أثار دعم ألمانيا الرسمي المطلق لإسرائيل سؤالًا، تناوله البعض عبر "السوشال ميديا" بسخرية، حول إصرارها التاريخي على الوقوف إلى جانب الإبادات. يحتاج الأمر طبعًا تحليلًا أبعد مما تنطوي عليه "الميمز" أو سائر الاعتبارات التبسيطية التي تفيد بـ"عنصرية البيض". لكن هل من الصدفة أن يقدّم البلد الذي روّج في السابق لإبادة الشعوب السلافية والمثليين واليهود والغجر وغيرهم، دعمًا للكيان الذي يرتكب إبادة في غزة اليوم؟
لعلّ فهم النازية ـــ أو الفاشية عمومًا ــــ بما يتجاوز اختزالها بجرائمها، يساعدنا على استيعاب أسباب فشل الحلفاء في اجتثاثها من ألمانيا، ويفسّر ظهور شبحها في أوروبا ومناطق أخرى في العالم.
ركائز النازية
غالبًا ما يَستحضرُ ذكرُ النازية حروبَها وجرائمها. لكن ما لا يجب إغفاله أن عنفها جاء في سياق مشروع سياسي قائم على ثلاثة ركائز أساسية: تسييس الهوية والاستعمار والرأسمالية.
إن أحد أبرز أدوار الدولة يتمثّل في الفصل بين الداخل والخارج، أي من يشكلون جزءًا من شبكة مصالح المجتمع (المواطنين) ومن لا يشكلون جزءًا منه (غير المواطنين). أما النازية فميّزت بين الداخل والخارج على أساس الهوية الإثنية والدينية والجندرية. ومن الملفت أنها استلهمت ذلك من المراحل التأسيسية للولايات المتحدة وما تلاها من فصل عنصري بحق السود، فأنتجت قوانين تمييزيه مشابهة.
وقد أخذ تسييس النازية للهوية شكلًا استعماريًا، فاستنسخت النموذج التوسّعي للمستوطنين البيض في أميركا الشمالية في خططتها لغزو بولندا وسائر أوروبا الشرقية. بل إن هتلر درس "علم" تحسين النسل eugenics الأميركي على وجه التحديد، واستخدم المنطق نفسه لتبرير سياسات حزبه الإبادية.
ولم تكن حملات التطهير العرقي التي نفذتها ألمانيا النازية بالأمر الجديد في أوروبا. إذ مارست أمم أوروبية أخرى كإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وهولندا والمملكة المتحدة الأمر نفسه حين استعمرت واستعبدت شعوبًا في الجنوب العالمي. وثمة من يرى أن "خطيّة" ألمانيا الرئيسية تتمثّل ــــ من وجهة نظر جيرانها ـــ في أن مشروعها الاستعماري طُبّق على داخل حدود أوروبا.
ولم تمتّ النازية ــــ أي "القومية الاشتراكية" nationalsozialismus ــــ إلى الاشتراكية بصلة، بل كانت مشروعًا رأسماليًا بامتياز. وكان للرأسمالية دور حاسم ومباشر في صعود هتلر إلى السلطة. إذ إنّ الحرب الأوروبية العظمى (أي "العالمية الأولى") كانت قد انتهت بهزيمة ألمانيا وفرض عقوبات شديدة عليها، ومنها استحواذ "الحلفاء" على ثروتها الصناعية والكثير من مواردها الطبيعية بما فيها مناجم الفحم، فضلًا عن الاستيلاء على أسطولها الحربى وتحديد جيشها بـ20 ألف جندى فقط.
وقد دفع ذلك رأسماليي ألمانيا الصناعيين في مشروع الحزب النازي إلى العمل على التخلص من هذه القيود، وأرادوا تأمين حماية لهم من "خطر" الحركة الشيوعية على امتلاكهم وسائل الإنتاج، فموّلوا حملات الحزب النازي الانتخابية وماكينته الإعلامية، وضغطوا على الرئيس هندنبروغ للقبول بتعيين هتلر مستشارًا، وأدّوا دورًا حاسمًا في منح الأخير صلاحيات استثنائية رسّخت حكمه الدكتاتوري.
