بعد النهر الحدودي ضاع في الترجمة

بعد عشر سنوات هنا، في "بلاد اللجوء"، لم أعد أنا أنا، وأيضًا لم أصبح "الأخر". غادرت "مصطفى" منذ سنوات، ولكن لم أصل حتى اليوم إلى "الآخر". أصبحت شيئًا أخر غيرهما. عالق في منتصف الطريق بينهما.

ضياع الذاكرة بين تاريخ المدارس، وشوارع اللجوء

هذا النهر الحدودي نهرٌ عاصٍ، الوغد... مزقني إلى شخصيتين منذ عشر سنوات، ولم يُعطِني أيّ سمكة تصلح كوجبة غداء. من أنا أيها النهر؟ من أنا يا فقير الأسماك؟

الكتب التي درسناها في مدارس البلاد شيء، والتاريخ هنا في شوارع اللجوء، في هذه البلاد الأجنبية، شيءٌ آخر، مختلفان كثيرًا عن بعضهما إلى درجة سوف تسبب لي وللاجئين غيري انفصامًا حادًا، باستثناء الذين يتأقلمون بسرعة مع تغير كتب التاريخ.

مثلًا: ما كان هزيمة في كتبنا المدرسية، هو نصرٌ هنا، في بلاد اللجوء. ومن كان خائنًا في كتبنا المدرسية، هو بطل هنا. وحلها إذا بتنحل!

جدك في الصفحة الرابعة والعشرين من كتاب التاريخ في صف الثاني الإعدادي في بلادنا، هو بطل، لكنه هنا، في الصفحة التاسعة والثلاثين من كتاب التاريخ في صف الأول الإعدادي، مجرد قاطع طرق.

في نيسان 2014، عندما عبرتُ "بالحلة" مع مجموعة من الهاربين الآخرين أمتارًا قليلة في النهر الحدودي، لم أكن أعرف وأنا أعبر من الضفة الأولى إلى الثانية أنّني أعبر من كتبٍ إلى كتبٍ مضادة، ومن تاريخٍ إلى تاريخ مضاد، ومن "مصطفى" إلى "مصطفى" مضاد.

سوف تصمت مع السكان الأصليين هنا وهم يتحدثون عن تاريخٍ آخر غير التاريخ في مدارس طفولتك. سوف تصمت وأنت تشاهد الكثير من اللاجئين يدرسون تاريخ الضفة الأخرى من النهر بوصفه التاريخ الحقيقي، لا التاريخ في مدارسهم، أو التاريخ في برنامج "أبناؤنا في الجولان". سوف تصمت بمرارة وأنت تشعر أنك ضحية لتاريخين متناقضين.

تبًا لهذا النهر، حتى أنواع الأسماك المحترمة لا تتوفر فيه.

مع مرور سنوات اللجوء، بعضنا هنا سوف يبدأ بالتفتيش في تاريخ الآخر، على أمل أن يعثر على معلومةٍ عن قريبٍ له من أجداده، عاش ومات ودُفن هنا قبل اختراع الحدود، فقط ليثبت للآخر بحسب التاريخ أنهما شعب واحد، بينما الآخر ليس لديه أي وقت، سوى لأن يرى في شعبه فقط، شعبًا واحدًا.

جدي ولد في مكان، لكنه توفي ودفن في مكانٍ آخر بعيد، وهو يطارد مواسم الزرع ومطر الفلاحين.

أبي ولد في مكان، ومات ودفن في مكانٍ آخر وهو يطارد العدالة الاجتماعية مع رفاقه اليساريين.

أنا ولدتُ في مكان، وأعتقد أنّي سوف أموت وأُدفن في مكانٍ آخر، وأنا أطارد إحدى اللغات الأجنبية، مع شعب اللاجئين.

ما الذي يميز سلالات اللاجئين عن غيرها من السلالات عبر التاريخ والجغرافيا؟ لا يوجد لديها شيء اسمه "مقابر عائلية".

عندما يمر بنا أجنبي من السكان الأصليين في بلاد اللجوء هذه، نحاول معه فردًا تلو الآخر أن نقنعه سرًا بأننا "غير بقية أولئك اللاجئين الأوغاد"

جارتنا الناشطة، كوثر، شاهدت شوكت مصادفة عند السمان خليل. أعطتهما كعادتها محاضرة:

لا يمكن أبدًا التفاهم مع أبناء الفلاحين. لديهم ألف خط أحمر. رأس يابس، على عكس أبناء الطبقة المتوسطة، أبناء الموظفين والعمال. تستطيع أن تأخذ وتعطي معهم بمرونة. تبًا، أريد كيلو أرز...

