لقد وصلتُ للتوّ

كنتُ مرّةً شاردةً في المقهى وأجبت النّادلة بـِ "يسلمو" بعد أن قدّمت لي فنجان القهوة. تلك الزلّة أوقعتني في حضن اللغة الأمّ، ونظرة النّادلة المندهشة أعادتني إلى الغربة الّتي أعيشها.

لو كان الزمنُ حليفًا، لأمكنَ تجنُّبُ مآسٍ كثيرة. تأخيرُ أو تقديم دقيقة أودى بحياة وأحلام كثير من البشر. لكنّه، في الوقت ذاته، أنقذ حياة آخرين. الخروج من البلاد متأخّرةً والوقوف في مواجهة أسئلة كبيرة مثل المهجر والمنفى والغربة، أيًّا كان الاسم، ليس إلاّ واحدة من ألعاب الزمن التي يصعب فهم منطقها.

أعيش في إسبانيا منذ أربع سنوات ونصف السنة، ودائمًا أشعر أني وصلت للتوّ. منذ أن وطأت قدماي هذه البلاد حتى اليوم، يُربكني عدُّ الأيّام والشهور والسنوات، لكي أجيب سائلي بدقّة. فهذا أحد الأسئلة التي يتكرّر طرحُها على المهاجر في أيّ محفل أو عند القيام بأي إجراء. بالنسبة لي حاليًّا، يخرج الرقم "أربعة" من فمي بشكلٍ أخفّ من الرقم "خمسة". لكن بعد قليل سيصير عليّ أن أعتاد "الخمسة" الثقيل هذا، ليصير أخفّ من الرقم "ستّة"، وهكذا، في سُبحة لا أعرف كيف ستنفرط حبّاتها، ولا إن كانت ستنفرط أصلًا.

"بالنسبة إلى الكاتب لا يوجد بلد آخر غير مكتبته"[1]، كما يرى روبرتو بولانيو.

تمرّ في رأسي الكتب الّتي تبدّلت مصائرها بتبدّلات حياتي. أتخيّل تلك الرواية بيتًا للعائلة، والحانة التي تشتهر بموسيقاها الرائقة قابعةً داخل مجموعة قصصية صغيرة. أتخيّل المراكز الثقافية في كتب الفلسفة، ومجلّات الكوميكس مدنًا للملاهي، وكتب الشِّعر شرفات الأصدقاء. أفتح خزانةً في المطبخ مخصّصةً للمنتجات الغذائية السورية التي لا يسهل الحصول عليها في المدينة التي أسكنها، أقول: هذه الخزانة يمكنها أن تلعب دور البلد أيضًا، وقد تجيده مثل المكتبة، وإنّما بطريقة مختلفة. رائحة تقلية الكزبرة والثّوم إن فاحت في أيّ مطبخ يصير في الحال مطبخ أمّي.

لكن على أرض الواقع، كلّ هذه الأفكار تلاشت دفعةً واحدة حين كنتُ مرّةً شاردةً في المقهى وأجبت النّادلة بـِ "يسلمو" بعد أن قدّمت لي فنجان القهوة. تلك الزلّة أوقعتني في حضن اللغة الأمّ، ونظرة النّادلة المندهشة أعادتني إلى الغربة الّتي أعيشها.

بالنّسبة لجوزف برودسكي، "المنفى هو قبل كلّ شيء حدث لغويّ[2]".

أفكّر في هذه الجملة دائمًا كلّما تعمّقت غربتي داخل اللغة الجديدة، وهذه الغربة ــــ للمفارقة ــــ تتعمّق لديّ أكثر كلّما تقدّمتُ في اللّغة. أذكر أثناء المحاضرات الجامعية أني كلما هممت بالمشاركة في حوار ما، كانت توقفني رهبة اللّغة: هل ستبدو فكرتي بالقوّة التّي صُغتها فيها بالعربيّة داخل رأسي؟ هل يمكن أن أناقش موضوعًا حسّاسًا يخصّ "تحليل الفن من منظور جنساني" مثلًا، اعتمادًا على قاموس كان بالكاد قد بلغ السنتين من عمره حينها؟ أنكفئ وأعود إلى صمتي، وأغذّي مهارة الإصغاء التي ربّما كانت واحدةً من مكاسبي القليلة. وكذا في اللقاءات الأدبية التي أشارك فيها، أو حتى في المواعيد السريعة التي تجمعني مع أصدقاء بغية الترفيه عن النفس.

