يُخبرنا مسلسل "الحشاشين" أنّ ابن الصبّاح تمكّن بعد نجاحه في تفسير المنام لوالدة الخليفة، من أن يحظى بلقاء المستنصر، الذي طمأنه بأن الإمامة من بعده لنزار.
والحالُ أن المراجع التاريخية هنا تنقسم ما بين تلك التي تستبعد تمكّن ابن الصباح من لقاء الخليفة، خصوصًا أن التضييق عليه في القاهرة حمَلَه لملازمة الاسكندرية قبل أن يُجبر على مغادرة مصر، وبين ابن الأثير الجزري (1160 ـــ 1233) في "الكامل في التاريخ"، وعنده أن ابن الصباح "وصل إلى مصر ودخل على المستنصر صاحبها فأكرمه وأعطاه مالًا وأمره بأن يدعو الناس إلى إمامته، فقال له الحسن فمَن الإمام بعدك؟ فأشار إلى ابنه نزار وعاد من مصر إلى الشام والجزيرة وديار بكر والروم ورجع إلى خراسان ودخل كاشغر وما وراء النهر يطوف على قوم يضلّهم، فلما رأى قلعة ألموت واختبر أهل تلك النواحي، أقام عندهم وطمع في إغوائهم ودعاهم في السرّ وأظهر الزهد ولبس المسح فتبعه أكثرهم".
أمّا المؤرخ المعاصر فرهاد دفتري، فيركّز على إدراك ابن الصبّاح خلال مكوثه بمصر أنّ الدولة الفاطمية في زمانه باتت تفتقر إلى الوسائل والهمّة لمساعدة الإسماعيليين الشرقيين في صراعهم مع الدولة السلجوقية.
غير أن الأحداث تجري تاريخيًا بتسلسل معاكس على طول الخط لمسار المسلسل: فابن الصبّاح لم يعمل في الإدارة السلجوقية بعد عودته من مصر، وإنما عمل فيها قبل ارتحاله إليها بسنوات. وأُبعد حَسَن عن هذه الإدارة آنذاك بعدما أثار حفيظة الوزير نظام الملك الطوسي، الذي كان أكثر تشددًا تجاه "الباطنية" من السلطان السلجوقي، وهو موقف يرتبط بالتمذهب الشافعي ــــ الأشعري لنظام الملك، في مقابل التمذهب الحنفيّ للسلاجقة.
كما أنه ليس من الواقعي تصوير نظام الملك وابن الصباح وعمر الخيام كما لو أن الرابط بينهم صداقةُ تتلمذ على يد الشيخ النيسابوري، وأنهم أقسموا يافعين على عهد الوفاء لصداقتهم مدى العمر، وأن يأخذ الواحد منهم بيد الآخرين إذا ما تبوأ منصبًا رفيعًا، خصوصًا أن نظام الملك يكبر ابن الصباح والخيام بعشرين عامًا، ويُستبعد أن يكون زميلهما في الدراسة.
بعد إبعاده من مصر، في زمن خلافة المستنصر وليس بعد مماته، أمضى حسن الصباح تسع سنوات في العمل الدعوي الإسماعيلي في البلاد الإيرانية، حيث تنقّل بين الجماعات الإسماعيلية التي كانت تتعرض أكثر فأكثر لسياسات التضييق عليها. فجال في خراسان وكرمان ويزد وجيلان ومازندران، قبل أن يركّز على المناطق الجبلية في قزوين والديلمان، "التي مثّلت تقليديًا مناطق لجوء آمنة للعلويين" (دفتري)، وهي على المذهب الزيديّ أساسًا، إلى أن نجحت الدعوة الإسماعيلية في التغلغل والانتشار في هذه المناطق في ذلك الوقت.