ثم أعطت شوكت كتيبًا صغيرًا عن المفاهيم وشروحاتها العلمية الدقيقة. مساءً، في الحانة، قذف شوكت بهذا الكتيب إلى السلة، برمية ثلاثية متقنة، وهو يقول: على ذمة موال لـ "جورج وسوف" قنينة عرق، توفر علينا الترجمة...

أنا لا أعرف المطربة العراقية ريتا وليم. أرجوكم، إذا كنتم تعرفون رقمها اتصلوا بها وأخبروها أن ترفع دعوى قضائية على المدعو شوكت. إنه في خمارتنا بجانب ضفة النهر، داخل تاريخ الآخر بأمتار قليلة، يغني لنا دائمًا كل ليلة مخمورًا، وبشكلٍ سيء لا يُحتمل، أغنيتها "جا وين أهلنا".

صديق من السكان الأصليين، خيرٌ من ألف لاجئ

تقول فكاهة قديمة ما معناه: إن هناك ثلاث زوجات لرجلٍ ما، يتشاجرن مع بعضهن دائمًا، يتآمرن على بعضهن ويلفّقن الأكاذيب حول بعضهن، فقط من أجل إرضاء الزوج. وبمجرد دخوله إلى البيت، تتحول الزوجات الشريرات بحق بعضهن إلى ملائكة أمامه، في سبيل ارضائه.

غالبًا هذه الفكاهة تشبه حالتنا هنا. نتآمر على ببعضنا كثيرًا، نحتال ونكذب ونخدع بعضنا هنا أحيانًا بعداوة وأحيانًا باحتقار، ونحيك بحق بعضنا مؤامرات كثيرة. وعندما يمر بنا أجنبي من السكان الأصليين في بلاد اللجوء هذه، نحاول بكل طاقتنا على التمثيل أن نبدو أمامه ملائكة، ونحاول معه فردًا تلو الآخر أن نقنعه سرًا بأننا "غير بقية أولئك اللاجئين الأوغاد".

ذات يوم، تشاجرنا مع بعضنا مشاجرة كبيرة في مقهى "حمود"، وهو عبارة عن بضعة كراسي مخلخلة على رصيف ضيق وبعيد، يجتمع فيه كل مساء عدد من اللاجئين البسطاء.

صرخت بأحدهم: معك حق ألا تشجع المنتخب الوطني، ولكن من المعيب فعلًا أن ترفع علم دولة لا تعرف أين تقع على الخريطة، وتشجعها فقط لأنها تلعب ضد منتخب بلادك. تجاهل هذه المباراة وانتهى الأمر يا رجل...

قلتُ لـ شوكت في السهرة بعد أن أخاف بعضلاته ذلك الأحمق فمنعه من لكمي: عليه أن يحترم تلك الذكرى القديمة، ذكرى ذاك الهدف العظيم الذي مزق صمت حارتنا وأصابها بالجنون في سنوات الزمن الجميل، الوفاء للذكريات شيء أخلاقي يا شوكت الغليظ.

هنا، إذا أصبح لديك صديق من السكان الأصليين، فهذا أهم من ألف صديق لاجئ. في مقهى "حمود"، يتفاخر بعضهم بعدد صداقاته من سكان هذه البلاد أمامنا، مع أنهم غالبًا لا يعرفونه، وفي أفضل الأحوال يمكن أن يكون أحد أولئك الأصليين قد شتمه من الطابق تحت بيته، لأن أولاده يصدرون ضجيجًا عند لعبهم بالبيت.

"ولكن... أنت لا تبدو سوريًا"، هذه العبارة السحرية التي يقسم كل لاجئ أنها قيلت له من السكان الأصليين. هذه العبارة هنا بالنسبة للاجئين بمثابة شهادة "حسن سلوك" التي كان يمنحها لنا مختار حارتنا قديمًا، واليوم يمنحها لنا أحد السكان الأصليين.

بالنسبة للوغد شوكت، أنا من يدفع دائمًا حساب سهراتنا المتواضعة في هذه الخمارة البسيطة. ولكن منذ أيام، وبعد أن انضم إلى طاولتنا أحد السكان الأصليين، دفع الحساب سعيدًا...

