في 27 كانون الثاني/يناير 2014، أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية موافقته على ترشّح رئيسه، وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، لمنصب رئيس الجمهورية. واتُخذ هذا القرار بإجماع الأعضاء بعد أسبوع من اجتماع مشابه للسبب نفسه، اعترض خلاله ثلاثة أعضاء على القرار. لكنّ السيسي أبى إلا أن يُتّخذ القرار بالإجماع، بعدما نجح في تخطي العقبات الدولية المفترضة إثر مذبحة "رابعة العدوية" وسائر الارتكابات التي تلت عزل محمد مرسي عن الرئاسة.
مثّل هذا القرار قاعدة ظلّلت السنوات العشر التالية، مفادها أن السيسي لا يمثّل نفسه في هذا المنصب فحسب، بل يمثّل المؤسسة العسكرية أيضًا. لذلك، فإن مصلحة هذه المؤسسة ومصلحة أفرادها، خصوصًا الشخصيات القيادية فيها، تأتي في مقدمة مهام هذا المنصب. تُضاف إليها قاعدة أهم، مفادها أن الجهة التي زكّته لهذا المنصب ستكون وحدها القادرة على استبعاده عنه أو استبداله.
وبالفعل، تحوّل دور المؤسسة خلال هذه العشرية من وصيّ على الدولة، كما كان الحال منذ سبعينيات القرن الماضي، إلى مالك ومدير ومشرف منفّذ على كلّ كبيرة وصغيرة فيها، وهو وضعٌ أقرب ما يكون لوضع الدولة بين مطلع ستينيات القرن الماضي وهزيمة يونيو عام 1967، حيث أصبحت مقدرات الدولة ومصالحها ومؤسساتها الرئيسية في يد العسكر، يديرونها وفق مصالحهم أولًا، آمنين من الحساب تمامًا، ويقف أمامهم موظفون مدنيون بمناصب ومراكز لا قيمة لها ولا وزن.
وفي مقابل هذا كله، حصل السيسي على طاعة المؤسسة وولائها، حتى بعد قيامه بإجراءات ذات انعكاسات شديدة الخطورة على أمن مصر القومي، وفي ملفات لم تكن المؤسسة لتتسامح بها أو تسكت عنها مع أي رئيس قبله، وعلى رأس هذه الإجراءات كان التفريط في واحدة من أهم النقاط الجيوسياسية، متمثّلة بالتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير الواقعتين في أخطر نقطة جغرافية عند مدخل خليج العقبة المؤدي إلى ميناء إيلات في فلسطين المحتلة، والذي كان إغلاقه السبب المباشر لاندلاع حرب 1967، فضلًا عن إطلالتهما على ميناء العقبة الأردني وعدد من الموانئ الاستراتيجية مثل ميناء سفاجا على البحر الأحمر.
كانت معادلة الحكم بين مؤسستي الرئاسة والجيش، منذ تأسيس الجمهورية، قائمة على فكرة مفادها أن الكلمة الأولى والأخيرة للرئيس والطاعة الكاملة له طالما أنه يمسك جيدًا بزمام الأمور وأن الأوضاع مستقرة. في المقابل، يتدخل الجيش في حال وقوع اضطرابات، ويملي شروطه وتكون له الكلمة العليا، كما حدث في انتفاضة يناير 1977، وثورة يناير 2011، وهو ما عاد وحدث بالفعل بعد التظاهرات التي اندلعت في مصر في سبتمبر/أيلول 2019، والتي أثمرت مسايرة السيسي لبعض رغبات الجيش وقتذاك.
وقد كان لخبرة السيسي الطويلة في القوات المسلحة دور مهم في تمكّنه من حفظ الاستقرار داخل المؤسسة عبر وسائل عدة، أهمها كبح الطموح الشخصي ومنع تكوّن مراكز قوى داخل الجيش وإبراز العصا والجزرة معًا. هكذا، أصبح التغيير الدوري والسريع للقيادات سمة رئيسية لولايته، وقد تمّت قوننته عبر تخفيض مدة التعيين في الوظائف العليا في القوات المسلحة من أربع سنوات إلى اثنتين فقط، مع إعطاء نفسه صلاحية التمديد، وذلك حتى لا تتشكّل مراكز قوى تقع خارج السيطرة الكاملة والولاء المطلق (أنظر المصادر هنا وهنا).
إن أي نظام ديمقراطي في مصر سيُفرز سلطة تعبّر عن الإرادة الشعبية المصرية التي ترى نفسها معنية مباشرة بالقضية الفلسطينية
من هنا، توسعت مزايا الولاء للسلطة وعطاياه ومكافآته عن طريق إغراء قيادات المؤسسة وضبّاطها بمشاريع ومناصب، وإغراقهم بمنح وثروات، بما يجعل المخاطرة بها عبر الانخراط في عصيان للأوامر أو محاولة تمرد، مغامرة انتحارية، خصوصًا بعد الاطلاع على التنكيل الذي أصاب من تجرأ على ذلك، كما هو حال الفريق سامي عنان، الذي لم يشفع له منصبه السابق كرئيس لأركان القوات المسلحة، وكذلك كان حال رئيس جهاز المخابرات العامة السابق خالد فوزي.