في "المسلسل الرمضاني"، تظهر الأمور كما لو أنّ الإمام المقتول لم يزل إمامًا، مع الإقرار بأنه قُتل
ما أدركه حسن ابن الصبّاح في مصر أن الدولة الفاطمية لم تعد تولي اهتمامًا حقيقيًا بنشر الدعوة الإسماعيلية شرقًا، فالزمن لم يعد زمن حميد الدين الكرماني والمؤيد في الدين الشيرازي والحفاوة في مصر للدعاة الإسماعيليين القادمين من ايران. وثمة أساس قوي للاعتقاد بأن بدر الدين الجمالي كان أميَل إلى التشيع الإثني عشري، تأثرًا بمالكيه السابقين من بني عمار في الشام.
ما تلمّسه ابن الصبّاح في المقابل، خلال طوافه في إيران، هو التوتر بين الفرس والحاكم التركي السلجوقي. هذا العنصر الفارسي اهتم بابرازه حَسَن لاحقًا، برغم انتمائه إلى عائلة من جذور عربية. فقد عمد ابن الصبّاح لاحقًا، في زمن قيام "دولة ألموت"، إلى اعتماد اللغة الفارسية كلغة دينية أساسية للإسماعيليين النزاريين الفرس، ولو بقيت اللغة العربية أساسية للإسماعيليين النزاريين السوريين.
لم يكونوا "حشاشين" بعد
ترك ابن الصبّاح مصر قبل أربعة عشر عامًا من وفاة الخليفة المستنصر بالله، وبالتالي يستحيل أن يكون في القاهرة لحظة وفاة الأخير. وعندما ظفر ابن الصبّاح عام 1090 بقلعة "ألموت" وحوّلها إلى قاعدة أساسية لدولة في طور التكوين، تتشكل حول سلسلة من القلاع والحصون الجبلية، كان المستنصر بالله ما زال على قيد الحياة في مصر، وولي العهد نزار لم يُطح به بعد.
أما في المسلسل الفانتازي، فتجد حسن الصبّاح في القاهرة عند وفاة الخليفة المستنصر بالله، الحاصلة عام 1094، ويتمكن بعدها من مخادعة بدر الجمالي (المتوفّى قبل المستنصر في الحقيقة) والعودة بعد نجاته في البحر إلى أصفهان، حيث تعهّد له بوظيفة في "بيت سرّ السلطنة" بدعم من الوزير نظام الملك الطوسي (المقتول في الحقيقة قبل عامين من وفاة المستنصر) وموافقة من السلطان السلجوقي ملكشاه (رحل بعد أسابيع من وزيره) بعد تردّد، قبل أن يكتشف أمر مؤامرته لاغتيال الخليفة العباسي (لم يحصل شيء من هذا) حين قدومه إلى المدينة الإيرانية بعد ذلك، فيسجن ويعذّب (هذا تهويم)، ثم يتمكّن من الفرار من سجنه بالحيلة، وبعدها فقط في المسلسل يرحل باتجاه الديلم، ويظفر بقلعة "ألموت".
عام 1087، كان حسن بدأ يُعدّ العدّة للسيطرة على قلعة "ألموت". تمكن من ذلك بعد ثلاث سنوات، أي عام 1090. اغتيل نظام الملك عام 1092، وتوفي السلطان السلجوقي ملكشاه في العام نفسه. كل ذلك والخليفة المستنصر بالله لم يمت بعد! أربع سنوات تفصل بين سيطرة هذا الجزء المتّقد والمتحمس من الإسماعيليين الشرقيين على قلعة "ألموت"، وبين وفاة الخليفة المستنصر واندلاع أزمة الحكم بين المستعلي وبين نزار.
لم يحصل قبل الرحالة ماركو بولو في نهاية القرن الثالث عشر، أي بعد الصبّاح بقرنين، أن ربط أحد إسماعيليي "ألموت" بتسمية الحشاشين!
المسلسل خرافيّ إذًا من حيث الرقم القياسي للمغالطات التاريخية فيه. يُضاف إلى هذا كله أن أمير الجيوش بدر الجمالي توفي قبل وفاة الخليفة نفسه في الواقع التاريخي، ومن قام بدعم أحمد المستعلي في معركة الخلافة بعد وفاة المستنصر كان نجل بدر، الأفضل ابن بدر الجمالي أبو القاسم شاهنشاه، وليس بدر (بحسب هوى مدبّجي سيناريو المسلسل).
