ابتداء من منتصف السبعينيات، وقبل مبادرة السادات للذهاب إلى القدس وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد، بدأ الإعلام المصري الرسمي، على استحياء، بعملية تشويه الفلسطينيين. وهي عملية أصبحت أكثر منهجية ووضوحًا بعد الرفض العربي والفلسطيني للسير وراء السادات في صلحه المنفرد.
وتدريجيًا، أخذت الحملات الإعلامية المصرية الدورية ضد الفلسطينيين تتّسم بالفجاجة، لتستمر خلال العقد الأول من حكم مبارك، وإن اكتسبت معه سمَتي "النعومة" والموسمية. كأن تقع مثلًا محاولة اغتيال لشخصية ما، فتُنشر فورًا، وقبل أي تحقيقات، أخبار منقولة عن "شهود" يأكدون أن منفذي العملية كانوا يتحدثون بلهجة فلسطينية. ثم يكتشف المتابعون لاحقًا أن هذه العمليات كانت من تنفيذ تنظيم "ثورة مصر" في حال استهدفت أميركيين أو إسرائيليين، أو إحدى المجموعات الجهادية في حال كانت موجهة لسياسيين مصريين.
كان للحملات الساداتية/المباركية تأثير بالغ الضرر على علاقة قطاعات واسعة من الشعب المصري بقضية الصراع العربي ــــ الإسرائيلي. وهي قطاعات لم تمتلك وعيًا متماسكًا بجذور الصراع وأبعاده. وفي هذه الفترة تحديدًا، أي نهايات السبعينيات وبداية الثمانينيات، سمعنا تعابير من نوع "الفلسطينيون باعوا أرضهم"، وأوصافًا لشعوب بلدان النفط تفيد بأنهم "حمير شايلين زكايب فلوس".
أذكر جيدًا دهشة أبي وأمي حين عدت يومًا من المدرسة الابتدائية، مطلع الثمانينيات، لأردّد أمامهما ما سمعته من زملائي في المدرسة؛ "عرب جرب". لم يسمعا قبلًا بهذا التعبير العنصري، لكنهما لم يستغرباه، وربطاه بالدعاية المنظمة لإعلام النظام.
ولمواجهة عملية تشويه الفلسطينيين، والترويج لوهم مفاده أن قضيتهم انتهت، وأن السلام مع إسرائيل حتمي ودائم، صاغ قطاع من اليسار المصري وقتذاك، ممثلًا بحزب "التجمع التقدمي الوحدوي"، شعار "نرضى بما يرضاه الفلسطينيون"، وذلك كي لا يتحمل أمام جمهوره الانتخابي موقفًا رافضًا صراحة لـ"السلام"، وليرهن العملية السلمية بالطرف المركزي، الذي لم يكن الفلسطينيين كشعب، بل "منظمة التحرير الفلسطينية" بوصفها وقتذاك ممثلًا شرعيًا ووحيدًا لهذا الشعب.
ليس المقصود مناقشة صوابية اختيار السنوار، ومكانة السياسة بالتوازي مع السلاح، لكنّ "شعاب مكة" أقل تعقيدًا وضيقًا من الصراع العربي ــــ الإسرائيلي
ومع خروج الثورة الفلسطينية من بيروت عام 1982، وبداية تراجع تأثيرها العربي، لم تفتر العلاقة بين حزب "التجمع" والمنظمة. لكن، نتيجة العلاقة الوثيقة التي ربطت قيادات الحزب، وبالذات خالد محيي الدين ولطفي الخولي، بياسر عرفات (وكان معروفًا عن الخولي أنه مستشار مقرب لعرفات)، تم اختزال الشعار تدريجيًا ليتحول عمليًا إلى "نرضى بما ترضاه منظمة فتح"، ثم "نرضى بما يرضاه أبو عمار"، إلى حد دفع الحزب إلى عدم اتخاذ أي موقف نقدي تجاه اتفاقيات أوسلو 1993، المتعارضة مع أدبياته نفسها، والتي تؤكد على شمولية الصراع العربي ــــ الإسرائيلي، والمبنيّة على اللاءات الثلاثة؛ "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف".