وقد عمل السيسي منذ يومه الأول في الحكم على القيام بما أمكن للاحتفاظ بالمنصب، وسعى إلى الاستفادة من تجارب أسلافه في الرئاسة، فحرص على منع تكرار 25 يناير عبر وأد أي محاولة احتجاجبة في مهدها، وكذلك وأد أي محاولة سلمية للاعتراض السياسي المنظم على نهج حكمه.
محاولة النجاة
يتّضح، بعد مرور تلك السنوات، أن لا مخرج من هذه الدائرة إلا بعودة الشعب المصري إلى الواجهة، وأداء دوره الأصيل في إعادة تشكيل السلطة ومحاسبتها. لكنّ الشعوب لا تتحرك من دون قيادة أو تنظيم، وهذه الأدوات هي ما عمل السيسي على سحقها وفق استراتيجية جز العشب قبل نموّه، إما عن طريق إفساد النخب وتطويعها، أو عبر سحقها وتحطيم كل ما هو منظم شعبيًا، بدءًا من الأحزاب وصولًا إلى روابط مشجعي كرة القدم.
من هنا كان البحث عن ثغرة ينفذ منها الشعب إلى المعادلة من جديد، وهي المهمة التي عملنا عليها ــــ أنا ومجموعة من الرفاق ــــ مع مرشح رئاسة الجمهورية المعتقل حاليًا أحمد الطنطاوي، وذلك على مدار عام ونصف العام عملت خلاله مستشارًا للطنطاوي ومسؤولًاعن الشؤون السياسية والخارجية في حملة ترشيحه للرئاسة.
وكانت استراتيجية "مشروع الأمل" تتمثل بخلق تنظيم لحظي وقيادة مفاجئة، قادرة على الانتقال من الاستبداد إلى تداول السلطة. وكان رهاننا على أمر واحد، وهو أن عودة الشعب إلى المعادلة عبر الصناديق أفضل وأكثر أمانًا منها عبر التظاهرات، وأن عودته هذه مرهونة بتصديق مشروعنا، وأن السبيل الوحيد لذلك هو أن نكون صادقين فعلًا، وأن يكون مشروعنا نزيهًا شريفًا، لا نلوثه بأكاذيب أو أوهام أو اتفاقات سرية.
وبالفعل، سار الأمر كما أملنا. لكن ما لم نتوقّعه هو ذاك المشهد المخيف المتمثل باستخدام آلاف البلطجية في طول البلاد وعرضها لمنع مؤيدي الطنطاوي من إصدار توقيعاتهم لمنحه الحق في الترشح، وتسهيل ذلك من قبل أجهزة الأمن. وبصراحة، حتى لو كنا قد توقعنا ذلك، فما الذي كان بوسعنا أن نفعله أمام عصابات مسلحة وقوى أمنية تعتدي على آلاف المواطنين في الشوارع، سوى ما فعلناه من محاولة حشد لتمكين المصريين من الحصول على حقهم؟
وقد بدا غريبًا في البداية صمت القبور على المستوى الدولي، وتجاهل ما يحدث إلى حد إحجام أي حكومة أو هيئة دولية عن إصدار بيان تنديد حتى. لكنّ ذلك فُسّر بسرعة. فـ"المجتمع الدولي" لم يقف صامتًا فحسب، بل كافأ السيسي بعشرات المليارات وأنفذ نظامه من أشد كارثة اقتصادية بعد أيام من هذا المشهد.
أما السر في ذلك فالعلاقات بين نظام السيسي وإسرائيل. وهنا أصبح جليًا أن المجتمع الدولي لا يعنيه من أمر مصر سوى أمرين، عدم انهيارها حتى لا يطال هذا الانهيار شواطئ أوروبا، وأمن إسرائيل الذي برع السيسي في الحفاظ عليه.
يدرك السيسي هذه المعادلة جيدًا. لذلك، فهو لم يكتف بأن يكون صديقًا لتل أبيب، بل أنتج معها شراكة ذات منفعة متبادلة. إذ إن الجانبين يشتركان في أمر بالغ الأهمية، يتمثل بخطورة الديمقراطية عليهما.
فالأخيرة تعني خروج السيسي من الحكم، خصوصًا بعد الفشل الاقتصادي والقمع الاستثنائيين في مصر، وهي في الوقت نفسه خطر على إسرائيل، على اعتبار أن أي نظام ديمقراطي سيفرز سلطة تعبّر عن الإرادة الشعبية المصرية التي ترى في إسرائيل عدوًا وجوديًا، وترى نفسها معنية مباشرة بالقضية الفلسطينية.
وهذا أحد أوجه أهمية ما يحدث في غزة وعموم فلسطين اليوم. فعلى مدى عقود، شاع شعار مفاده أن تحرير فلسطين من الاحتلال يبدأ بتحرير القاهرة من الديكتاتورية، وأن مصر، الدولة العربية الأكبر، وحدها قادرة على لم شمل العرب وحشد قواهم للجم إسرائيل.
لكن يبدو أن العكس تمامًا هو ما يحدث الآن. وربما هذا هو أحد أبرز أسباب السكوت المصري حيال ما تقوم به إسرائيل في غزة اليوم.