لا بد من الإشارة إلى أن دعم أوروبا للصهيونية جاء كأحد تجليات المنطق الهوياتي
ولا بدّ هنا من الإشارة إلى علاقة الرأسماليين الألمان المميزة بالولايات المتحدة قبل الحرب، إذ كان لأكثر من مئة مؤسّسة أميركية مصالح في ألمانيا، لاسيما في مجال الصناعات العسكرية. وخلال الحرب استمرّت الشركات الأميركية في دعم بعض الصناعات العسكرية، وتجنّب سلاح الجو الخاص بالحلفاء قصف العديد من المعامل الألمانية باعتراف وزير الخزانة الأميركية، هنري مورغنثاو، وقد ساعد ذلك على نموّ الإنتاج الحربي الألماني برغم القصف المتزايد لألمانيا. أما بعد الحرب، فقد برّأت محاكم "نورمبورغ" الرأسماليين الصناعيين الألمان من تهمة استعباد البشر في معسكرات الاعتقال، أو اكتفت بإصدار أحكام شكلية بحقهم.
هل نزع الحلفاء بذور الفاشية من ألمانيا؟
وجد الساعون إلى اجتثاث النازية من ألمانيا أنفسهم أمام تحدّي تقديم مشروع سياسي غايته تفكيك ركائز المشروع النازي المتمثّلة بسياسات الهوية والاستعمار والرأسمالية. لكنّ الحلفاء آثروا التركيز على محاكمة مرتكبي الجرائم الناتجة منه أكثر من تفكيك العناصر المشكّلة له. هكذا، أفرطت المحاكمة في التركيز على الأفراد على حساب المشروع ذي الطبيعة الاستعمارية، أو حُصر الأمر بالجانب الاستعماري للنازية الذي أنتج أذية داخل أوروبا.
ولم تُفكَّك شبكة المصالح الرأسمالية ــــ في ألمانيا الغربية ــــ التي أتت بهتلر إلى السلطة، بل حافظت بُنى الرأسمالية على قوّتها في المجتمع الألماني.
كما لم تُقدَّم رواية رسمية مفادها أن اليهود يشكّلون جماعة دينية داخل مجتمعاتهم، وأُعيد إنتاج "المسألة اليهودية" و"معاداة السامية" انطلاقًا مما لا يتناقض فعلًا مع الرواية النازية، والصهيونية بطبيعة الحال، حول اليهود بوصفهم شعبًا أو قومًا. ويمكن القول إن مشاركة الصهانية والنازية النظرة نفسها حيال اليهود بوصفهم جماعة منفصلة، يفسّر اعتبار هرتزل "المعادين للسامية أصدقاء للصهيونية" كما كتب في مذكراته.
لم يكن خيارُ الحلفاء محاكمة الألمان وبعضِ جوانب المشروع النازي دون الجوانب الأخرى، نتيجة خطأ أو سوء تقدير، بل كان خيارًا واعيًا. إذ كانوا مذنبين، كما أسلفنا، جراء تبنّيهم سياسات مشابهة في الكثير من النواحي.
تتطلب مواجهة الفاشية الانتظام في حركات سياسية تنظر إلى الدول بوصفها أدوات وظيفية لإدارة شؤون المجتمع، لا مكنات حرب هوياتية
ويذكر أستاذ الأنثروبولوجيا والعلوم السياسية، الباحث الأوغندي محمود ممداني، في كتابه "Neither Natives Nor Settlers" أن "الحلفاء اختزلوا النازية بالجرائم التي ارتكبها الألمان وتجاهلوا كونها تعبيرًا قوميًا، فحموا أنفسهم ومواطنيهم من إدانة الجرائم التي مارسوها في أراضيهم ومستعمراتهم... وحصروا المحاكمة بالألمان فحموا مواطنيهم المتعاملين مع النازيين. ولو اعتُبرت النازية مشروعًا سياسيًا، لكُشفت جميع هذه الحقائق الأساسية، وهو ما كان سيشكّل فرصة لطرح رؤية جديدة وثورية للنظام السياسي الحديث".