إن كان مسار كامب ديفيد، والدعاية المعادية للفلسطينيين، أضرا بوعي المواطنين المصريين بالقضية الفلسطينية وموقفهم منها، فقد أضرت سيادة هذا الاختزال الشعاراتي "التجمعي" بموقف قطاعات من المثقفين المصريين تجاه القضية، وموقعهم منها. إذ أدخلتهم في منطقة ضبابية تصعب فيها صياغة تصورات متماسكة عن حل حقيقي لمأساة الشعب الفلسطيني، وإن كان الضرر في هذه الحالة بدرجات أقل بكثير مما تسبب فيه النظام المصري.
شعاب مكة وأنفاق غزة
نُشرت قبل أسابيع أخبار عن اتفاق هدنة وشيك لوقف عملية الإبادة في غزة. بدا منها أن هذا الاتفاق لا يلبي شروط المقاومة الفلسطينية، لكنها ستقبل به. فظهر بين القطاعات المصرية المؤيدة للمقاومة والحق الفلسطيني على وسائل التواصل الاجتماعي، طيف شعار حزب "التجمع" القديم، بعد إعادة صياغته، ليكون "نرضى بما ترضاه المقاومة". وبعد لحظات قليلة من خبر اختيار يحيى السنوار رئيسًا للمكتب السياسي لحركة "حماس"، بدأت حالة من التهليل والتصفيق بين هذه القطاعات نفسها لهذا الاختيار. وكرد على أي محاولة للتساؤل أو النقاش أو التفكير، انتشر رد واحد، معمم؛ "أهل مكة أدرى بشعابها".
لا أدري إن كانت أنفاق غزة معادلًا عصريًا لـ"شعاب مكة" في أذهان المرددين لهذه العبارة/المثل. لكن هذه الحالة بالإمكان فهمها جيدًا، وهناك عوامل كثيرة تبرّرها. أهمها الثقة في السنوار، مهندس العملية الأكثر إيلامًا للاحتلال طيلة تاريخه، والإحساس بضرورة مواجهة خطاب السلطويين المصريين الذي يتهم "حماس" وإسماعيل هنية بالإرهاب والعداء لمصر، أي بأسلوب حزب "التجمع" القديم ذاته، أن نرضى بما يرضاه الفلسطينيون.
بالطبع أهل مكة أدرى بشعابه، وخصوصًا إن كان الأمر متعلقًا باختيار تشكيل سياسي/عسكري لقيادته. فمن الطبيعي أن يكون الأمر شأنًا داخليًا. ومن البديهي أن تحاط عملية الاختيار، وأبعادها، بعوامل السرية كافة، في ظل عملية إبادة غير مسبوقة يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة.
ولابد أننا، كـ"جمهور" متماه مع المقاومة، لا نحيط بأبعاد هذه العملية كاملة، تحديدًا بعد اغتيال هنية وترقّب صراع إقليمي، بالإضافة إلى ما جرى مستجدات فلسطينية خلال الشهور العشرة الأخيرة، التي أعادت، في تقديري، اسم فلسطين ليكون رمزًا لكل القوى الساعية للتحرر والتقدم في العالم.
ليس المقصود مناقشة صوابية اختيار السنوار، ومكانة السياسة بالتوازي مع السلاح، التي يقينًا يعيها جيدًا قادة "حماس" وبقية فصائل المقاومة. ولا يمكن التنبؤ بما سيحدث خلال الأسابيع والشهور القادمة، التي ستبيّن بلا شك بعض نتائج هذا الاختيار. المسألة أن "شعاب مكة"، التي لابد من معرفتها لتتبّع الأثر أو النجاة من التيه، أقل تعقيدًا وضيقًا من الصراع العربي ــــ الإسرائيلي، وفي القلب منه نضال الشعب الفلسطيني من أجل الحياة والحرية.
الظهير الحقيقي للمقاومة الفلسطينية يحتاج إلى ما هو أبعد من مجرد التصفيق، بل يستدعي وعيًا نقديًا وفاعلًا، مساندًا للقضية الفلسطينية بمبدئية
بعيدًا عن الافتتان بصوت أبو عبيدة وعيونه في فترة ظهوره، كان الافتتان العربي الأهم بمضمون ما يطرحه، والمعلومات التي يقدمها عن عمليات المقاومة، وصمودها، وفشل الاحتلال في القضاء عليها. والافتتان كذلك كان بالتغيير، ولو الطفيف، في لغة الخطاب الحمساوي، من تقليل للجرعة الدينية واستخدام تعبيرات جديدة مثل "يا أحرار العالم".
