يبدو الحديث عن العلاقات العاطفية، في هذه اللحظة من عام 2024، معقدًا حتى قبل الخوض فيه. فالبشر اليوم يواجهون ضغوطًا سياسية واقتصادية واجتماعية تُولّد لديهم تشكيلة واسعة من المشكلات النفسية التي باتت سمةً للعصر، كالقلق والاكتئاب والوساوس وفرط النشاط. وهم، في الوقت ذاته، أمام ما يُشبه "قائمة طعام" من صفحات عدّة، تتضمن أشكالًا مختلفة من العلاقات العاطفية. ما يجعل السؤال عن "الحب" الصحي والممكن والمستدام، في ظلّ كل هذا التعقيد، من أكثر الأسئلة إلحاحًا.
غياب النموذج
العيش في 2024 يعني، بصورة أو بأخرى، العيش على جبل من الصور النمطيّة عن الحب والتعلّق والرومانسيّة التي ثبُت لكُثر فشلها وزيفها مع مرور الزمن. وهو ما أفقد الأجيال الجديدة نماذج يرغبون بتمثّلها عند الوقوع في الحب.
فلو تسنّى لروميو الاستلقاء على أريكة في جلسة علاجٍ أمام محلّل نفسي اليوم، قد يرجع بالزمن إلى اللحظة التي ماتت فيها أمه حزنًا عليه نتيجة المشاجرة التي اشترك فيها دفاعًا عن حبه لجولييت. وكان ربما سيكتشف أنّ أمه أفرطت في خوفها وقلقها المَرضيّ عليه. ومع تتابع جلسات التحليل، ربما كان سيخوض بتأثير كل ذلك عليه، ليكتشف أمورًا عن نفسه تدفعه لأن يتغيّر. وربما كان سيصبح أكثر تعقّلًا في الحب، فلا تضطر جولييت للتظاهر بالموت للاحتفاظ به، ولا يقتل هو نفسه حزنًا عليها وتقتل نفسها حزنًا عليه.
ينطبق الأمر ذاته على العديد من الحكايات التي أسَرَتنا وهيمنت على فهمنا لمعنى الحب وشكل عيشه. لكننا اليوم، وبفضل التراكم وإعادة النظر بالموروث الثقافي والرمزي حول كل ذلك، بدأنا نسائل قناعاتنا عن شكل الحب الذي نريده. ففي الظاهر، قد لا تبدو اليوم قصص شيرين عبد الوهاب وحسام حبيب أو جورج ديب (دكتور فوود) وشروق الشلواتي، بما فيها من أخذٍ ورد و"استحالة العيش من دون الحبيب"، مختلفة عن آلاف الحكايات التي تربيّنا على سماعها والتهليل لها. لكنها، لسببٍ ما، باتت تخلو من الرومانسية وتثير فينا الفزع بدل التأثر.
البحث عن غطاء للطنجرة
لفترة طويلة، تكرّس معيار "التناغم" لدى الحديث عن العلاقات العاطفية الناجحة، بوصفه المعيار الأبرز لعلاقة مستدامة. لكن هل التناغم دائمًا مؤشرٌ صادق لصحّة العلاقة أو توازنها على الصعيد النفسي؟
قد نرى شخصين يعيشان أدوار السيد والعبد في علاقة عاطفية معاصرة، لكنهما متناغمان إلى حدٍ كبير. وقد ينطبق الأمر على العلاقات السادية والمازوشية وعلاقة الرجل الغني أو الـ "sugar daddy" بعشيقته الأصغر سنًا. جميع العلاقات هذه تمثّل نماذج محدّثة "للطنجرة التي وجدت غطاءها"، وفق المقولة الشعبيّة الشهيرة، وهي علاقات تمتاز بدرجة كبيرة من التناغم.
لكن هل يمكن اعتبارها، برغم ذلك، علاقات إيجابية أو صحيّة؟
الحب بنكهة الفانيلا
بالانتقال إلى العلاقات الأحاديّة الأكثر هدوءًا والأقل تطرفًا، والتي بات يُطلَق عليها اليوم في الغرب مصطلح "علاقات الفانيلا" (أي العلاقة الهادئة والروتينية التي يكتفي الشريك فيها بالآخر)، قد لا يكون الأمر في العمق مختلفًا إلى حد كبير على صعيد الحاجة إلى التناغم في البنية النفسية.
اختار أصحاب التسمية وصف "فانيلا" لهذا النوع من العلاقات لأنّ مذاق هذه النكهة بدا مميّزًا إثر اكتشافها. لكنه أصبح، بعد انتشارها صناعيًا في إنتاج الحلويات، مكررًا وبعيدًا عن الاستثنائية. ما يعني أن التسميّة تنطوي وفق هذا المنظار على معنىً سلبي، وعلى حكم مسبق على العلاقات الأحادية مفاده أنها علاقات "مملّة ورتيبة". لكنّ نقاش صواب هذا المصطلح من عدمه ليس موضوع المقالة هذه.
من الصعب الحكم على أي علاقة عاطفية من الخارج والتأكد من أن الطرفين يشعران بأن حاجاتهما النفسية والعاطفية مشبعة بالقدر نفسه
فاليوم، حتى الأشخاص الذين يعيشون "علاقة فانيلا" مستقرة هم محظوظون، ليس لأنهم وجدوا توأم روحهم بالمعنى المُبسّط الذي رُوّج له طويلًا. فهم ربما وجدوا أخيرًا الشخص الذي تتناسب مع نواقصه نواقصهم ومع معضلاته النفسية معضلاتهم. وهذا ما يعطي مراقبي هذه العلاقة من الخارج إحساسًا بوجود نوعٍ من التناغم. وهو تناغم موجود بالفعل، لكنه تناغمٌ بين الصراعات النفسيّة الخاصة بكل منهما، وهذا ليس بالضرورة أمرًا سيئًا.
