحًا لأفضل طريق يأخذني إلى غزة. لم تظهر لي أي نتيجة.
طلبتُ منها أن تأخذني إلى الضفة الغربية، ففعلَت. إذًا، حتى خرائط "غوغل" تمنعنا من الوصول إلى غزة بحرًا وبرًّا وجوًّا. لكنّنا نصل على أي حال، أو كي نكون دقيقين: إن غزة ومن فيها يصلون إلينا على أي حال.
75 سنة و81 يومًا من الاحتلال.
ليست المرّة الأولى التي أهمّ فيها بالكتابة خلال هذه الفترة، ولا أعرف ماذا سيكون مصير هذا النصّ، النشر أم الحذف؟
لا أعرف من أي جانب أدخل في الكتابة: الإنساني، الشّعري، الانتمائي، أم الأمومي؟ ولا أعرف إن كانت الكتابة فعلًا لائقًا أثناء الإبادة، فحتى كأس الماء الّذي نشربه يُشعرنا بالعار، نغبُّه على عجل وكأننا لا نريد رؤية أنفسنا نشرب مياهًا نظيفة بينما لدينا أحباب يقفون في طوابير للحصول على ذلك.
لاحظتُ خلال هذه المدّة أن أغلب الأمهات اللواتي كتبن أو تكلّمن عن الإبادة، من سياسيات أو ناشطات أو كاتبات أو صديقات، انطلقن من أمومتهنّ، وكأنّ الأمومة هويّة جامعة، وتحصيل حاصل أنكِ سوف تتمنّين الحياة الآمنة لكلّ طفل في العالم. كلّنا نرى في عيون أطفالنا أولئك الأطفال، وفي عيون أولئك الأطفال نرى أطفالنا. الأمر ليس حكرًا على الأمهات، فهذه الجملة نفسها وردت في إحدى مقابلات الطبيب غسان أبو ستة، حين تكلّم عن مرضاه الأطفال وجراحاتهم، وعن حكاياتهم التي يحفظها واحدة واحدة.
كيف لي، وأنا على الجهة المقابلة من البحر التي تتلألأ شوارعها بأضواء الميلاد لا بالفوسفور، أن أهتف وأحيّي موت بشر آخرين، أنا منهم أيضًا؟
أترك الكتابة جانبًا وأسارع إلى الاتصال بأمي: "ألو، ماما، أنت عن جد أصلك من فلسطين؟ أو أنا هيك مفكرة؟"
تعود أمي لتروي لي حكاية جدها ابراهيم وكنيته الأصلية. كان كاهنًا وهاجر من فلسطين إلى سوريا. لذا حملت عائلته في سوريا كنية "قسيس" بسبب مهنته. لكأنّ كل هجرة تحتاج إلى ابراهيم ما.
أردت من هذا الاتصال التأكد من أن لديّ حصّة، ولو كانت جينية من تلك البلاد. أردت التأكد من أن ذلك حقيقي، وليس أمرًا ابتدعَته مخيّلة الطفلة التي كُنتها، ومن ثمّ صدّقته وكبر معي ليصير جرحًا. فكثير من الفتيات الصغيرات يتخيّلن أنهن أميرات الحكايا، يُصدّقن ذلك، ويعشن الحكاية الخرافية بكلّ فساتينها.
أسأل أمي، أيضًا بغية التأكد: "هل تعرفين من أي مدينة قدِمَ جدّك؟"، تقول: "بيت لحم. لا أعلم إن كانت أمّي أيضًا قد اختلقت حكاية وصدّقتها، أم أنها فعلًا حكايتها".
نحن الآن في أجواء "الكريسماس". مثل كل سنة، بدأ العالم منذ مدة تجهيزاته للاحتفال بالعيد. ثمة فارق أساسي هذا العام: داخل المدينة التي بدأت فيها حكاية أمّي، المدينة التي ولد فيها الطفل يسوع، أُلغي عيد ميلاده.
مثل 17.4 مليون شخص حول العالم، أتابع فيديوهات معتز عزايزة. قبل أيام، في واحد منها، كان يتلقّى مع مجموعة من العائلات المهجّرة خبرًا يفيد بأن عليهم القيام بتحرّك جديد. هذا بالأحرى تهديد جديد يدفعهم نحو المجهول مرّة أخرى. بكلّ حيرتهم وغضبهم وإحباطهم، عليهم أن يهربوا من آلة القتل مجدّدًا.
عائلة يسوع فعلت ذلك بعد ولادته، وقُتل حينها أطفال فلسطينيون أيضًا. الفارق أننا قرأنا عن ذلك في الكتاب المقدس، أما اليوم فنشاهده بالبث المباشر. من حيث المبدأ هناك فارق آخر: اليوم يستطيع العالم أن يفعل شيئًا إزاء ذلك، لكنه ببساطة يختار ألا يفعل، وسيكمل احتفالاته بنجاة طفل ويدير وجهه لإخوته.