أحرار العالم المشكّلين لفعاليات التضامن مع الشعب الفلسطيني كافة، وأهمها الاعتصامات الجامعية الأوروبية والأميركية، هم من فرضوا اتخاذ إجراءات دولية ضد إسرائيل، سواء تمثلت بوقف العلاقات الدبلوماسية معها، أو سحب السفراء، أو مسار محكَمتي العدل والجنائية الدوليتين، واعتراف دول جديدة بدولة فلسطين، فضلًا عن اكتساب إسرائيل ملامح الدولة المنبوذة. والأهم، واجه أحرار العالم عملية نعت المقاومة بالإرهاب، وحوّلوا شعار "من النهر إلى البحر" لشعار عالمي.
كل ذلك ليس كافيًا. لكنه البداية. هذه المرة الأولى التي يشعر فيها أحرار العالم بالتماهي مع النضال الفلسطيني لهذه الدرجة. وهي كذلك المرة الأولى، منذ عقود، التي تُعيد أجيال عربية شابة صياغة علاقتها، ولو الوجدانية فحسب، بالشعب الفلسطيني ومقاومته. لكن، هل مطلوب من أحرار العرب والعالم مجرد التصفيق والتهليل، والتأكيد على دراية أهل مكة بشعابها؟
في مواجهة التصفيق
لم تكن تنظيمات الثورة الفلسطينية الوحيدة التي فتحت أبوابها لمن لا ينتمون إلى هويتها الوطنية. فقد سبقتها وتلتها حركات ثورية وتحررية أخرى. وقد ضمت الفصائل الفسلطينية بين صفوفها عربًا وأجانب، سواء في معسكرات الأردن ولبنان، أو في المجالين الثقافي والإعلامي.
بل إن عرفات ما قبل أوسلو، وبرغم كل ما عرف عنه من تفرّد في عملية اتخاذ القرار، وربما نرجسية، حرص على نسج شبكة علاقات واسعة بمثقفين ومتخصصين غير فلسطينيين، يؤيدون مبدئيًا الحق الفلسطيني وإن اختلفوا مع سياساته ــــ وإن لم يكن ذلك كافيًا ليمنح الثورة الفلسطينية ظهيرًا عربيًا حقيقيًا يحميها من العزل شعبيًا.
لسنا الآن في زمن عرفات والمنظمة، بل في زمن جديد يفرض على الفلسطينيين الكثير من الأسئلة والمهام. من ضمنها مركزية المقاومة المسلحة في العمل الفلسطيني، وإعادة تأسيس كيان موحد، يضم الجميع، ويعبّر برنامجه حقيقة عن طموحات هذا الشعب، وإعادة بناء ظهير شعبي، عربي وعالمي، للقضية الفلسطينية.
هنا تأتي المسألة الأساسية. فمحيطٌ أو امتدادٌ عربيٌ للمقاومة الفلسطينية، وظهير حقيقي أكثر تأثيرًا من مئات الأفراد العرب في معسكرات الفدائيين والمواقع الإعلامية، ومن أحزاب يسارية تعرّضت بدورها للعزل مجتمعيًا بمرور السنوات، قد يحتاج إلى ما هو أبعد من مجرد التصفيق. وهذا يستدعي وعيًا نقديًا وفاعلًا، مساندًا للقضية الفلسطينية بمبدئية، وقادرًا على أن يصب في مساراتها المختلفة أفكارًا وطرقًا جديدة أكثر اتساعًا من شعاب مكة الضيقة، وقادرًا أيضًا على إعادة توسيع جوهر الصراع مع إسرائيل عربيًا، بعدما عزلته الساداتية بداية، والأنظمة الخليجية لاحقًا، ولعقود، عن بعده العربي، حاصرة إياه في قضية إنسانية تخص شعبًا في طور الانقراض.
غير أنّ الشرط الأساسي لتحقّق ذلك مستقبليًا يتمثّل بوقف الإبادة في غزة، ووقف الاستنزاف الدموي المستمر منذ عشرة أشهر للشعب ولمقاومته. وهذه ليست مسألة داخلية تخصّ "حماس" أو فصائل المقاومة فقط، بل هي "الضرورة" الأخلاقية والسياسية ــــ بأل التعريف ــــ الأكثر اتساعًا بكثير من شعاب مكة. الجميع يدرك ذلك، وإن كان السبيل إليه أمر لا يعرفه أحد.