الجنس والجندر في أولمبياد باريس: قصّة إيمان خليف
رافقت أولمبياد باريس سجالات حول الهورمونات والهوية الجنسيّة والجندرية والنساء الملوّنات في المسابقة، وما هو مسموح وممنوع فيها. وكانت الملاكمة الجزائرية إيمان خليف عنوانًا بارزًا لهذا السجال.
رافقت أولمبياد باريس سجالات حول الهورمونات والهوية الجنسيّة والجندرية والنساء الملوّنات في المسابقة، وما هو مسموح وممنوع فيها. وكانت الملاكمة الجزائرية إيمان خليف عنوانًا بارزًا لهذا السجال.
في السادس والعشرين من تموز/يوليو الماضي، جلس الملايين أمام الشاشات لحضور حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في باريس. أراد المنظّمون أن يتفوّق الحفل بسحره على المراسم الافتتاحية في بكين عام 2008 التي وصفها البعض بـ"الأفضل على الإطلاق"، أو تلك التي أُقيمت في لندن عام 2012 وأذهَلَت ملايين المتابعين.
افتُتحت الدورة بمشهد يضم رجالًا يرتدون ثيابًا نسائية ويضعون مكياجًا صارخًا، تصدّرهم مغنٍ فرنسي شبه عارٍ ومطلي باللون الأزرق، بدا للبعض أشبه بالسنافر مما هو إلهُ الخمر لدى الإغريق الذي يُفترض أنه يمثّله. وفي حين أن اللجنة الدولية الأولمبية اختارته لتجسيد "عبثية العنف بين البشر" ، فإنّ متابعين كُثر اعتبروا المشهد مسيئًا للمسيحية ورموزها بسبب مشابهته لوحة "العشاء الأخير" للفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي.
وفاقَم الجدلَ وجودُ عارضة أزياء عابرة جنسيًا ومنسّقة أغاني مثلية الجنس في المشهد نفسه، فوُجهت انتقادات للّجنة الدولية التي ردّت بالقول إنها بهذا الحدث تهدف إلى الاحتفاء بالحب وإلى إشراك فئات المجتمع كافة في أولمبياد هذا العام.
وسط كل هذا الجدل، كانت ثيمة العدالة الجندرية بارزة في نسخة الأولمبياد الراهنة. هذا ما أراد المنظمون أن يظهروه بوضوح من خلال إشراك رجل وامرأة معًا في إيقاد شعلة الأولمبياد في ختام حفل الافتتاح. وفي السياق نفسه جاء إقرارُ اللجنة الأولمبية إجراءات عدة، بينها رفع نسبة المشاركة النسائية إلى 50%، أي بما يزيد عما كانت عليه في أولمبياد طوكيو 2021 بـ 2%، وذلك لتحقيق "المساواة الكاملة بين الجنسين في ميدان اللعب".
وقد عكست هذه الأرقام قفزات ملحوظة بالمقارنة مع أولمبياد 1900 ــــ أي المرة الأولى التي شاركت فيها نساء في المسابقات ــــ حيث شكلت نسبتهنّ آنذاك 2% من الرياضيين فقط. ورافق هذا التقدّم تسليم عدد أكبر من النساء مناصب في اللجنة المنظّمة، ما سمح بتملّكهن صلاحية اتخاذ قرارات تؤثر على التمثيل الجندري، حتى بلغت نسبة النساء في المجلس التنفيذي للجنة الأولمبية الدولية 33%، وبات النساء يقُدن 42% من هيئاتها.
لكن مع كلّ هذا التقدّم، كانت سجالات موازية تدور في العلن حول الهورمونات والهوية الجنسيّة والجندرية والنساء الملوّنات في المسابقة، وما هو مسموح وممنوع فيها. وكانت الملاكمة الجزائرية إيمان خليف عنوانًا بارزًا لهذا السجال.
لم يكد الجدل يهدأ حول افتتاحية الأولمبياد حتى تبعه بأيام جدل آخر حول الهوية الجنسية والجندرية للملاكمة الجزائرية إيمان خليف وأهليّتها للمشاركة. وقد أثارت إيمان هذا الجدل بعدما هزمت نظيرتها الإيطالية أنجيلا كاريني في غضون 46 ثانية، وانسحبت الأخيرة باكية بعدما "سبّبت لها الضربة ألمًا شديدًا". تبع ذلك موجة من الانتقادات طالت اللجنة الدولية الأولمبية لسماحها لخليف بالمشاركة، بعد رواج مزاعم تفيد بأن لديها مستويات عالية من هرمون الذكورة ــــ التستوستيرون ــــ أو بأنها عابرة جنسيًا أو حتى ثنائية الجنس.