يبدو أن استياء الناس وخوفهم ورغبتهم البشرية الطبيعية بأن يتوقف كل شيء في الحال ويحاولوا لملمة حياتهم أثارت انتقادات ما، فكتب معتز أننا نجدهم مجرد محتوى، ونطلب منهم الصمود.
كان مخططًا أن يكون هذا النص عن خوفي من وصول الفاشيين، ومن هتافاتهم العنصرية في الشوارع، وشعورنا بالتهديد أينما ولّينا وجهنا
في واحدة من التظاهرات التضامنية التي خرجت في المدينة التي أقطنها، كانت الهتافات كالعادة تصدح بالإسبانية والعربية، وكنت أشارك في الحالتين، لكنني لست من النوع الذي يُعبّر بالصّراخ، بل بالبكاء.
مع ذلك، حرصت على أن أرفع صوتي بالعربية بما يكفي ليعلموا أنني منهم، ولست فقط معهم. أنا أنتمي إليهم وأريد منهم أن يعلموا ذلك، لكن وجدت نفسي أهتف لأمور تشعرني بالغضب، فتوقّفت.
"ارفع إيدك علّي الصوت، غزة ما بتهاب الموت".
يا إلهي، كيف ونحن على الجهة المقابلة من البحر، الجهة الآمنة، الجهة التي تتلألأ شوارعها الآن بأضواء الميلاد لا بالفوسفور، كيف لي أن أهتف وأحيّي موت بشر آخرين، أنا منهم أيضًا؟
فهمت غضب معتز والناس الذين يصوّرهم، وأريد الآن أن أهتف لكيس "شيبسي" يصل إلى طفلة تحلم به، أو للقاء طفلة ثانية بأخيها الجريح.
كان مخططًا لهذا النص أن يتحدث عن الحراك الثقافي والسياسي والشعبي في إسبانيا ضد الإبادة، عن ورود ذكر ستوريات معتز في إعلان رئيسة بلدية برشلونة السابقة، وهي الأسباب التي دفعت المدينة إلى قطع العلاقات مع دولة الاحتلال. عن وزيرة فلسطينية في الحكومة الإسبانية الجديدة، عن وزيرة الحقوق الاجتماعية في التشكيلة الحكومية السابقة ووقوفها اليوميّ معنا، عن خوفي في الفترة الماضية من وصول الفاشيين، ومن هتافاتهم العنصرية في الشوارع، وشعوري، شعورنا بالتهديد أينما ولّينا وجهنا.
كان مخططًا أن يتحدث عن كل ذلك، لكنه تحدّث عنّا، عن "نا" الجماعة هذه التي افتقدتُها لفترة طويلة. إذ تلاشى في السنوات الأخيرة كلّ ما كان يجمعني بأي مجموعة بشرية انتميت إليها يومًا، لكن الآن أعرف تمامًا من هم "جماعتي": الذين يحبون فلسطين، الّذين يريدونها حرّة، الّذين يريدون الوقف الفوري للإبادة، الّذين سيجلبون الذهب والمرّ والبخور و"الشيبس" لأطفال غزة.
"...
يجب أن أنهي هذه القصيدة الآن
أن أضغط زرّ إطفاء السّطر
أحتاج إلى خاتمة.
سوف أخبركم شيئًا: ماذا تعني لي معرفة أنه كان على والدي تحمّل وحشية الإنسان
كونه طفلًا. أفكر فيه وهو في الخامسة من عمره، يرتجف في "أرض الخوف*"
بجسده الضئيل،
بروحه الصغيرة اللاجئة،
وأودّ فقط أن أذهب كي أبحث عنه
أن آخذه بذراعيّ، وأنقذه من ذلك
أحمله وأداعبه
أن أتمكّن من احتضان الطفل الّذي كانه، وأحميه
أصطحبه من يده إلى حديقة ما
لأكل الآيس كريم، للّعب معه، للشّعور بضحكته
لدغدغته، لفعل أي شيء
من أجل فتح أبواب كانت مغلقة في داخله
ومن أجل أن ينسى كلّ ما كان عليه أن يمرّ به وهو هشّ للغاية**".
*يستخدم الشاعر هنا en tierra hostil أرض عدائية وهو عنوان فيلم The Hurt Locker في إسبانيا، اخترت جملة تجمع العنوان في إسبانيا مع عنوان الفيلم في أميركا اللاتينية "Zona de miedo" منطقة الخوف.
**المقطع من قصيدة "1950-1967: فلسطين". للشاعر والمغنّي الإسباني مروان Marwán