ليس بإمكاني الآن معرفة إن كنتُ أصنع ذاكرةً جديدة هنا أم لا أم سأظلّ عالقةً هناك في الحيّ القديم

أحيانًا أفكّر أن باستطاعتي الاكتفاء بالكتب واللغة، وأقصد بالطّبع لغتي العربية، بأن أعيش داخلها كما كنت أفعل طيلة سنواتي السابقة. كانت حيلةً ناجعةً للنجاة بالصحة العقلية وبعض من النفسية في سنوات الحرب الطويلة، مع الأخذ بالاعتبار نسبيّة مفهوم النجاة. لكنّي الآن صرتُ أمًّا وعليّ أن أعدّ العالم لاستقبال ابنتي: العصافير والشوارع ومحطات الباص ومقاهي الرصيف وألعاب الحديقة. عليّ أن أعيد السّيرة من أوّلها إنّما لوحدي هذه المرّة. لم يعد ممكنًا أن ألوذ بأغنية هنا وقصيدةٍ هناك، عليّ أن أفتح الباب للحياة وأعلّم ابنتي المشي على إسفلتها.

مرّةً استيقظت مذعورةً لأنّي كنت أتكلّم الإسبانيّة في المنام، وبطلاقة لافتة، بل إنّ المشاعر كانت تتحرّر ثمّ تعيد ترتيب نفسها داخل جمل مصقولة بعناية. خفت لوهلةٍ من أن يكون الحاجز النفسيّ قد تحطّم من دون أن أدري. خفت من أن أجد نفسي قد امتلكت كلّ أسباب البقاء، أو فلنقل أغلبها. لا؛ الأدقّ أن نقول بضعها. خفت من أن تبدو لي هذه الحياة الجديدة سهلة ويسيرة، خفت من التّطبيع مع المنفى ومفرداته. لكن لم يلزمني إلاّ الخروج قليلًا إلى الشارع ومحاولة فعل أمور من المفترض أن تحمل صفة "الاعتياديّة" حتّى يذكّرني الجهد المبذول من قبلي بأنّ قيامي أنا تحديدًا بهذه الأمور هو ما ينزع عنها تلك الصفة، وهو ما سيدأب على النهوض بالجدارن التي تحول بيني وبين عفويّة العيش.

بولانيو يعتبر أنّ المنفى هو القيمة الحقيقيّة الّتي يمتلكها كلّ كاتب[3].

أتّفق مع ذلك، أتّفق مع فكرة أنّ المنفى يحصل حين تبدأ الكتابة، ولا علاقة له بالظّرف المكاني للكاتب، لكن عمليّة قطع الحدود وإعادة بناء طوب المنزل والعاطفة، ستترك بلا شكّ أثرها في الكتابة. لا أستطيع أن أعطي الآن حكم قيمة على هذا الأثر أو التغيير الّذي حصل، لكنّه حصل ولمسته بشكل خاصّ في القصائد التي كتبتها بعد الخروج من سوريا، رغم أنّها كانت تعيدني دائمًا إلى أماكن وشوارع في حمص واللاذقية وحلب.

في ظنّي الّذي يحتمل الخطأ بقدر ما يحتمل الصواب، أن لا أحد يختار المنفى، وأنّ المنفى حتى ولو كان طوعيًّا، يظل في العمق فعلًا قسريًّا. وهنا أخالف وأوافق في الوقت ذاته بولانيو حين يقول إن المنفى هو خيار أدبي.