وكان "الأفضل" قد ورث أباه في الوزارة قبل وفاة المستنصر. أما نزار، فلم يُقتل في الحال، بل اعتصم بادىء ذي بدء في الاسكندرية، وقام بعد ذلك بعام بثورة فاشلة أدّت إلى سجنه وإعدامه في القاهرة.
في "المسلسل الرمضاني" تظهر الأمور كما لو أنّ الإمام المقتول لم يزل إمامًا، مع الإقرار بأنه قُتل، وهذه لم تخطر على بال أحد من الإسماعيليين في ذلك الوقت.
عندما قُتل نزار، لم يكن ابن الصبّاح في مصر، بل كان للعام الخامس على التوالي في قلعة "ألموت"، ولا ندري متى بالتحديد بَلَغَه الخبر، وما إذا حصل شكّ لفترة بأن نزار لم يزل حيًّا، لا سيّما أنه سُجن قبل أن يُعدم.
سمع ابن الصبّاح، وهو على رأس الدعوة في "ألموت"، بخبر خروج نزار، ولي العهد المُنحّى بقوة الأمر الواقع في القاهرة، ثمّ وَرَدَه خبر فشل تمرد نزار وسجنه وإعدامه. وربما كابر ابن الصبّاح على خبر مقتل نزار لفترة، ولا يمكن تحديد متى اعتبر اسماعيليو "ألموت"، وقد أصبحوا من ذلك التاريخ "نزاريين"، أن الإمامة عادت مجددًا من طور الظهور إلى طور الستر، كما كانت عليه حالها قبل خروج الإمام عبيد الله المهدي، مؤسس السلالة الفاطمية، من دور الستر عام 909م، إثر انتقاله من السلمية في الشام إلى شمال أفريقيا.
غربة مصر عن تاريخها الفاطمي
لسنا أمام مسلسل مليء بالمغالطات التاريخية. بل هو مسلسل كلّ ما فيه مغالطات. في الواقع، تَرحل هذه الشخصيات عن دنيانا بهذا الترتيب: نظام الملك، فملكشاه بدر الجمالي، فالمستنصر.
في المسلسل، الترتيب يبدأ برحيل المستنصر قبل كل هؤلاء! هذا طبعًا قبل أن ننتقل إلى بدء الحملات الصليبية في المسلسل قبل سيطرة الفرقة "التعليمية" على "ألموت"، في حين أن أول هذه الحملات حصلت بعد ذلك بسنوات عديدة.
و"التعليمية" (التي تقول بأن مصدر العلم هو التعليم من قِبَل الإمام) هو اسم فرقة حسن الصبّاح الأشهر في ذلك الزمن، قبل أن يشتهر لقب "الفداوية" (الفدائيون). أما "الحشاشين" و"الحشيشية" فهي تسمية أشاعها الفرنجة، وربما تكون مستقاة من مصدر محلي، لكنّها تسمية متعلّقة بالإسماعيلية النزارية الفدائية في قلاعها ببلاد الشام، وليس في "ألموت" نفسها، وليس في قرن حسن ابن الصبّاح بل بعده بزمن طويل.
كذلك "شيخ الجبل"، فهو في الأساس لقب متعلق براشد الدين سنان، زعيم الفداوية في سوريا، والمولود بعد وفاة حسن الصباح. لم يحصل قبل الرحالة ماركو بولو في نهاية القرن الثالث عشر، أي بعد الصبّاح بقرنين، أن ربط أحدٌ إسماعيليي "ألموت" بتسمية الحشاشين!
يعكس الكم الهائل من الخفة في البناء على كرونولوجيا الأحداث التاريخية حجمَ غربة مصر المعاصرة عن تاريخها الفاطمي. لقد عاشت مصر لقرنين ونيّف في ظل الخلافة الشيعية الإسماعيلية الفاطميّة. مع هذا، وبرغم أهميّة ما شكّله الفاطميّون في حياة وادي النيل، وبرغم كثافة الإنتاج في "الدراما التاريخية" المصريّة، وما تحفل به من أعمال استرجعت سِيَر خلفاء وفقهاء وشعراء من التاريخ الإسلامي، إلا أن التغطية الدرامية للمرحلة الفاطمية بقيت ممتنعة.