السائح واللاجئ من الحارة ذاتها

الفتاة العرجاء، المتبقية الوحيدة من عائلتها بعد مجازر قريتها، والتي تعمل اليوم كراقصة متواضعة في مطعمٍ داخل حدود هذه البلاد الأجنبية، يرتاده سياح حارتنا، تبدو لي بعد نصية عرق مثل أغنية "راي" هربت من الحرب الأهلية في الجزائر، لتتشرد مع أحزانها في شوارع الدائرة التاسعة في باريس...

على بعد أمتارٍ منا، ثمّة سائح سوري يتجول سعيدًا، جاء في إجازة من الخليج. يلتقط صورًا لمكان يصفه بالأعجوبة والجميل، هو ذاته المكان الذي نسكنه كلاجئين منذ سنوات، ولم ننتبه إلى أنه جميل.

عقل اللاجئ غير عقل السائح، شكل السائح غير شكل اللاجئ، مع أنهما من الحارة ذاتها. نظرة السائح ونظرة اللاجئ للأمكنة ذاتها مختلفة، برغم أنف الحارة الواحدة والحرب الواحدة. إنهما بعقلين مختلفين في إدراك الأمكنة.

قال لي شوكت ونحن في طريقنا إلى الخمارة: قل لي كم يوجد في جيبك، أقُل لك كيف تُشاهد هذا الشارع.

لقد احتملت ذاكرتي الكثير من القصف، قد أنسى اسمي لكن لم أستطع أن أنسى كيف اختبأنا في الحمام الضيق ذات ليلة مسعورة القصف

الأصدقاء الجدد في السنوات الأخيرة على "فيسبوك" من أبناء التسعينيات، يرسلون لي صورًا يلتقطونها من أجلي لدمشق القديمة. صورة لطاولة معينة في مقهى "النوفرة" حيث ألقيتُ قديمًا قصة سخيفة لي على مسمع أصدقاء وصديقات الدراسة. صورة لمقعد في حديقة "القشلة" حيث ارتكبتُ خلسة قبلة حلوة مع فتاة جميلة في سنوات الدراسة، قبلة لا تزول من الذاكرة. صورة لزاوية بعيدة في ساحة الجامع الأموي حيث نُمت مرة بطمأنينة لا تُنسى ولا تُفسر. صورة لشباك غرفة سكنتها يومًا في زقاق "رابعة العدوية".

لقد تغيرت الأمكنة كثيرًا، هذه الصور ليست لأمكنتي ذاتها، وفيها جيلٌ جديد لا يشبهنا. جيل شوهته الحرب، التي غيرت كل شيء. أعتذر يا دمشق، أعتذر أيتها البلاد، ولكن لا أريد العودة، احترامًا للذاكرة فقط.

كاد شوكت أن يلكُم سائحًا شاهدناه مصادفةً هنا، من زملاء الدراسة قديمًا، وهو يسألنا عن مكان مطعم مشهور في الجوار، تركناه ومضينا إلى خمارتنا البسيطة ونحن نحسب ما في جيوبنا من مال لنعرف كم كأسًا وكم أغنية بإمكاننا أن نشرب. 

لقد كانت الحارة ذاتها، القذيفة التي سقطت عليها، قسمتها إلى قسمين. أكثرية لاجئة لا تهوى التقاط الصور التذكارية، وأقلية سائحة تهوى التقاط الصور التذكارية، هذا ليس عدلًا يا حارتنا.....

عندما نسيتُ اسمي

منذ أشهرٍ قليلة كنتُ واقفَا في ازدحامٍ بشري كبير، في دائرة حكومية خاصة باللاجئين هنا.

 كان أحد الموظفين الأجانب من السكان الأصليين، يصرخ عاليًا كل بضع دقائق باسم أحد الموجودين في الازدحام. ثم صرخ "مصطفى تاج الدين الموسى" وكرّر الاسم مرات عدة. لا أحد أجابه، عندئذٍ صرخ باسم آخر.

وصار بعد صراخه باسمين أو ثلاثة، يصرخ مجددًا باسم "مصطفى تاج الدين الموسى". لكن لا أحد رفع يده أو اقترب منه.

بصراحة، أنا انزعجت. استدرت وقلتُ لأحد اللاجئين خلفي:

ــ يلعن أبو ساعة "مصطفى تاج الدين الموسى". أين هو؟ ضروري أن يحرجنا هو وأمثاله من جماعتنا أمام الأجانب؟!

