حدّثتني جارتي الماليزية، التي عادت من أداء فريضة الحج قبل فترة قصيرة، عن استغرابها والوفد الماليزي من غياب مظاهر واضحة للمقاطعة الاقتصادية في المطاعم والمقاهي الداعمة للاحتلال الإسرائيلي في كلٍ من مكة المكرمة وجدة السعوديتين ودبي الإماراتية.
وبذراعين مفتوحين وسعهما، وصفت لي ازدحام مقاهي "ستاربكس" في "أبراج البيت" بمكة المكرمة، فيما المتوافدون إلى منافذ "ماكدونالدز" في طوابير في جدة ودبي يبدون غافلين عن صبّ آلات عسكرية حممها يوميًا على إخوانهم المسلمين والعرب الفلسطينيين.
ولم تنسَ جارتي، فيما كانت المعايير الإسلامية تزدحم في خطابها الغاضب والمستنكر، أن تشير لي بكثيرٍ من اللوم ــــ وكأنني مسؤولة في إحدى الدول العربية ــــ إلى نجاعة المقاطعة في ماليزيا لجهة دفعها المستهلكين إلى هجر مقاهي "ستاربكس" ومطاعم "ماكدونالز" وKFC الموزعة بكثافة على مختلف الولايات الماليزية، ما تسبب لها بخسائر ضخمة وإغلاق فروعٍ كثيرة. بل إنها استحضرت أيضًا ــــ متباهيةً أمامي ــــ ما رواه لها ابنها المهندس الذي يعمل في بروناي عن المقاطعة هناك، للتأكيد على "النهج الإسلامي" في مقاطعة الاحتلال وشركاته الداعمة.
والحقيقة أن ما لاحظَته جارتي يعبّر بشكلٍ جلي عن فروق حقيقية وواضحة في المقاطعة الاقتصادية بين الدول العربية ودول الشرق الآسيوي لأسباب مختلفة؛ أولها فعالية حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات BDS، وثانيها الأبعاد الشعبية والرسمية والدينية للمقاطعة، وثالثها تفاعلات الدولة مع محيطها. ولكل عاملٍ تأثيره الخاص والواسع على المقاطعة والالتزام بها.
BDS ما وراء البحار
يكشف الظهور المتزايد للأعلام الفلسطينية ولافتات المقاطعة في الشوارع وعلى السيارات والمباني والمراكز التجارية في عددٍ من دول جنوب شرق آسيا، إضافةً إلى الحراك الشعبي المتمثل في تظاهرات مليونية وحشود شعبية أمام السفارات الغربية، عن أريحية شعبية ورسمية في التفاعل مع المقاطعة وتطبيقها، وعن انسجام سلس مع أهداف حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات BDS.
يتأتى ذلك أيضًا من وجودٍ رسمي واضح للحركة ممثلًا في مكاتب مرخصة في كلٍ من أندونيسيا وماليزيا وشراكات مع نقابات ومؤسسات غير حكومية في الدول المجاورة، ومن تصريحات صحفية وقوائم محدّثة للمقاطعة تتناسب مع التوجه الاستهلاكي لكل إقليم، ومع حجم التمدد التجاري والاقتصادي للعلامات الداعمة للاحتلال فيه.
انتهجت BDS في الآونة الأخيرة سياسة توسيع المقاطعة لتشمل منتجات وشركات عربية تعمل مع الاحتلال
كما تتفاعل الحركة مع الجماهير الشعبية والحكومات بما يدعم أنشطتها المتوائمة مع البيئة المحلية، وتدعم حملات الضغط على سلطات النقل البحري والجوي والبري وكبار التجار لحثّهم على تضييق الخناق على دولة الاحتلال اقتصاديًا، ولا تدّخر جهدًا في تقصي أثر أي نشاط ثقافي أو أكاديمي مشترك مع الاحتلال للوقوف بوجهه ومنع تنفيذه، مستعينةً بذلك بالدعم الشعبي المتنامي لها.
هذه الجهود التي تُعبر عن تركيز متزايد من BDS على دول الجنوب العالمي على غِرار أنشطتها التقليدية في دول الشمال، وعن توظيف كُل منفذٍ بإمكانه أن يضيّق على الكولونيالية الإسرائيلية، أتت أُكلها مع نجاح الحركة وشركائها الاقليميين في الحشد أسبوعيًا لتظاهرات وفعاليات تضامن استهدفت محيط السفارات الغربية الداعمة للاحتلال.
