مساء يوم الأحد، صُدم العالم بمشاهد المذبحة التي ارتكبتها إسرائيل إثر قصفها جوًا خيام النازحين الفلسطينيين في مدينة رفح المتاخمة للحدود المصرية. تلك المحرقة التي جاءت في وقت انهارت فيه المنظومة الصحية في قطاع غزة بالكامل تقريبًا، واستهدفت إثرها المناشدات الرسمية والشعبية "الشقيقة مصر" لإرسال سيارات الإسعاف ونقل الجرحى إلى المستشفيات. إلا أن المناشدات تلك قوبلت بصمم مصري رسمي تام.
وبعد ساعات قليلة من حصول تلك الواقعة، برزت على وسائل التواصل الاجتماعي في مصر مشاعر غضب شديد إثر نشر الإعلام العبري نبأ وقوع اشتباك حدودي بين عناصر من الجيش المصري والجيش الإسرائيلي، أسفر عن شهيدين مصريين من الجيش وعدد غير معلوم من المصابين، من دون أن يوقع خسائر في صفوف الجانب الإسرائيلي.
وما صبّ الزيت على نار الغضب المعتمل في النفوس كان تعامل مصر الرسمية مع الحادثة. إذ إن المعلومات عنها صدرت عن الإعلام الاسرائيلي، بينما انتظر الإعلام المصري الخاضع لسيطرة الاستخبارات ــــ كما جرت العادة ــــ الرواية الرسمية، ليخرج بيان شديد السوء عن المتحدث العسكري، قال فيه إن القوات المسلحة المصرية تُجري تحقيقًا في حادث إطلاق النار في منطقة الشريط الحدودي في رفح، واستخدم عبارة "أحد العناصر" لوصف أحد الجنود الشهداء، من دون ذكر أي بيانات عن هويته، متجاهلًا الشهيد الثاني وسائر المصابين تمامًا.
وخلال مراسم دفن الشهيدين، ظلّ أداء الدولة وأجهزتها متبلدًا. فالشهيد الأول، عبد الله رمضان، دُفن في جنازة شعبية أقامها أبناء قريته، لا جنازة عسكرية كما جرى العرف في التعامل مع من يسقط أثناء تأدية واجبه العسكري. كما غاب عنها الحضور العسكري خصوصًا، والرسمي بشكل عام. في المقابل، لم تكتفِ مؤسسات الدولة بتجاهل الشهيد الثاني، إسلام ابراهيم عبد الرازق، بل أنكرت عبر وسائل إعلامها وجوده من الأساس، برغم بث الأهالي مراسم تشييع جثمانه وانتشار الخبر مرفقًا بمنشورات معادية لإسرائيل على مواقع التواصل.
ويتّسق هذا السلوك الرسمي مع موقف النظام المعتمد منذ مباشرة العدوان الإسرائيلي على غزة في السابع من أكتوبر الماضي، إذ يقوم على مركزيّة اتفاقية "كامب ديفيد" الموقّعة عام 1978 في الاستراتيجية العامة للدولة المصرية. بل تكاد تكون الاتفاقية تلك الفلكَ الوحيد الذي يدور حوله الشد والجذب القائم مع إسرائيل، والذي يتخذ شكل رسائل سياسية ودبلوماسية غالبًا، قاصرة عن تحقيق نتائج ملموسة.
في مداخلة هاتفية مع إحدى القنوات السعودية، وصف ضياء رشوان، رئيس "الهيئة العامة للاستعلامات" والمتحدث غير الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، العلاقات مع إسرائيل بـ"الجائزة الكبرى في تاريخ الدولة العبرية". ولعلّ هذا التعبير دقيق في وصف أثر المعاهدة بين الدولتين، التي أخرجت أكبر دولة عربية من الصراع العربي ــــ الإسرائيلي، قبل أن تتحول شيئًا فشيء إلى صنم مقدس في الاستراتيجية المصرية، تُقدَّم له القرابين وعلى رأسها أرواح الجنود على الحدود.
