عندما خطونا أولى خطواتنا من باب الخروج في مطار أوسلو، كانت بانتظارنا مندوبة من بلدية المدينة التي استضافتنا. تحمل في يدها ورقة كُتب عليها اسمي، وعلم النرويج صغيرًا، وفي اليد الأخرى سلة فراولة.
بعد الترحيب بنا قامت بمناولة ابني الأصغر العلم وهي تبتسم بود كأنها تريد القول: هاك وطنًا جديدًا.
عبد الرحمن وُلد قبل تسع سنوات في تركيا، حيث لم يعرف شيئًا عن الوطن، إلا من خلال أحاديث عائلية يومية تتمحور عادة حول صعوبة العيش هناك، وأحوال أقربائنا، والحروب التي تنشب بين حين وآخر. وعدا ذلك هو يحب الناس الذين يعيشون هناك فقط.. بحسب قوله.
هو بكل تجرد "بدون"، أي أنه لا يملك وثائق رسمية. فهو غير مدرج في سجلات أي دولة سوى في شهادة ميلاده التي أصدرتها المستشفى حيث أبصر النور. وحتى الأخيرة تبرأت مؤخرًا من الاعتراف به.. كأنه طيف صغير يجول هذا العالم. يقطع حدوده، يتحدث لغاته، يشير إلى جهاته.. لكن من دون أن يعرفه أحد سوانا، ولعلكم الآن ستعرفونه أيضًا.
عندما دخلنا تركيا لأول مرة، وكان ذلك قبل عشر سنوات ونصف، ظننا أننا لن نغادرها إلا باتجاه الجنوب عائدين إلى منبتنا، لكن ذلك لم ولن يحصل. إذ بدأت رحلة الشتات منذ تلك اللحظة.
من وجهة نظر الأطفال، قد يكون الوطن مكانًا يحمل ذكريات اللعب والضحك، والأماكن التي يلتقون فيها بأصدقاء لهم. إنه المكان الذي يشعرون فيه بالأمان مع أسرهم وبحنان أحبائهم. وقد يكون الوطن مكانًا يتمنّون العودة إليه بعد فترة طويلة من الانفصال عنه، حيث ترتبط ذاكرتهم بكل ما فيه، من أحداث وأشخاص وبيئة، وهذا يشكل الانتماء.
غير أن عبد الرحمن يمتلك مفاهيم مختلفة عن الانتماء، ليست طفولية بقدر ما هي خاصة به وبجيل عاش المسار ذاته. فالغربة، في نظره، هي الابتعاد عن شخص يحبه. والوطن هو المكان الذي يعيش فيه، ولو لفترة، بغض النظر عن موقعه على الخريطة. وكلما كبر اكتشف حقائق مؤلمة عن هذا الوطن...
أما الأمان فهو عدم ذكر كلمة "الترحيل"، لا سرًا ولا علانية. حتى إن وردت من باب التهريج أو الترفيه أو إخماد الذعر، كما في إحدى الأغاني المنتشرة في الآونة الأخيرة، والتي يذكر فيها المغنّي عبارات من قبيل: "من مشيتك يعرفونك... إحذر ترا يسفرونك". والتي باتت تشكل هاجسًا في دواخل هذا الصبي الصغير.
عبد الرحمن مواطن عالمي، شأنه شأن ملايين مثله، سينتمي إلى كل بقعة من بقاع الأرض ويحمل راياتها المختلفة
تسع سنوات مرت على هذا الطيف، تربى خلالها على الهوية التركية. حمل علم تلك الدولة في مناسبات عدة، تحدث وسمع لغتها، احتفل باحتفالاتها الرسمية، مشى في شوارعها، حفظ وجوه وأسماء رؤسائها، والتزم بتعليماتها.. ثم رمى كل ذلك في لحظة، ليلتقط وطنًا جديدًا على هيئة علم، ربما لن يكون الأخير.
أسأل نفسي أحيانًا: إلى أي مكان ينتمي هؤلاء الصغار الذين سارت أعمارهم على دروب غير الدروب التي ألفها جيلنا؟ كيف تشرح لطفل أن هذا البلد الذي خُلق وترعرع فيه وتكلم لغته، ليس وطنه، ولا المكان الذي ينوي السفر إليه، بل هنالك وطن بعيد لم يره إلى الآن، وربما لن يراه أبدًا؟
* * * *
يقول لي صديقي الذي وصل إلى إحدى الدول الأوروبية منذ سنة: كلما رأيت علم هذه الدولة، أشعر بغبطة تجتاح روحي كما لو كانت وطني. ويكمل: صرنا نعيش أزمة راية نحن السوريين.
أعقّبُ على كلامه: أقبل العيش في دولة العدالة حتى لو كانت رايتها حفاضة طفل ملطخة بالخراء.
فنضحك معًا ككبار على خيبتنا التي تلائم حجم الكارثة.
* * * *
أما بالنسبة لعبد الرحمن؛ فقد مضى على وصولنا إلى هنا ما يقارب الشهر، وما زال علم النرويج لعبته المفضلة. يلوّح به خلال احتفال صغير من صنعه، ويكرر ذكر اسم "النرويج" على لسانه مرات كثيرة في اليوم. كما لو أنه يحاول التقاط الوطن الذي أهدته إياه المندوبة في اليوم الأول.
وفي محاولة مني لفهم بعض أفكاره عن هذه النقلة الكبيرة، طلبت منه رسم علم وطنه، من دون أن أحدد له ماهية ذلك الوطن أو تصميمًا معيّنًا، فأجاب على الفور: الأخضر أم الأحمر أم الأحمر والأبيض ذو الهلال والنجمة؟
أظن أنّي في تلك اللحظة بالذات شعرت بحيرة ممزوجة بحزن عميق. فمن المؤكد بعد سنوات قليلة من الآن، إن طلبت منه القيام بالتجربة نفسها، سيضاف علم النرويج إلى خياراته. وربما تضاف أعلام وأوطان أخرى إلى قاموس انتماء الصبي.
وفي خضم صمتي وحيرتي، وكي يخفّف عني حرج الإجابة، رسم الأعلام الثلاثة في ورقة واحدة، وقدّم لي اللوحة مبتسمًا ببراءة، كأنه يربّت على قلبي.
عبد الرحمن مواطن عالمي، شأنه شأن ملايين مثله. سينتمي إلى كل بقعة من بقاع الأرض، ويحمل راياتها المختلفة. سيغني أناشيدها الوطنية، ويحفظ أسماء رؤسائها ويلتزم بتشريعاتها، ويحذّر من حملات ترحيلها. لكنه سيتخلى عنها في لحظة ويغادر نحو وجهة جديدة سيعتبرها وطنًا.