في الغرفة الكبيرة التي تنتهي إلى حديقة تُطلّ على جار وسيم يبعد مسافة خمسين مترًا، وضعتُ خطة لبناء علاقة حب جديدة مع هذه البلاد. حدث هذا بعدما استيقظت يومًا على جملة كنتُ أسوقها كغنمة صغيرة من منامي إلى لحظات اليقظة الأولى: ربما سمعني سكان البيت المقابل أقول: "اخرجي منّي لأخرج منك".
على أرضية الغرفة وزعت أوراق الخطة التي بدت أشبه بلعبة بازل فقدت كثيرًا من قطعها.
من أين أبدأ؟
لكل هرم قاعدة، لذلك انتقيت قاعدة تقول: "الحب لا يخضع لشروط". بتلك القاعدة أستطيع تجاوز جميع الأسباب التي قطعت علاقة الحب بيني وبين هذه البلاد. وأستطيع إيجاد أسبابٍ أخرى للتعافي، وأسباب أكثر من سابقاتها للبدء كأنها علاقتي البكر الأولى.
كان الجار الوسيم يقبض على كأس شايه مثل القابض على قلب الحياة. اختلست النظر إليه، فوجدته يحدّق في باب حديقتي. ضحكت في سري، قلت:
"سيصلح كسببٍ آخر للحب".
سأتجاهل انقطاع الكهرباء والماء، وارتفاع الأسعار، وهجرة الأصدقاء، وموت الأحباء، وإغلاق السفارات، وفتح الصدور على آلامها. سأتجاهل ازدياد الجشع ولمعان العيون التي تتصيد طرائدها، وأعيد لعامودي الفقري تلك الفقرة الناقصة كي أمحو ثقل هذا الانحناء.
صفق الجار الباب في وجه حديقتي حين لسعه البرد، واختفى تاركًا خلفه كوب شاي ينام على سور شرفته. كان المشهد للكوب يماثل بفراغه ما خسرته هذه البلاد وما خسرناه فيها، وكانت خطتي فاقدة للشغف، غير صادقة، مليئة بالأمنيات الكاذبة على أصحابها.
كل ما تقدم بنا الزمن يتكشف كم أننا أصبحنا خارج التاريخ وربما خارج الزمان
الإصلاح لا يحتاج بابًا يصفق في وجهنا كي نستيقظ، ولا يحتاج إلى حادث عظيم كي نعي حقيقة ما نحن فيه. كان كافيًا لي أن أعترف بيسر وسهولة أن تلك الخطة منتهية الصلاحية قبل الشروع بها. لذلك أدرت الوجه الآخر لمفردة حب، وجعلتُ خطتي في سبيل كره هذه البلاد، لكن بطريقة حكيمة.
نعلم جميعنا أننا لا نصلح لنكون يدًا واحدة، لا ننفع لقمع رغبتنا في رمي القمامة في الشوارع، لا نفلح في الإصلاح بين متخاصمين غريبين أو قريبين، لا نجدي نفعًا في تقديم عجلة الأمان، لا دور لنا في تصويب الحقائق وغربلة الزيف، لا قدرة نملكها لردع فاسد وإحياء صالح.
اعتدنا نسيان الجزء الجميل من الذاكرة كحل استباقي لردع المقارنات.
في مكتباتنا كان لدينا كتب شعر وروايات وأبحاث وعقول ناطقة بالإبداع تسترخي على الرفوف.
في مطابخنا كان لدينا مؤونة لسنة أو اثنتين وفائض لمن يعبر إلينا سبيلا.
في خزائننا كانت لدينا صور تذكارية ومفاتيح لبيوت طيبة العتبات.
في حقائبنا كانت لدينا عناوين وأسماء تحيطنا ألفة.
في قلوبنا كانت العاطفة تشي بالسكينة.
وفي أيدينا كان ملح أكف الذين نصافحهم يبقى عالقًا بين خطوط الثنيات.
غاب كل ذلك منذ أن بدأنا ندفع عن كل كرامة غرامة. وكل ما تقدم بنا الزمن يتكشف كم أننا أصبحنا خارج التاريخ وربما خارج الزمان.