ثم سمعتُ من حولي بعض الشتائم بأصوات منخفضة بحق صاحب الاسم، الذي يبدو أنه خرج بلا مبالاة، ليدخن سيجارة أمام الدائرة.

زفرتُ بحنق، وتابعتُ من بعيد صراخ ذلك الموظف بالأسماء.

حتى أتسلى بقتل الملل، فتحتُ الأوراق التي أحملها، ومصادفةً قرأتُ الاسم عليها. إنه اسمي؛ "مصطفى تاج الدين الموسى".

عندئذٍ تأكدتُ أن ذاكرتي قد وصلت إلى درجة كارثية. لقد احتملت ذاكرتي على مدار سنوات الكثير من القصف. قد أنسى اسمي لكن لم أستطع أن أنسى كيف اختبأنا في الحمام الضيق ذات ليلة مسعورة القصف. ثم صرت أقدم ببلاهة مع ابن الجيران دور مهرجين مضحكين، لنضحك الآخرين، وخصوصًا الأطفال، وننسيهم دوي الانفجارات ودوي المخاوف البشرية من حولنا.

انسحبتُ بهدوء من بين شباب الازدحام، وفي الشارع مزّقتُ الأوراق الرسمية وصعدتُ سيارة أجرة.

بعد شارعين، نظر سائق السيارة من شباكه إلى الخلف ليشتم أحد العابرين.

وأنا كذلك، لا إراديًا، نظرتُ من شباكي إلى الخلف لأشتم حياتي القديمة، وهي تعبرُ شوارع اللجوء. حياتي القديمة التي كان اسمي بها "مصطفى تاج الدين الموسى...".

بعد عشر سنوات هنا، لم أعد أنا أنا، وأيضًا لم أصبح "الآخر". غادرت "مصطفى" منذ سنوات، ولكن لم أصل حتى اليوم إلى "الآخر". أصبحت شيئًا أخر غيرهما. عالق في منتصف الطريق بينهما.

في ظهر يومٍ آخر، كنتُ واقفًا أيضًا في ازدحامٍ بشري للاجئين في الدائرة الحكومية الخاصة باللاجئين. مرّ بي رجلٌ بسيط. لوّح أمامي وهو يصرخ فرحًا: تحياتي أيها "السيد خوسيه"...

ــ "السيد خوسيه"؟! أعجبتني مزحتك هذه! ...

ــ ألا تتذكر يا أستاذ، منذ ثلاثين سنة تقريبًا، قدّمت مع أصدقائك مسرحية لنا على مسرح مدرستنا الإعدادية، وكان اسمك في المسرحية "السيد خوسيه"...

نسيتُ ذلك الزمن كله، وكأنه لم يكن. نسيتُ كل نشاطاتنا المسرحية آنذاك. مضى الشاب وأنا أتحدث إلى نفسي. لم أتذكر حرفيًا تلك المسرحية. تذكرتُ بعض الصور الضبابية، لكن قلبي خفق بفرحٍ وجودي غامض. وفي وقتٍ متأخر من ذلك اليوم، همست لـ شوكت وهو يتجرّع ما تبقّى في كأسه: لا أريد أن أبقى حياتي ضائعًا هنا، تركلني الترجمة كما يحلو لها بين اللغات، أنا لست "مصطفى" ولستُ "الآخر". أنا "السيد خوسيه" وأريد أن أعود إلى تلك المسرحية. إنها وطني...

سوف تمر أشهر وأنا أبحث في مواقع الإنترنت. أفتّش بين الكتب. أسأل الأصدقاء من المثقفين عن مسرحية ما بطلُها اسمه "السيد خوسيه". ولكن ما هو عنوانها؟ من مؤلفها؟

أشهر وأنا أبحث، ولم أعثر على هذه المسرحية، ولم أعرف حتى عنوانها. أيضًا فشلتُ في أن أعود إليها وأجعلها وطني الجديد. فشلتُ في الانتماء مجددًا. فشلتُ في أن أنتمي إلى مسرحية وأعيش بين صفحاتها كإحدى شخصياتها الخالدة.

لقد فشلتُ في أن أصبح "السيد خوسيه"، لتبقى روحي ضائعة، في حالة نوسان وجودي مؤلم، بين "مصطفى" و"الآخر"...