حاول الأيّوبيون تعويض التأخر الزمنيّ في إحياء السنّة وهجر التشيّع، فعمدوا ما استطاعوا إلى دثر آثار الدولة السابقة
ولأجل هذا، يجوز القول إنّ مسلسل "الحشاشين" يشكّل استثناء برغم الرقم القياسي للأغاليط فيه! أقلّه من حيث تناول موضوع يمتّ بصلة للفاطميين، وتجري بعض وقائعه الأساسيّة على أرض مصر نفسها. لأول مرة، ثمة مسلسل مصري يتناول المرحلة الفاطمية في جزء منه.
ولئن ميّزت الأكاديميا الغربية في مجرى محاولاتها، وبالشكل الذي كرّسه المؤرخ الأميركي مارشال هودغسون في "مغامرة الإسلام"، بين مرحلة أسمتها "القرن الشيعيّ" بين النصف الأول من القرن العاشر والنصف الثاني من القرن الحادي عشر، وبين مرحلة "الإحياء السنّي" التي دشّنها ـــــ وفقًا لهذا التحقيب ـــــ دخول السلطان السلجوقي طغرل بك إلى بغداد عام 1055، فإنّ حكم "الخلفاء ــــ الأئمة" الشيعية الإسماعيليّون دام في مصر بشكله الإمبراطوريّ حتى العام 1171، إلى أن قَوّض دولتهم صلاح الدين الأيوبي.
بهذا المعنى، يكون الإحياء السنّي تأخّر قرنًا ونيّفًا في مصر عنه في إيران أو العراق وقتها. وقد حاول الأيّوبيون تعويض هذا التأخر الزمنيّ في إحياء السنّة وهجر التشيّع، فعمدوا ما استطاعوا إلى دثر آثار الدولة السابقة، فأحرقوا الكتب وسوّدوا الصفحات، واستمرّ أثر هذه "القطيعة" مع التاريخ الفاطميّ لمصر والشام والحجاز إلى يومنا هذا.
مئتان واثنان من الأعوام قضاها "الخلفاء ــــ الأئمة" الشيعة الإسماعيليّون الفاطميّون في حكم مصر فعليًا أو رسميًّا، وفي حكم بلاد الشام والحجاز فترة طويلة من هذه المدة انطلاقًا منها. انقسم تاريخ هذه الدولة عندما حلّ أركانها في مصر آتين من شمال غرب أفريقيا، بين حقبة أولى كانت الأمرة فيها للسلالة الحاكمة، ومرحلة ثانية آل فيه الأمر للوزراء والعسكر، وهذا دأبُ معظم نظم الحكم الإسلاميّة بالعصر الوسيط.
لم ينجح الفاطميّون في حمل أكثرية المسلمين على اعتناق مذهبهم في أراضي دولتهم. هذا في وقت لم تكن فيه أكثرية سكان مصر قد اعتنقت الإسلام بعد. لكنهم نجحوا في المقابل في بثّ "الدعوة" الإسماعيليّة خارج حدود دولتهم، بشكل حيويّ ظلّ يقضّ مضاجع أخصامهم المذهبيين والسياسيين لفترة طويلة.
ماهى الإسماعيليّون بين فاطمة وكوكب الزهرة والكوكب الدرّي الوارد ذكره في القرآن "كأنّها كوكب درّي يوقد من شجرة مباركة زيتونة"
بقي للفاطميين آثارهم في مصر، ومنها جامع الحاكم بأمر الله في شارع المعزّ، ومسجد زاوية الجيوشي على حافة "جبل" المقطّم، وكلاهما أعيد ترميمه حديثًا. أمّا الطائفة المقابلة لهم، النزاريّة، فحضرت بالأثر الحديث: مقبرة الآغا خان الثالث، المتوفى سنة 1957، في أسوان، والمستوحاة من تصميم المقابر الفاطمية القديمة.