يخرج جاري من منزله. يمشي مجاورًا لسور حديقتي، فلا تلتقي عيناي بعينيه. فثمّة أمر لم يكن ضمن حساباتي حين كنت أجهز على حضوره وأجعله من شرفة مقابلة أحد الأسباب لحب هذه البلاد. اقتربت من السور، صنعتُ مبادرة تشبه مبادرات الدراما السورية، قلت له:
- صباح الخير.
حدّق مبتسمًا بالقطة التي كانت تمشي على طرف السور، رد بلطف: "صباح النور"، وتابع سيره ثم اختفى في ازدحام العابرين.
ضحكت، ثم استدركت قائلة لما بقي من أثر خطاه: أحوَل؟؟
ثم فهمت جيدًا ما كان يحصل، كانت المسافة بيننا وبين هذه البلاد لا تسمح لنا بمعرفة إن كانت تُحدّق بنا أم بشيء آخر. وكان عمانا العقلي يمنعنا من إدراك أننا لسنا مركز النظر بالنسبة لها. كانت تشبه الجار الذي صفق الباب، وكنا نشبه حديقة مهملة نمت فيها عشبة ضارة تغذت على النافع فيها.
أعترف أنّي، مثل البقية، فعلت الأشياء السيئة، فصرت والبلاد مثل زوجين متنافرين، ولطول العشرة يستحي كلانا من طلب الطلاق
ما الخطة إذًا..؟
ثمّة قاعدة تنفع لها، "الكره أيضًا غير مشروط". بتلك القاعدة أستطيع تجاوز الأسباب التي دفعتني لحب هذه البلاد، أعترف بها وأسبِقها باعتراف أنّي، مثل البقية، فعلت الأشياء السيئة، فصرت والبلاد مثل زوجين متنافرين، ولطول العشرة يستحي كلانا من طلب الطلاق.
إلى الشرفة من جديد خرج جاري ليملأ كوبه مرة ثانية. لوّح لي كما سيعتقد من يرى المشهد عن قرب، غير أنه كان قاصدًا التلويح لساكن يجاور بيتي، ثم خطر لي أن أطلق عليه اسم البلاد، تلك التي تشعرنا تارة بأننا هنا وتارة أخرى نبدو لها غير مرئيين. نبدو مثل فقاعة صابون تنفجر قبل أن يلحظها أحد. كانت البلاد نحن الذين أحببنا أنفسنا إلى درجة أننا التهمنا كل ما أحببنا بنا، ثم كرهنا ما بقينا عليه. وتطوّر الأمر إلى أن دخلنا طور الجبن فلم نجرؤ على الاعتراف بحَول بصيرتنا.
طيلة أعوامنا السابقة كنا نطل على البلاد من حديقة أمامية، نظيفة إلى درجة مرضية، تعبرها الريح فتكنس ما نرميه على أرضيتها. لم ينتبه أحد منا إلى أن ما كنسته الريح كان يجتمع في حديقتها الخلفية.
البارحة سألني طفلي: لماذا لا نخرج من هذه البلاد؟
قلت له: أحدنا لا يعتق الآخر، لا يريد التخلي، وأيضًا لا يريد البقاء، ثمّة حقيبة فارغة في خزائننا تنتظر أن تمتلئ بوزن وتأشيرة خروج.
قال: الأمر سهل إذًا.
قلت: نعم.. سهل جدًا، نستطيع فعل ذلك، لكن يتطلب علينا أن نعيد قلوبنا من حديقة البلاد الخلفية، حيث علقت هناك، واختلط عليها الأمر فلم تعد تعرف إن كانت تحب أم تكره.
انقطع سيل حديثنا على صوت الجار الذي تسلل إلينا بعبارة: مساء الخير.
صعد صوت مواء القطة، وصوت الجار المجاور لبيتي، وصوت طفلي يرافق صوتي: مساء النور.
لم يكن أحد منا يعلم من المعني بهذه التحية، لكن من المؤكد أننا تعمدنا حشر أنفسنا في إجابة تلفت انتباه البلاد إلينا ولو قليلًا.
في الغرفة الكبيرة التي تطل على حديقة البلاد الخلفية، قررنا وضع خطة لبقاء الغياب.