كما انخفضت نسبة التعامل التجاري والاستهلاكي مع الشركات والعلامات الغربية في جنوب شرق آسيا بشكلٍ حاد، ما أسفر عن خسائر قاسية تمثّلت في إغلاق فروعٍ لمطاعم ومقاهي ومنتجات ومتاجر، وتراجع في الإيرادات والأرباح والنمو نصف السنوي، وارتفاع في تكاليف استيراد دولة الاحتلال نتيجة إغلاق الموانئ في وجهها، بالإضافة إلى التضييق على سياحها في عدد من وجهاتهم السياحية والتأثيرات الثقافية الناجمة عن اعتبار إسرائيل دولة فصل عنصري مسؤولة عن إبادة جماعية.
في المقابل، فإن BDS لا تحظى برضى رسمي في الدول العربية نتيجة رفضها سياسات التطبيع مع الاحتلال والتعاون الاقتصادي والثقافي معه، وفتح المطارات والموانئ أمامه، وتدعيم وجوده من خلال الجسور البرية أو الشراكات التجارية الخاصة أو الحكومية.
كما أن BDS لا تدّخر جهدًا في الكشف الصريح عن أوجه التواطؤ العربي مع الاحتلال. وقد انتهجت الحركة، في الآونة الأخيرة، سياسة توسيع المقاطعة لتشمل منتجات وشركات عربية تعمل مع إسرائيل. يؤدي كل لذلك إلى تراجع تأثيرها شعبيًا تحت وطأة الضغط الرسمي، بل إن جهودها تُستنكر أحيانًا تحت مبررات "الإضرار" بالاقتصاد الوطني القائم أصلًا على التبعية للغرب.
على أحدٍ ما أن يكون في المقدمة
تُظهر المقاطعة في جنوب شرق آسيا أهمية وجود قيادة قادرة على تزخيم المسار وتوجيهه. إذ إن أنشطة المقاطعة هناك تحظى بدعمٍ رسمي وديني يُضاف إلى الزخم الشعبي ويضاعف من تأثيره، وهذا يعزز الإحساس بواجب التضامن مع "المسلم" أينما كان. وقد سبق لذلك أن تجلى في حملات شعبية تهدف إلى جمع الأموال للمسلمين في بورما والهند وكذلك لمسلمي الإيغور سابقًا.
وقد استهدفت حملات مقاطعة سابقة دولة الاحتلال ومنتجاتها بدءًا من العام 2016 في أندونيسيا و2019 في ماليزيا، وشملت شركاتٍ داعمة للاحتلال بشكل "فاقع" مثل "ستاربكس" و"باسكن روبنز"، وحقّقت نتائج إيجابية وواعدة.
واليوم، تتكرّر المقاطعة في ظل دعمٍ سياسي قوامه مواقف الحكومات في كلٍ من ماليزيا وأندونيسيا والمالديف وبروناي، التي تتخذ موقفًا مناهضًا للاحتلال برز عشية "منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ" عام 2023، حين أصدرت هذه الدول بيانًا خاصًا يدعو إلى وقف الحرب الإسرائيلية على غزة.
كما ظهر ذلك في "المنتدى الإقليمي الأمني" عام 2024، الذي شكّل انقلابًا على مسعى بعض الدول العربية وإسرائيل إلى إطلاق موجة تطبيعِ جديدة تصل إلى ماليزيا وإندونيسيا وبروناي، وقد تجلّى الدعم السياسي للفلسطينيين في مواقف رؤساء الوزراء ووزراء الخارجية.
أما على الصعيد الديني، فقد حظيت المقاطعة بغطاء تمثل بعددٍ من المواقف والفتاوى. ففي إندونيسيا، أصدر مجلس العلماء الإندونيسي فتوى تحرّم أي دعم لإسرائيل أو أي طرف يدعمها، فيما أشاد عددٌ من شيوخ ماليزيا ومفتيها بالمقاطعة، مع تأكيدهم على أهمية الالتزام بالخُلق الإسلامي وعدم تخريب الممتلكات.
بات بإمكان الفلسطينيين الاستفادة من قواعد شعبية وربما حكومية جديدة لتدعيم نضالهم، حتى لو كانت وراء البحار
في المقابل، كان الحراك الشعبي العربي الرافض للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني خجولًا قياسًا على المتوقع والمطلوب، وبالمقارنة مع أدواره خلال الحروب الإسرائيلية السابقة على غزة عامي 2014 و2021.
وقد ترافق ذلك مع ضغوط رسمية وقمع متواصل تمثل بالاعتقال والملاحقة وتهديد منظمي التظاهرات والفعاليات وحملات جمع التبرعات في كلٍ من الإمارات ومصر والأردن والسعودية، حتى بدا رد الفعل العربي نسقًا متكاملًا يتّسم بتفاعلٍ بارد مع الحرب، ويختلف عن ذاك الذي صاحب القمة العربية ــــ الإسلامية الاستثنائية عام 2023.