ولم تكن تلك المرة الأولى التي توضع أهلية خليف للمشاركة في البطولات تحت الاختبار. ففي العام الماضي، استُبعدت من المشاركة بعد وصولها للنهائيات في بطولة العالم للملاكمة النسائية التي أقيمت في نيودلهي، بسبب عدم تجاوزها الاختبارات التي تسمح لها بالمشاركة في منافسات النساء وفق تصريح للاتحاد الدولي للملاكمة. وأشار التصريح نفسه إلى أن خليف لم تخضع لفحص مستويات التستوستيرون بل لفحص آخر "معترف به"، على أن تبقى تفاصيله طي الكتمان.
سبق للاعبة التنس الأميركية السوداء سيرينا ويليامز أنّ تعرّضت لحملات كراهية عنصرية تنطوي على تمييز جنسي وتعليقات مسيئة حول جسدها
وبرغم تأكيد المتحدث الرسمي باسم اللجنة الأولمبية الدولية، مارك أدامز، أن جميع المتنافسات في فئة النساء يمتثلنَ لمعايير الأهلية في المنافسة، وأنهنّ نساء بحسب جوازات سفرهنّ، فإن خليف لم تسلم من حملات الكراهية الإلكترونية التي تعاملت معها بوصفها رجلًا متخفيًا بين النساء، وبلغ التنمّر حدّ وصفها بـ"الوحش".
وراح مشاهير ومؤثرون على مواقع التواصل الاجتماعي يحللون الأحداث ويستغلّون تضارب المعلومات أو نقصها للحكم على هوية خلف الجندرية. فنشر دونالد ترمب على منصة "إكس" معلقًا على الموضوع ومروجًا لحملته الانتخابية: "سأُبعد الرجال عن رياضات النساء".
أما الكاتبة جي كي رولنغ، مؤلفة سلسلة "هاري بوتر" الشهيرة، والتي تعرّف عن نفسها كناشطة حقوقية ونسوية (ويعتبرها البعض "ترانسفوب"، أي كارهة للعابرين/ات جنسيًا)، فكتبت على "إكس" معلّقة على صورة تُظهر إيمان واضعة يدها فوق كتف نظيرتها بعد المباراة: "هل يمكن أن تلخّص أي صورة أخرى حركة حقوق الرجال الجديدة، بشكل أفضل؟ هذه هي الضحكة الخبيثة لرجل يعرف أنه محمي من مؤسسة رياضية كارهة للنساء". ثم أردفت في منشور آخر قائلة إن ما حدث كان "مشهدًا لرجل يضرب امرأة، ليس إلا".
وليست هذه المرة الأولى التي تتعرّض فيها لاعبة رياضية لحملة كراهية أو تنمّر بسبب مظهرها أو عرقها. فلاعبة التنس الأميركية السوداء سيرينا ويليامز، مثلًا، تعرّضت لحملات كراهية عنصرية تنطوي على تمييز جنسي وتعليقات مسيئة حول جسدها خلال مسيرتها، ووصفها لاعب التنس الروماني السابق إيون تيرياك بـ"الوحش" أيضًا أثناء ظهور له على التلفزيون الروماني عام 2021، منتقدًا وزنها وسنّها وناصحًا إياها بالتقاعد "حفاظًا على كرامتها".
ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي يوجّه فيها تيرياك انتقادات لسيرينا على النحو ذاك. ففي مقابلة أخرى أجرتها معه مجلة ألمانية بعد فترة قصيرة من عودة سيرينا إلى الملعب إثر إجازة الأمومة، كرّر التعليق المسيء نفسه وأضاف: "أفضّل أن أشاهد لاعبة أخرى مثل ستيفي غراف".