مرّ الحدث الانتخابي في مصر من دون ضجيج أو انتقاد غربي يُذكر، برغم الانتهاكات الجسيمة التي شابته واستمرت بعده، خصوصًا لجهة اعتقال المرشح المعارض أحمد الطنطاوي والعشرات من قادة حملته الانتخابية
وقد ترسّخت لدى السلطات المصرية المتعاقبة منذ الرئيس الراحل أنور السادات فكرة مفادها أن أهمية مصر داخل الإمبراطورية الأميركية نابعة أساسًا من علاقتها بإسرائيل. وقد زادت هذه الفكرة رسوخًا في ذهن السلطة الحالية التي استفادت منذ يومها الأول من المعادلة تلك وما زالت تستفيد منها حتى الآن.
إذ لم يقتصر الدعم الأميركي على 1.3 مليار دولار هي المعونة الأميركية السنويّة، بل شمل أشكالًا من الإسناد غير المباشر الذي تؤمنه واشنطن للنظام، سواء عبر مؤسسات دولية مثل صندوق النقد أو من خلال حلفائها في الخليج وأوروبا، وكان آخر ذلك صفقة الإنقاذ التي هبطت على النظام في ذروة أزمته الاقتصادية.
وربما شكّلت هذه المعادلة واحدًا من أهم العوامل التي سمحت بتمرير حدث الانتخابات الرئاسية من دون ضجيج أو انتقاد غربي يُذكر، برغم الانتهاكات الجسيمة التي شابته، خصوصًا لجهة منع مؤيدي المرشح المعارض أحمد الطنطاوي من إصدار نماذج تأييد ترشيحه، واعتقال المئات منهم. فمرّت الانتخابات كما غيرها من الأحداث التي شابتها انتهاكات مرور الكرام، وآخرها اعتقال الطنطاوي نفسه صبيحة يوم الاشتباك في رفح، من دون أن يلي ذلك ضجة رسمية غربية أيضًا.
وفي سبيل الحافظ على تلك العلاقة، تعمل القاهرة من خلال دورها كوسيط في المفاوضات بين إسرائيل وفصائل المقاومة على الدفع نحو إنهاء الحرب في أقرب وقت وبكل طريقة ممكنة. فالخوف من تدهور الأوضاع بشكل أكبر يضع المزيد من الضغط عليها، ويُفاقم من مخاطر تهجير الفلسطينيين نحو سيناء، وفي الغالب ستكون لذلك تداعيات خطيرة على اتفاقية "كامب ديفيد"، وسيزيد الأمر من مساحات التوتر العسكري على طول الحدود مع إسرائيل، علمًا أن النظام لم يتردّد حتّى في استخدام هذه الورقة لتخدير الرأي العام والظهور بمظهر المدافع عن القضية الفلسطينية، فجرى نشر قصّة ملفقة حول الاشتباك الأخير الذي راح ضحيته شهيدان مصريان، وزُعم وقوع سبعة قتلى في الجانب الإسرائيلي.
وربما يحاول النظام الحالي استعادة معادلة حسني مبارك مع الولايات المتحدة وفق معطيات جديدة. فعلى مدى سنوات طويلة، سوّق مبارك لفكرة مفادها أن بديله الوحيد هو نظام "الإخوان"، في وقت كان فيه التيار الإسلامي شيطانًا وفق المنظور الأميركي بعد ضرب برجي مركز التجارة العالمي عام 2001.
أما السيسي، فمعادلته التي يحاول تصديرها للولايات المتحدة تقوم على فكرة أن البديل الديمقراطي لنظامه سيكون معاديًا لإسرائيل، ويعكس إرادة شعبية ترى نفسها جزءًا من المواجهة المفتوحة معها.
لكن، برغم الحماية التي يؤمنها النظام لإسرائيل من تمثّل هذه الإرادة في السلطة، يتفلّت بعض "العناصر" ممثَّلين في جنود وضباط صغار، ينفذون من حين لآخر هجمات ضد الجيش الإسرائيلي. وهو أمر يستدعي السؤال الذي يعيدنا إلى المعادلة إياها: ما الذي كان سيحصل لو لم تتوافر تلك الحماية التي يقدّمها النظام لإسرائيل؟