لا فرق جوهريًا بين جمهور الدراما التلفزيونية، وحشود مباريات كأس العالم لكرة القدم! كلاهما يعيش الحمّى نفسها التي تستدعيها الفرجة، طوال شهرٍ كامل، حيث تعمل ماكينة السوشال ميديا بأقصى طاقتها على استقطاب الجمهور إلى هذا المسلسل أو ذاك بوصفه الوليمة الأكثر دسمًا.
ولكن ما إن نتورط بدخول الملعب حتى نكتشف فداحة الخسارة، وذلك باللعب في منطقة الخلاء، من دون أن تُسدّد الكرة إلى من يعنيه الأمر مباشرة. هناك من يعبث بالذائقة عبر خطط جهنمية لتوطين السخافة والسفاهة بوصفهما الملجأ النهائي للأرشيف البصري الراهن، بسطوة الميزانيات الضخمة التي تهدرها شركات الإنتاج على تسلية عابرة. لكنّ انحسار المفردات الثقافية الأخرى وضع هذه التسلية في الواجهة كنوع من "العلف الدرامي" الجماعي في ترويض الجوعى، وذلك باستقطاب كتّاب سيناريو شبه أميين في تصدير حبكات سطحية تُلهي المشاهد عن همومه الحقيقية في نزهات بصرية لا تشبه حياته أو قضاياه المعيشية أو تطلعاته.
هكذا، بات النجم التلفزيوني رمزًا ثقافيًا وصاحب فتوى في قضايا يجهلها. وإذ بحفنة من النجوم الذين تحتكرهم شركات إنتاج معدودة يتناوبون على الشاشة في قصص مُستوردة بما يشبه القصّ واللصق، بقصد إزاحة البيئة المحليّة عن الرؤية.
لم يكن الانغماس بموجة الدراما التركية المدبلجة إلا مقدمة تمهيدية للاحتلال التركي لمدن وقرى الشمال السوري. قد يبدو هذا الرأي متطرفًا، لكنه في العمق يصب في تيار يدعو إلى ما يمكن تسميته "الدراما السائلة"، تلك التي تمحو الحدود بين البلدان وتنبذ ثقافتها الأصلية. وإذ بنا إزاء خيارين: إما دراما بلاستيكية محليّة بلا طعم، أو فخامة بصرية بخلائط مقتبسة من مسلسلات وأفلام أجنبية.
كل ما شهدته المنطقة من نكبات وزلازل وحروب وهزائم، ظلَّ خارج عناية مؤلفي، بل مولّفي، هذه المسلسلات
اللافت في هذه الدراما توسيع رقعة الجغرافيا السائلة، تلك التي تهشّم الهويات المحليّة والبيئية لمصلحة دراما هجينة محمولة على قصص غرامية، كأنها مستلّة من "روايات عبير"، فيما يصدّق أبطالُها مهارتهم في التشخيص بتقليد ممثلين هوليووديين في الحركة والتعبيرات الجسديّة. فصارت لدينا نسختنا العربية من آل باتشينو، وودي ألن، وبراد بيت، فيما لم تتمكّن جوليا روبرتس، ومارلين مونرو، وبينلوبي كروز المصنّعات محليًّا في كراجات الدراما، من إبراز قدراتهن الخاصة بسبب عمليات التجميل المُفزعة، واستهلاك مختلف أصناف البوتوكس والميك آب. لم يعد الورق مهمًا، أو أنه لم يعد موجودًا، عدا عقود الشركات ورقم الأجر المرتفع لهذا النجم أو ذاك، على حساب المحتوى.
ولعلّ أفضل تعليق سمعتُه في هذا الشأن من إحدى السيدات، يختزل ما نحن فيه من طبخات نيئة: "لماذا اختفت قناة فتافيت من شبكات البث؟". لا زيت بلديًا على مائدة دراما رمضان هذا الموسم، وكلّ موسم! زيوت مهدرجة بخلائط عجائبية لا تصلح للفتوش ولا للسَلَطة. طهاة هواة يصنعون وجبات بائتة من بقايا مخلّفات الآخر، يرشّون ملحًا فاسدًا لتحسين النكهة، من دون جدوى.
كأن نظام التفاهة، وفقًا لعنوان كتاب آلان دونو، قد ألقى بظلاله على كل السلع. لا صناعة ثقيلة في مطحنة الدراما إلا ما ندر. بالكاد نتابع دقائق من هذا المسلسل أو ذاك بصرف النظر عن جنسيته، فالجغرافيا السائلة أطاحت خصوصية الهوية أو البيئة أو النبرة المحلية. وإذ بالممثل أقرب إلى الروبوت وهو ينطق حواره المفترض، سواء كان عاشقًا أم لصًّا أم بطلًا شعبيًا، فيما استوردت الشاشة دزينة كاملة من الدمى المغطّسة بالبوتوكس تصلح لكل الأدوار واللهجات وقصص الحب والخيانة والمكائد.
كأنّ كل ما شهدته المنطقة من نكبات وزلازل وحروب وهزائم، ظلَّ خارج عناية مؤلفي (مولّفي) هذه المسلسلات، الذين اتّكأوا على قطع غيار من الدراما التركية والهندية والأميركية المدبلجة أو المقتبسة لإعادة تدوير هذا البلاستيك الذي يسيل من الشاشات، من دون توقّف.
في هذا السياق، يشير زيجمونت باومان إلى اندحار الحداثة الصلبة لمصلحة السيولة، حيث تتخلى الدولة عن دورها بكبح جماح الأفراد لصالح الجموع، وذلك بفتح السوق أمام تكنولوجيا التواصل التي تعمل بنهمٍ على استهلاك العواطف والعلاقات الإنسانية.
هكذا، بممحاة ضخمة، شطبت شاشات التسلية مؤقتًا دراما غزة التي تُكتب كل يوم باللحم الحي، لتنتصر دراما التسلية وحدها بجحافل من النقّاد الهواة في تبجيل هذه الأعمال.