إنّما، بالمجمل، توارى التشيّع في مصر لصالح كل من التسنّن والتصوّف. ويتصل هذا بشكل أو بآخر بواقعة أنّ مصر دخلت في التشيّع أوّل ما دخلته من البوابة الإمبراطوريّة. كان التشيّع الفاطميّ فيها هو دين الإمبراطور، "الإمام ــــ الخليفة"، في حين اكتسب التشيّع في عراقَي العجم والعرب شرعيته مطوّلًا من "نقد الإمبراطوريّة" بسلالتيها الأموية ثم العباسية (بمثل ما نشأت شرعية "أهل الحديث" هناك أيضًا من خلال أخذهم المسافة عن السلطة، كما هو باد في "محنة" أحمد ابن حنبل).
تغييب الإسماعيليّة كـ"دين فلسفي"
يبقى أنّ الـ202 سنة من التاريخ الفاطميّ لمصر كانت حافلة بعهود وتقلّبات، وبأفكار وإبداعات يصعب حصرها، وبعودة المكانة المحورية لمصر في حوضي البحرين الأبيض والأحمر، لا سيما أن الدولة الفاطمية كانت في المقام الأوّل دولة الأسطول البحريّ، العسكريّ والتجاريّ، وانقلابًا على ألف عام من تهميش مصر في الجغرافيا السياسية.
فمنذ زوال مُلك البطالمة إثر معركة أكتيوم 31 ق.م، وحتى الفتح الفاطميّ لمصر على يد جوهر الصقلي 969م، كانت مصر مستتبعة لإمبراطورية تجد مركزها في روما، أو في القسطنطينية أو دمشق أو بغداد. سيفتتح الفاطميّون في المقابل خمسة قرون من عودة وادي النيل إلى المحورية في الجغرافيا السياسية، إذ استمرّت الحال كذلك بعدهم، مع الأيوبيين والمماليك، إلى حين ضمّ مصر إلى الإمبراطورية العثمانية عام 1517، في أعقاب معركة الريدانية.
لقد حملت المدينة التي أسّسوها، بديلًا عن العاصمة السابقة "الفسطاط"، صيغة المؤنّث للاسم الذي عرفت به العرب كوكب المرّيخ: "القاهر". وحفظ "الأزهر" الذي أسسوه صيغة المذكّر للزهراء، فاطمة بنت محمّد، وللزهرة، ثاني كواكب المجموعة الشمسية من حيث قربه من الشمس.
وقد ماهى الإسماعيليّون بين فاطمة وكوكب الزهرة والكوكب الدرّي الوارد ذكره في القرآن "كأنّها كوكب درّي يوقد من شجرة مباركة زيتونة"، فيما سمّى الخلفاء الفاطميّون قصورهم بـ"القصور الزاهرة".
لاسمَي القاهرة والأزهر إذًا علاقة صميمة بالعرفان الإسماعيليّ، القائم بشكل أساسيّ على الكوزمولوجيا، أي على تصوّر للكون تندرج فيه الأفلاك والطبائع والنفوس والأشخاص. هذا في إطار المسعى الإسماعيليّ للوصل بين نظرية الفيض الأفلاطونيّة المحدثة، التي تقول بـ"صدور" الواحد عن الواحد، وبتسلسل العقول المفارقة التي تسيّر حركة الأفلاك والكواكب السبعة، وبين الوحدانية الإبراهيمية القائمة على ثلاثية "خلق" العالم بالأمر الإلهيّ، وتنزيل الشرائع عليه بـ"الوحي"، والآخرة بما تتضمنه من "بعث" وحساب.
تَمثّل هذا الوصل بين عالم الفيض وعالم الخلق بدفع التنزيه الإطلاقي الإسلامي إلى أقصاه، إنما بالشكل الذي سيثير حفيظة سواهم من الفرق والمذاهب. فالإله المتعالي في الإسماعيلية هو فوق الوجود وفوق الماهية. الأمر الذي اختلف معه ابن سينا، مع أنه نشأ في عائلة إسماعيلية، الذي طوّر نظريته الخاصة في موجوديّة الله: نظرية "واجب الوجود".