الحب غير المتناغم
مقابل العلاقات التي تنجح وتستمر، هناك علاقات كثيرة تنتهي أو تفشل لأن شخصًا ما أنتج السيناريو الذي يثير فزع شريكه أشدّ الفزع، عن قصد أو غير قصد، ما هدّد الإحساس بالتناغم أو أيقظ مشاعر دفينة لدى الشريك بالقلق وعدم الأمان. وحين يكون الحب موجودًا، يكون الألم أعمق. إذ كثيرًا ما يتحدث الناس عن "شرارة الحب"، لكنهم قّلما يتحدثون عن شرارة التوتر التي تحدث جراء التضارب العميق في الحاجات النفسية. ربما لهذا يكون الحب شديد الأذى للبعض، فهناك مواجهة عميقة مع الذات ومع الآخر، وكشف للأوراق والخبايا قلّما يحصل في العلاقات البشرية الأخرى.
سمعتُ في الآونة الأخيرة طبيبًا نفسيًا من أصدقائي يتحدث عن تأثير المرض النفسي على العلاقات العاطفية. يومها قال: "في مجتمعات اليوم لا وجود لأصحّاء ومرضى نفسيين، بل هناك أشخاص تم تشخيصهم وأشخاص لم يتم لهم ذلك". يذهب الطبيب أبعد من ذلك في الدفاع عن رأيه هذا، فيجادل بزيف المسميات والتصنيفات للأمراض النفسية في عالم اليوم، الذي تختلط فيه الأعراض والمظاهر، مولّدة توليفات لا نهائية من المشكلات النفسية.
برغم ذلك، يقول الطبيب إن الأهم في العلاقات العاطفية الحديثة، بدلًا من الانشغال بالتشخيص وإطلاق التسميات، هو البحث عن سبل لتطوير الديناميات التي تنظُم العلاقة بين شريكين، بغض النظر عن جحيم المشكلات النفسية التي يعيشها كل منهما، أو يعيشانها معًا. وكلمة "دينامية" التي استخدمها الصديق هنا هي من التسميات التي وضعها إسحاق نيوتن في شرحه لحركة الأجسام وثباتها، والفعل ورد الفعل.
وبرغم أن التفكير في "قوانين نيوتن" ضمن سياق عاطفي سيعقّد الأمر بدل تبسيطه، فما أقصدُه من الإشارة هذه هو التفكير بأنماط السلوك التي تبني التوازن بين شخصين، وتؤثر في كيفية تفاعلهما وتواصل الواحد منهما مع الآخر.
"الموت عشقًا" و"الموت غيرةً" و"العجز عن العيش دون الآخر" ليست أمورًا فائقة الرومانسية كما يبدو للوهلة الأولى
ولهذا ربما لم يكن المرض النفسي، حتى في أشد حالاته تعقيدًا، عائقًا فعليًا أمام علاقات عاطفية استمرت لأن طرفيها نجحا بطريقة أو بأخرى في عدم إشعار الشريك بالتهديد أو في زعزعة أمانه النفسي. ومن الأمثلة على ذلك قصة الحب الشهيرة التي جمعت عالم الفيزياء الفصامي جون ناش، الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء، بزوجته أليسيا. لقد نجحت هذه العلاقة العاطفية برغم ما تضمنته من أزمات، واستمرت حتى وفاة الزوجين بحادث سيارة وهما في الثمانين من العمر. أذكر مثال ناش هنا لأن الفصام يُعدّ من الأمراض النفسية المعقّدة. لكن علاقته العاطفية، برغم الانقطاعات والأزمات، ظلّت ممكنة.
مع ذلك، قد يكون من الصعب الحكم على أي علاقة عاطفية من الخارج والتأكد من أن الطرفين يشعران بأن حاجاتهما النفسية والعاطفية مشبعة بالقدر نفسه. ففي المثال السابق، قد يكون ناش وجد المرأة التي أحبته واحتضنته كما يستحق. لكن هل نالت أليسيا حصتها من الاهتمام والحب؟ على أي حال، لم تعد أليسيا موجودة للإجابة على هذا السؤال.
في عام 2024، مع تزايد نسب الطلاق في مجتمعاتنا خصوصًا، وتخلخل صورة الأسرة التقليديّة من جهة وشيوع مصطلح "العلاقات السامّة" من جهة أخرى، لا يسعنا سوى التساؤل عمّا إذا كان الحب بمعناه الصحي ما زال موجودًا، خصوصًا بعدما اتضح أن "الموت عشقًا" و"الموت غيرةً" و"العجز عن العيش دون الآخر" ليست أمورًا فائقة الرومانسية كما يبدو للوهلة الأولى.
وكما يقول خوسه أوتغا إي غاسيت في كتابه "دراسات في الحب": "هناك من يحسب الحب كبيرًا بمقدار اقترابه من الانتحار أو الاغتيال، كما فعل وارتر وعُطيل. وأنا أؤمن بعكس ذلك. فإطلاق طلقة على النفس أو قتلها لا يتضمّن أدنى نوعيّة ولا أدنى كميّة من الشعور".