وستيفي غراف واحدة من أفضل لاعبات التنس في جيلها. لكن ما يفرّقها عن سيرينا ويليامز هي خواص لا تخطئها عين: إنها امرأة بيضاء بشعرٍ أشقر وجسد "معياري" وعرقٍ آري. ومثلما لا يمكن إغفال الجانب العنصري في تعليق تيرياك، لا يمكن إغفاله في حالة خليف ذات البشرة السمراء والجسد المخالف لـ"المعايير"، في مقابل دموع فتاة بيضاء أصغر حجمًا من دول الشمال العالمي.
كانت خليف تبيع الخردة أثناء مراهقتها، تمامًا مثل والدتها، كي تتمكّن من تغطية نفقات انتقالها لحضور جلسات التدريب
ويستوي هذا مع تعريف أستاذة دراسات المرأة والجنس في جامعة بوردو، شيريل كوكي، للأنوثة، الذي "يعتمد في كثير من الأحيان على المفاهيم الغربية للأنوثة البيضاء أو معايير الجمال الأبيض". وهو يرتبط بالصور النمطية لهنّ كنساء أكثر ذكورية، وبتاريخ من التشييء الذي يعيده البعض إلى مراحل في الماضي كانت تقيّم النساء الملوّنات المستعبدات فيه بناءً على مظهرهن الجسدي ومهاراتهنّ بوصفها أكثر ذكورية أو أكثر أنوثة.
كما يحيلنا هذا التمييز إلى المشقّة التي واجهتها رياضيات مثل ويليامز وخليف قبل الوصول إلى قمّة أدائهنّ الرياضي. فعام 2017، كتبت ويليامز رسالة إلى أمّها تشكُرها فيها على كونها مثالًا يُحتذى في مواجهة كلّ من هو "جاهل إلى حدّ العجز عن فهم قوّة المرأة السوداء".
أما خليف فكانت تبيع الخردة أثناء مراهقتها، تمامًا مثل والدتها، كي تتمكّن من تغطية نفقات انتقالها لحضور جلسات التدريب. وكانت نشأتها الصعبة أيضًا عاكسة لانتمائها الطبقي، وكان عملها والجهد البدني الذي ينطوي عليه غير مطابق لـ"المواصفات الجندرية المتعارف عليها".
وما يطال خليف اليوم ينطبق على زميلتها أيضًا، التايوانية لين يوتينغ، التي سبق أن أُقصيت من بطولة العالم للملاكمة النسائية للسبب نفسه، وتُنافس في دورة الأولمبياد هذا العام أيضًا وسط "جدل" حول هويتها الجنسية والجندرية. غير أن المفارقة الكبرى في حالة لين تكمن في أنها كانت قد تعلّمت الملاكمة أساسًا من أجل حماية والدتها... من العنف الأسري، أي الجندري.
أكدت تصريحات اللجنة الأولمبية الدولية على حق الجميع بالمشاركة في الأولمبياد دون استثناء. وقد حاولت اللجنة بالفعل تحقيق التوازن الجندري، وعمدت إلى الدفاع عن إيمان خليف وأصرّت على مشاركتها في المباريات القادمة. كما أن الدورة هذه حقّقت رقمًا قياسيًا في عدد المشاركين/ات من مجتمع "الميم عين" بالمقارنة مع الدورات السابقة، حيث بلغ عددهم 193 رياضيًا ورياضية.
غير أنّ اللجنة سمحت في المقابل للاعب كرة الطائرة الشاطئية، الهولندي ستيفن فان دي فالدي، بالمشاركة في الأولمبياد برغم الحكم عليه بالسجن لأربع سنوات سنة 2016 بتهمة اغتصاب طفلة تبلغ اثنتي عشرة سنة من العمر، قبل إطلاقه بعد سنة إثر تعديل جرمه بحسب القانون الهولندي من اغتصاب إلى "زنا".
وفي مقابل التصريحات التي تدعو إلى محاربة الإقصاء في أولمبياد هذا العام، برز قرار منع الرياضيات الفرنسيات المحجّبات من المشاركة، وعلّقت "منظمة العفو الدولية" على القرار في تقرير لها بما يعبُر في ذهن كثر، قائلة إن الحظر المفروض على اللاعبات الرياضيات الفرنسيات اللواتي يرتدين الحجاب يُعدُّ انتهاكًا للقوانين الدولية لحقوق الإنسان، و"يفضح نفاق السلطات الفرنسية القائم على التمييز وضعف اللجنة الأولمبية الدولية" في المقابل.