وقد تكرّس النهج الرسمي من خلال تصريحات مسؤولين عرب تستنكر المقاومة الفلسطينية وتتجاهل الحق الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير، في مقابل تسويق التطبيع مع الاحتلال، فضلًا عن دعم مسؤولين ومشاهير عرب لمنتجات وشركات مدرجة في قوائم المقاطعة، بدءًا بتركي آل الشيخ، رئيس هيئة الترفيه السعودية الذي روج صراحةً لمطاعم "ماكدونالدز"، مرورًا بفنانين ورياضين عرب شاركوا في حملات دعائية لمنتجات ومقاهي ومطاعم، وصولًا إلى دعاة وشيوخ ظهرت لهم مقاطع مصورة خلال استهلاكهم هذه المنتجات.
والحال أن الأريحية التي يشعر بها الدعاة والشيوخ في المنطقة العربية لجهة الترويج لهذه المنتجات تأتي متماهية مع الموقف الرسمي، بل إن بعض الفتاوى رفضت المقاطعة صراحة ووصفتها بـ"الجهل التجاري"، متجاهلة أن فروع الشركات ملزمة بتقديم نصيبٍ من أرباحها للشركة الأم، وأن الحصول على الامتياز ليس سوى إدارة للعملية التجارية، لا امتلاكًا لها، وهو ما يؤكده تأثر أسهم وأرباح الشركات في مقرّاتها الرئيسية، برغم أن زخم المقاطعة يتركّز في دول الجنوب العالمي.
البُعد غنيمة
هناك عاملٌ آخر يؤدي دورًا مؤثرًا في المقاطعة لمصلحة دول جنوب شرق آسيا، ألا وهو البُعد الجغرافي عن فلسطين وتداعيات الحرب فيها بالمقارنة مع الدول العربية، وهو ما يترك لكلٍ من الشعوب والحكومات مرونة في اتخاذ مواقف أو قرارات من دون التحسّب لتبعات اقتصادية أو سياسية بالغة. وقد ظهر أثر ذلك أيضًا في الموقف الدبلوماسي لدول أفريقية وأخرى من أميركا اللاتينية متعاطفة مع القضية الفلسطينية.
كما أن الارتباط بعلاقات دفاعية أو اقتصادية مع دولة الاحتلال أو الولايات المتحدة انعكس سعةً أو ضيقًا في المساحات التي تمنحها الحكومات لشعوبها، سواء في ما يتعلق بالتظاهرات أو المقاطعة. وهذه الارتباطات منخفضة نسبيًا في جنوب شرق آسيا بالمقارنة مع الدول العربية، إذ إن معظم الدول الآسيوية تميل إلى توثيق العلاقات بجارتها الصين وتتجنّب المناكفات السياسية معها.
وإن كانت دول جنوب شرق آسيا الإسلامية (ماليزيا، أندونيسيا، بروناي، المالديف) داعمة للقضية الفلسطينية من منطلقٍ إسلامي، ويحظى الخطاب الديني فيها بتأثير بيّن، فإن شعوبًا مجاورة لها تنطلق في دعمها من أسس إنسانية ورغبة بالاتساق مع العدالة القانونية (الفلبين، سنغافورة، فيتنام) متجاوزةً اتفاقيات تكبّل حكوماتها، ومؤكدةً أن مواجهة الاستعمار في فلسطين بإمكانه أن يقرّب بين الشعوب.
وهذه المحددات الثلاث (الإسلامية، والإنسانية، وتاريخ الاستعمار المشترك) هي ما تحاول بعض الدول العربية تجاوزه من خلال مواصلة علاقاتها مع الاحتلال وتماهيها مع الدعم الامبريالي له، بل إنها تستنفر من أجل ذلك آلتها الإعلامية والرسمية والدينية لقمع أي حراكٍ شعبي قد يغيّر البوصلة الحكومية أو يحرفها.
في المحصلة، يمكن القول إن فعالية المقاطعة في جنوب شرق آسيا أثبتت أن النضال ضد الاحتلال يمكن أن يكون أقوى وأعمق أثرًا متى حظي بدعمٍ حكومي ومساحات أوسع من الحرية الجماعية والنقابية. كذلك يمكن القول إن الفلسطينيين بات بإمكانهم الاستفادة من قواعد شعبية وربما حكومية أخرى لتدعيم نضالهم. يبقى خيار الاستفادة تلك عائدًا لهم ومرتبطًا بإدراكهم الحاجة لحلفاء ومساندين جُدد، حتى لو كانوا وراء البحار.