أما الصفات التي تخاصمت بصددها فرَق علم الكلام، ما يثبت منها للباري وما يُنفى عنه، فقد اعتبر الإسماعيليّون أنّ المعنيّ بها هو الموجود الأوّل، وليس الإله المتعالي ذا الاسم المحجوب، مع فارق أنّ الإسماعيليّة لم يلتزموا بالخط الأفلاطونيّ المحدث على طول الخط.
لا يَظهر أي أثر للإسماعيلية كـ"دين فلسفيّ"، لا في مسلسل "الحشاشين" ولا في السجال حوله
وبخلاف جماعة "إخوان الصفاء" مثلًا، الذين اعتبروا أن الموجود الأوّل ينبثق بالفيض والإشراق عن الله، أبقى الإسماعيليّون على "نظرية الخلق" الإبراهيمية معدّلة، بأن جعلوا الموجود الأوّل هو "المُبدَع الأوّل". فالإله المتعالي، المنزّه عن الوجود والموجودية، أبدع للعالم مبدأه الأوّل، والصفات الجمالية والكمالية تناط بهذا المبدأ الأوّل، لأنه إذا كان الله أبدعه، فهو أبدعه منذ الأزل، "قديمٌ زمانًا وحادثٌ ذاتًا"، على ما راجت المقولة بصدده.
تتجلّى في تعقيدات التصوّر الإسماعيليّ حول الألوهة والوجود واحدة من أهم لحظات التلاقح بين الفلسفة والدين في التاريخ الإسلامي والكوني. لكنها تُظهر أيضًا كم يسهل اختزال هذا النمط من التصوّرات من قبل المعادين لها. فأعداء الإسماعيليّة رأوا في تنزيه الله عن الوجود فيها إلحادًا حينًا، و"اثنينية" حينًا آخر، بدعوى أنّ هذا التصوّر يُفرز إلهين، أحدهما "فوق الوجود"، والثاني "أشرف الوجود". والحال أنّ الإسماعيلية كانت تدفع هنا ضريبة تاريخية لسِمتها العامة كـ"دين فلسفيّ" بامتياز.
لا يَظهر أي أثر لهذا "الدين الفلسفيّ"، لا في مسلسل "الحشاشين" ولا في السجال حوله، مع أنّ سمة "الدين الفلسفيّ" تتجلى في الربط بين اسمي العاصمة والأزهر وبين كوكبين، المريخ والزهرة، وهذه السمة زادت في الفرعين الفارسيّ والشامي من الإسماعيليّة، فترة ظهور الحسن بن الصبّاح 1037 ــــ 1124 على مسرح الأحداث. هذا في مقابل تراجع هذه السمة في الحاضرة الفاطمية نفسها بمصر، شيئًا بعد شيء، في أعقاب اختفاء الخليفة الإمام الحاكم بأمر الله عام 1021.
يتّصل تغييب كل ما يدلّ على أنّ الإسماعيلية، ومنها فرقة حسن بن الصبّاح، هي "دين فلسفي"، بالحاجة إلى اختزالٍ سياسيٍ ــــ أمنيٍ بحت عند منتجي المسلسل الرمضاني، لمفهوم "الباطنية". فالباطنية، في مقابل الإسماعيليين، لا سيّما النزاريين منهم، وقد شكّل ابن الصباح منعطفًا أساسيًا في تاريخهم، هي دفع لثنائية الظاهر والباطن إلى مرتبة وجوديّة شاملة. فلا يعود الأمر وقفًا على تأويل ظاهر النصّ بباطنه، وهو المشترك بين التشيّعين الإسماعيلي والإثني عشري، كما بين العرفانين الشيعيّ والصوفيّ، وإنما يمتدّ ذلك لرؤية أنّ لكل ظاهر محسوس في هذا الكون آخرٌ مخفيّ. ويتّصل ذلك عند الإسماعيلية بكون الإمامة إما ظاهرة أو مستورة، ويحصل أن تمرّ الإمامة بأجيال متعاقبة في دور الستر قبل أن تعود مجدّدًا إلى الظهور.