المشكلة في تجربتي الشخصية أن الزّمن لم يتح لها أن تأخذ حقّها في التعريف عن نفسها بوصفها تجربة متفرّدة يعيشها الكائن البشريّ، إذ تزامنت مع تجربة الحمل والأمومة. تتقاطع التّجربتان في أمور كثيرة، أهمّها العزلة الّتي تعيشها المرأة بعيدًا عن جسدها القديم، عن عائلتها ومحيطها وعاداتها ويوميّاتها، وفي لحظاتٍ كثيرة عن نفسها كما كانت تعرفها سابقًا.

في إحدى المراجعات بعد الولادة لمشرف الحمل والولادة الّذي كان يتابعني، سألني عن البكاء، فأجبتهُ: نعم تبكي حين تجوع. قاطعني قائلًا: لا،لا، أقصد أنتِ، لا الطفلة، هل تبكين؟ انتبهتُ حينها إلى أنّ أحدًا لم يسألني منذ زمنٍ طويل، ولا حتى سألت نفسي إن كنتُ أبكي.. فانفجرت بالبكاء.

وكأنّ مغادرة سوريا تسقط عن المرء حقّه في الشكوى. هذا ما أشعر به دائمًا، أنّني تجرّدتُ من حقّي في أن تكون لديّ هموم وأحزان وخدوش عميقة في روحي، لمجرّد أنّني قطعتُ الحدود.

لديّ رغبة بسيطة في أن أرفع سمّاعة الهاتف من دون حسابات مسبقة حين أشعر بالرغبة في الحديث مع صديقة عزيزة تفهم ما أشعر به، كما كان يحصل في حياتنا السّابقة قبل أن تكون كلّ وسائل التواصل هذه ملك أيماننا. كنت ألجأ أحيانًا إلى المعالجة النفسية كي أسدّ هذه الثغرة، في المرّات الأولى كانت ترافقنا مترجمة، كنت أراقبها وهي تعمل كوسيط لنقل مخاوفي وغضبي وحبّي، حتّى إنّها مرّاتٍ كانت تدمع أو تنفعل. كنتُ أفكّر بأنّها مخلصة لعملها أكثر ممّا يجب، ثمّ أتذكّر أنّها نفسها مهاجرة قديمة، وربّما كانت لا تعمل وسيطة لغويّة فقط، بل كانت تترجم أيضًا آلامها الخاصّة، لأنها مثلي لم يعد يسألها أحدٌ إن كانت تبكي.

أكثر ما يشغلني في ما يخصّ الكتابة وحياتي على حدّ سواء هو الذّاكرة، ليس بإمكاني الآن معرفة إن كنتُ أصنع ذاكرةً جديدة هنا أم لا، وإن كان هذا الوقت الذي يمضي ثقيلًا سيترك أثره في الكتابة أم سأظلّ عالقةً هناك في الحيّ القديم، حيث يصحو والدي كلّ صباح ليجلب الخبز، وتفتح أمّي الشّبابيك كي تجدّد هواء البيت، ونتكاسل أنا وأخي في الاستيقاظ كي نذهب هو إلى عمله وأنا إلى بيتٍ في قارّةٍ ثانية تنمو لي فيه رغبةٌ بعناق من أُحبّ بقوّة، وطفلةٌ تناديني "ماما" بكلّ لغات العالم.


[1] https://www.colofonrevistaliteraria.com/472-2/

[2] أدريان ن. برافي/ غيرة اللغات/ ترجمة أمارجي

[3] https://poligramas.univalle.edu.co/index.php/poligramas/article/view/8871/12315#citations


كي لا يموتوا في النسيان

فكّرت بمن لم يغادروا هذا العالم بشكل فيزيائي، لكنهم ماتوا في النسيان فعلًا، فخطر لي أن أجمع صورهم..

نسرين أكرم خوري
كرة القدم، عين الشّمس السحرية

هذا أول مونديال لي خارج سوريا، لا أكتب الجملة لأسباب تتعلّق بالحنين، بل لأقول إنّني في هذه المرة فقط..

نسرين أكرم خوري
لست بحاجة إلى نجمٍ يهديني

سوف تنتهي عطلة الأعياد قريبًا ويعود الناس إلى أشغالهم بينما أتابع محاولات إيجاد عمل. تلك المحاولات التي..

نسرين أكرم خوري

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة