التقيتُ بها للمرّة الأولى عام 2008، في بداية تكليفي برئاسة تحرير مجلّة "أسامة" للطفل العربيّ التابعة لوزارة الثقافة بدمشق. كنتُ في طور تشكيل فريق عمل لتطوير المجلّة والارتقاء بها. وكنتُ مسوّرة بالقلق. إذ لن يكتمل الفريق إن لم تشرف الفنّانة لجينة الأصيل على المجلّة. وهذه مجلّة "أسامة" العريقة ذات المكانة الخاصّة المحفورة في الوجدان السوريّ منذ نشأتها عام 1969، وهو، للمصادفة، العام الذي تخرّجت فيه الأصيل من كلّيّة الفنون الجميلة بدمشق، بإجازة اتصالات بصريّة وعمارة داخليّة، لتبدأ مشوارها الفنّيّ رسّامة في المجلّة، وفي وقت متأخّر مشرفة فنّيّة عليها.
انطلقت لجينة بخفّة المرأة الشجاعة الحالمة، غير عابئة بالدروب الذكوريّة المخصّصة للأنثى. ترسم، وتكتب، وتدرّس في كلّيّة الفنون الجميلة بدمشق، وتحاضر وتشرف على رسومات المجلّات والكتب المصوّرة، وعلى ورشات تدريب للرسامين والهواة أينما كانوا في سوريا والعالم العربي بشكل خاص. تقيم معارض فنيّة إفراديّة وجماعيّة، وتنجز كثيرًا في مجال تخصّصها في شتّى الاتجاهات الإعلاميّة، إلى أن ذاع صيتها في العالم العربيّ ودول أجنبيّة عدّة كفرنسا وإيطاليا وصربيا وإيران، حيث نالت جوائز عديدة. كانت لجينة عضوة في المنظّمة الدوليّة لكتب الأطفال بسويسرا، وفي اتحاد "بي أي بي" لرسّاميّ كتب الأطفال بسلوفاكيا، إضافة إلى عضويّتها في اتحاد الفنّانين التشكيليّين السوريّين.
بعد اتصالات عديدة، وافقت على لقائي، بثقة متزعزعة. إذ كانت قد قاطعت المجلّة لسنوات لأسباب إداريّة. في ذلك الصباح، حدّثتني عن علاقتها الأثيرة بالمجلّة، وعن قلقها وافتخارها بحضورها المتواضع آنذاك بين عتاة الرسّامين، على رأسهم الراحليْن ممتاز البحرة ونذير نبعة، وبرفقة أوّل رئيس تحرير للمجلّة، المسرحيّ الراحل سعد الله ونّوس، وأخبرتني عن مرافقتها رئيسَ التحرير الأديب زكريّا تامر، أمدّ الله في عمره، خلال المرحلة الذهبيّة للمجلّة في السبعينيات.
في لقائنا الأوّل، عرفتُ في لجينة مُصغية جيّدة. وسرعان ما وافقَت على الانضمام إلينا، لنتشارك العمل لخمس سنوات ونيّف، إلى أن غادرْتُ المجلّة نهاية عام 2013، بعد تقديمي للإدارة كتابًا لإعفائي من مهمّتي. وعليّ أن أذكر وقفتها الإنسانيّة وسندها لي خلال السنة الأخيرة العصيبة في عملي، ومحاولاتها ثَنيي عن قراري وإقناعي بمواصلة العمل. لكنّنا لم نفترق، وظلّت علاقتنا مسكونة بالاحترام والثقة والحبّ، وبإيماننا بالإنسان والحياة، إلى أن رحلت يوم التاسع والعشرين من شباط/فبراير المنصرم.
تصرّ لُجينة على رسم الشخصيّات بملامحها العربيّة، وتمتعض بلا تطرّف من تقليد الفنّ الغربيّ والمانغا اليابانيّة
كانت لجينة شغوفة بعملها وفنّها، وبالطفولة. لم تتوانَ يومًا عن الحضور إلى مكتب المجلّة، أو عن الردّ على مراسلاتي حين تكون خارج البلاد، أو في العودة إلينا بحماس واندفاع بعد وعكة صحيّة ألمّت بها. كان إخلاصها وكرمها الباذخ في تقديم خبرتها وإرشاداتها للشباب، من متخصّصين وهواة أينما وُجدوا، بمثابة مدرسة بحدّ ذاته. كنتُ أراها سحابة ماطرة، وشمسًا دافئة، وحقولاً خضراء مثمرة. كانت تشبه لوحاتها الطفوليّة. كانت تشبه ذاتها.