الدمج بين حسن بن الصبّاح وحسن البنّا
بعيدًا عن كل هذا، بماذا حصر مسلسل "الحشاشين" مفهوم "الباطنية"؟ بتكتيكات العمل السرّي لجماعة تتشدّد في الطاعة لمرشدها، ولا تتردّد في تنفيذ ما يطلبه منها. والقصد هنا لم يتردّد "أحبّاء المسلسل" في التعبير عنه، كما أخصامه "السياسيّون" حتى قبل عرضه: الدمج في عمل دراميّ بين صورة كل من حسن بن الصبّاح، مقيم دولة "القلاع النزاريّة" في نهايات القرن الحادي عشر الميلادي، وبين الإمام حسن البنا مؤسس جماعة "الإخوان المسلمين" في القرن العشرين، بالقفز عن الفاصل التاريخيّ والجغرافي والمذهبيّ بين الرجلين، وبالقفز عن اختلاف المآل الدنيوي الأخير للرجلين أيضًا.
ففي حين اغتيل حسن البنا في 12 شباط/فبراير 1949 عن 43 عامًا، بتوجيه من القصر، ردًا على اغتيال محمود فهمي النقراشي باشا رئيس الوزراء، أمضى ابن الصباح 34 عامًا على رأس "الدولة النزاريّة" يقودها من "كرسي الديلم" في قلعة "ألموت" في جبال البرز. وقد استمرّت دولة القلاع هذه حتى العام 1256 إلى أن أَفنتها جحافل المغول، قبل عامين من تدمير الجحافل نفسها للخلافة العباسية في بغداد.
مجرّد استحضار كل من اسمي حسن ابن الصبّاح وحسن البنا في وقت واحد، يكفي إذًا لإظهار حدود التشابه بينهما: الأوّل انتصر، والثاني انهزم. الأوّل ذهب ضحية للاغتيال السياسيّ، والثاني لم يكتف ببناء "جماعة سرّية من أجل الوصول إلى الحكم"، بل مارس هذا الحكم، واحترف ليس فقط العداوات وإنما أيضًا التقاطعات في السياسة وفي المعارك، بما في ذلك الدخول على خط التناقضات بين السلاجقة أنفسهم، لترجيح كفة جماعة منهم على أخرى.
لأجل ذلك، إن أُريد تهبيط منزلة البنا بمقارنته بابن الصبّاح، فالتاريخ يصعّب لنا المسائل هنا، ويُسقط من الأوراق التي يمكن استخدامها ضدّ سرديات جماعة "الإخوان المسلمين" واحدة ثمينة، وهي أن هذه الجماعة إن كان لها باع في "سياسات الأندرغراوند / ما تحت الأرض"، فإنها لم تفلح على امتداد تاريخها في "سياسات الحكم". في حين أن الصبّاح انتقل من "الأندرغراوند" إلى الحكم. فارتبط من ناحية بتاريخ التمرّدات الثورية في بلاد فارس من مزدك حتى بابك الخرمي مرورًا بأبي مسلم الخراساني، لكنه خالف النهاية المأسوية لكل الرموز المقترنة باحتجاج متقدّم ضدّ الظلم الاجتماعيّ وبتصوّر حول المدينة الفاضلة... وانتصر.
واذا كان المسلسل الحاليّ يأتي بكل دقيقة فيه بخطأ فظيع على مستوى الأحداث التاريخية وتسلسلها، فإنّه من المستبعد أن نتوقّع أن يقلب آخره الوقائع على النحو الذي يجعل فيه حسن بن الصبّاح أسيرًا لدى السلطان السلجوقي ملكشاه، ووزيره نظام الملك الطوسيّ. فقد عمّر ابن الصبّاح 32 عامًا في الحكم المطلق بعد رحيلهما عام 1092 ودخول السلاجقة بعد هذا التاريخ في مرحلة من الاحتراب الأهليّ، التي تدخّل فيها "الحشاشون" بالبيع والشراء!
لقراءة باقي الأجزاء:
مسلسل "الحشاشين" (1): دراما سرد الأحداث بالمقلوب