كيف انعكس ذلك على أوروبا وفلسطين؟
حافظت رغبة الحلفاء بنزع بعض جوانب النازية من دون الخوض في ركائزها الثلاثة وتفكيكها على حضورها في الوعي (واللاوعي) الجمعي الأوروبي. ولعلّ هذا أحد العوامل التي تفسّر صعود اليمين الأوروبي المتطرف اليوم. وهو يفسّر، مثلًا، سبب إحالة أنصار اليمين المتطرف النسب المرتفعة للجريمة في الأحياء التي يقطنها المهاجرون الجدد إلى طبيعة سكان هذه الأحياء، لا إلى السياق المادي لهذه الجرائم. ومن اللافت ميل قطاعات واسعة من اليسار الأوروبي إلى الوقوع في فخ تسييس الهوية، إذ ينحو للدفاع عن الفئات المهمشة بوصفها كذلك، دون تشخيص جذور المشكلة وطرح مشروع سياسي يعالجها، فيستبدل خطاب اليمين "ضد الآخر" بخطاب "مع الآخر" يرسّخ مفهوم "الآخر" الهوياتي في جوهره.
كذلك ساهم ترسيخ المنطق الهوياتي باندلاع حروب أهلية في أوروبا. وقد تكون حروب البلقان أبرز مثال للنتائج الكارثية للتشكّل الهوياتي للمجتمعات في حالاتها الأكثر تطرّفًا. كما وظّف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الهوية في حربه مع أوكرانيا، بحيث قدّم نفسه حاميًا لسكان شرق أوكرانيا (من الإثنية الروسية) ونفى وجود قومية أوكرانية من الأساس، في مقابل قيام قوميين أوكران بإنتاج خطاب يستحضر رموزًا أوكرانية تعاونت مع النازيين خلال الحرب العالمية الثانية.
ولا بد في هذا السياق من الإشارة إلى أن دعم أوروبا للصهيونية جاء كأحد تجليات هذا المنطق الهوياتي. إذ قبلت ألمانيا ومعها معظم دول أوروبا الغربية بمنطلقات الصهيونية العنصرية، وقدّمت تسهيلات لها بزعم أنها تمثل تطلعات اليهود المضطهدين في العالم. هكذا، ساهمت أوروبا في تقسيم فلسطين وتسهيل عمليات التطهير العرقي فيها، وصولًا إلى تسهيل وقوع الإبادة في غزة اليوم.
لقد أدى إحجام الحلفاء عن تفكيك الركائز الهوياتية والرأسمالية لمشاريعهم الاستعمارية بإلحاق أضرار فادحة، لا بـ(بعض) مجتمعاتهم فحسب، بل بمجتمعاتنا على وجه الخصوص. لكن التاريخ لم ينتهِ. إذ بإمكان الأوروبيين اليوم، وبينهم ملايين العرب المقيمين في أوروبا، لا سيما الحائزين منهم على جنسيات أوروبية، مواجهة هذه المشاري.
إن مواجهة المنطق الهوياتي والاستعماري، ومن أبرز تجلياته المشروع الاستيطاني الصهيوني، يتطلب الانتظام في حركات سياسية تنظر إلى الدول بوصفها أدوات وظيفية لإدارة شؤون المجتمع، لا مكنات حرب هوياتية؛ وتنظر إلى المجتمع بوصفه مجموعة أفراد تجمعهم شبكة مصالح، لا قبائل طائفية؛ وتدرك، في الوقت عينه، دور الرأسمالية في توظيف الهويات على حساب مصالح الغالبية العظمى من مشكّليها.