لم تكن مكانتها الرفيعة تسمح للغرور أو حتّى لإحساسها بالتميّز بالنفاذ إلى مسامات روحها المتواضعة تواضعَ الإنسان الممتلئ. ترفض توصيفها بأيقونة الفنّ الطفليّ السوريّ، لقناعتها بأنّ لكلّ فنّان مبدع تجربته وبصمته الخاصّة.
قلتُ لها مرّة إنّي أرى فيها طفلة لا تكبر. أعتقد أنّ هذا الإطراء الصادق كان بالنسبة لها أهمّ من أيّ جائزة. فهي ترى أنّ المختصّ في مجال الأدب والفنّ الطفليّين عليه أن يحرص على استبقاء الطفولة في داخله، ويدرك جيّدًا عوالم الطفل المتلقّي، فيمتلك سبل جذبه ليريه العالم بمنظوره هو، لا بعينيّ الكبار وإرشاداتهم الغريبة عن هواجسه وأحلامه، سواء عبر الكلمة أو خطوط اللوحة الفنيّة وألوانها. وكانت تشترط حضور الأمل وعوالم الفرح والحبّ؛ حبّ الطفل لذاته وللعالم. الطفل في حالاته كلّها، سواء كان من ذوي الاحتياجات الخاصّة أو سواه. ولأجل ذلك كلّه، كان استبقاء الطفلة في داخلها قرارًا.
كانت لجينة فنّانة تشكيليّة أيضًا، لكنّها اشتهرت أكثر في مجال الرسم التوضيحيّ. كان إحساسها بلوحاتها الموجّهة للكبار يختلف عنه بلوحاتها للصغار. تقول عن لوحاتها الطفوليّة: "هي رحلة في عالم الخيال والدهشة التي يصنعها الإبداع، هي عطائي وأمومتي. وباختصار، لوحة الطفل هي سلامي الداخليّ، هي عشقي وقلقي الذي لا ينتهي."
وعن العلاقة بين لوحتها والأدب الطفليّ، تقول: "النقلة التي حاولتُ أن أضيفها إلى رسوم الأطفال هي أن تصبح اللوحة فنيّة حقيقيّة تحمل إضافة إلى التكوين حسًّا وعاطفة تميّزها عن أيّ عمل آخر، فهي جزء من الفنّان. وطبعًا كنتُ أريد أن أنقل الرسوم التوضيحيّة إلى مستوى لوحة للطفل، فهذه نقلة نوعيّة ليست سهلة، وقد استغرقتني سنوات طويلة حتّى استطعتُ أن أُدخل تقنيّة اللوحة وحسّها للعمل المقدّم للطفل، وهذا العمل انعكس إيجابًا على عملي بأنّي أصبحت أستفيد من اللوحة لكتاب الطفل ومن كتاب الطفل للّوحة."
كانت الأصيل أصيلة في عشقها لمدينتها دمشق، ولوطنها وتاريخه وتراثه. تصرّ على رسم الشخصيّات بملامحها العربيّة، وتمتعض بلا تطرّف من تقليد الفنّ الغربيّ والمانغا اليابانيّة. وكانت تقدّم ملاحظاتها للرسّامين، باحترام ومراعاة حانية، ليتلقّوا الانتقاد بروح طامحة للأفضل. وكانت تطالبهم بالرسم بأصابعهم التي تنبض فيها أحاسيسهم كي تلامس أحاسيس المتلقّي، وهو ما يعجز الكمبيوتر عنه. تُراهن على انجذاب الطفل الدائم للوحة في كتاب ورقيّ، بشرط تحقيقها الحسّ الجمالي، مهما اشتدّ تعلّقه بأدوات التكنولوجيا.
كانت معجبة بالجيل الشاب، وتُدهش لإبداعه الجديد المغاير. في المقابل، كان رسّاموّ المجلّة جميعهم على قدّ المسؤوليّة والجدّيّة. واليوم، أذكرهم والفريق الكبير عددًا وأخلاقًا ورُقيًّا، من بقي منهم هنا، ومن في الشتات. وأشعر أنّنا نتشارك وقفتنا الموجعة على ضفّة لجينة الأصيل، النهر الذي انقطع مساره على الأرض السوريّة، لكن ذاك الذي سيبقى متدفّقًا في الذاكرة والوجدان.
لُجينة الأصيل، شكرًا على المكانة الوسيعة وِسع روحك الثرّة التي بنيْتيها فينا وفي الفنّ الطفليّ.
برحيلك يا صديقتي تمزّق الهواء مجدّدًا، وانخفض منسوب الأوكسجين أكثر.
وعلى روحك السلام.