من يزور مقرّ الأمم المتحدة في جنيف هذا الصيف، والمعروف بـ"قصر الأمم،" سيجد لافتة عملاقة معلّقة في الساحة المقابلة للمدخل الرئيسي تعرض وجوه 47 ضحية من ضحايا الحروب. جميع هؤلاء من ذوي البشرة السوداء أو السمراء أو الصفراء، أي من سكان عالم الجنوب. تتوسّط الوجوه عبارة بالخط العريض: "لقد نجوا، لكن القصف مستمرّ".
في الساحة أيضًا لافتتان متلاصقتان للطّفل فؤاد والطفلة سلام، اللذين أصيبا في حربي غزة وسوريا تباعًا. اللافتات جميعها مختومة بعبارة "أوقفوا قصف المدنيين"، وممهورة بتوقيع مؤسسة "المعوّق الدولي"، وهي جمعية إنسانية غير حكومية تبغي جمع التبرعات من خلال عرض قصص هؤلاء.
على مرمى حجر من اللافتات، وفي حديقة جانبية للساحة، تستوقفك صخرتا غرانيت مغروزتان في الأرض. الأولى رمادية اللون ومتعرجة الزوايا، حُفِرت عليها الكلمات التالية: "البوسنة والهرسك – 1992 – 1995، الإبادة الجماعية في سربرنيتسا، 11 تموز، 1995". الصخرة الثانية مستقيمة الأطراف وداكنة اللون وحُفر عليها: "إحياء لذكرى أكثر من مليون ضحية للإبادة الجماعية التي اقتُرفت ضدّ التوتسي في رواندا عام 1994".
النصب التذكاري الذي يحيل إلى الإبادة الجماعية في سربرنيتسا
ولا تقتصر النُصُب التذكارية على محيط المقرّ. ففي الحديقة الداخلية خلف الأسوار العالية والحراسة الأمنية المشدّدة، تنتصب شجرة يافعة زرعها الأمين العام السابق للأمم المتّحدة بان كي مون عام 2016، إلى جانب شجرة أرز فارهة استُقدمت من جبل لبنان وزُرعت عام 1832. تفيدك اللوحة المغروسة تحت شجرة الأمين العام بأنّ الشجرة تقدمة "مخاتير من أجل السلام"، وأن الشجرة هي من "الجيل الثاني" لأشجارٍ نجت "بأعجوبة" من القصف النووي لهيروشيما في 6 آب 1945 بعد أن فرّخت جذوعها المحروقة.
تقرأ أن القنبلة الذرية قضت على أكثر من 140 ألف ضحية بشريّة. لكنّ نجاة بعض الأشجار، بحسب اللوحة، "أعطت المواطنين الأمل والشجاعة من أجل الحياة، ونادت رمزيًا إلى إلغاء الأسلحة النووية وإحلال السلام العالمي". والسلام موضوع نُصُب صخريّ آخر مجاور كُتِب عليه بستة لغات: "تذكّر هنا من ضحّوا بأرواحهم من أجل السلام".
تعدّدت النُصُب التذكارية لجرائم البشرية في المقرّ وجواره، لكن المقاربة واحدة: الحديث عن السلام من دون ذكر العدالة، وتصوير الضحية من دون تحديد الفاعل، والبكاء على الأطلال بعد أن تقع الواقعة بدلًا من تفاديها. وغزّة خيرُ دليل.
لا يسري منطق تجهيل الفاعل هذا على المعالم الأخرى التي تحتفي بإنجازات الدول، لا بما اقترفته من جرائم. أشهر تلك المعالم "الكرة السماوية"، وهي منحوتة ضخمة لمجسّم ذهبي يُصوّر المجرّات السماوية بناء على خرائط العالم القديم، التي وضعها الأشوريّون والبابليون وطوّرها الإغريق والرومان من بعدهم.
والكرة تلك تقدمة "مؤسسة وودرو ويلسون" عام 1936. كان الأخير رئيسًا للولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الأولى، وأبرز الداعين حينها إلى تأسيس عصبة الأمم. وقد عملت المؤسسات الرسمية الأميركية والمؤرّخون المتعاطفون مع الإرث الامبريالي إلى تلميع صورة ويلسون المعروف بعنصريّته ضد غير البيض عمومًا والسود خصوصًا. وأبرز هذه المحاولات تمثّلت بتصوير دعمه لحقّ تقرير المصير، والذي كان يخدم أجندة واشنطن حينذاك على اعتبار أن معظم هذه الدول خاضعة للاستعمار الأوروبي، لا الأميركي، كما لو كان نابعًا من الإيمان بتحرير شعوب العالم من الاستعمار.
مجسّم "الكرة السماوية"
لعلّ "الكرة السماوية" كانت تومئ، عن قصد أو غير قصد، إلى عصر ذهبيّ آتٍ، تهيمن فيه الولايات المتحدة على الكوكب أجمع، وهو ما تحقّق في فترة وجيزة. فقصر الأمم هذا أرادته القوى الكبرى رمزًا للنظام العالمي الجديد الذي انبثق عن الحرب العالمية الأولى. وقد صُمّم ليكون ثاني أكبر مبنى في أوروبا بعد قصر فرساي. لكنّ أعمال البناء فيه لم تُباشَر حتى عام 1927، ولم تنته قبل عام 1936، أي قبل ثلاث سنوات فقط من اندلاع الحرب العالمية الثانية.
قضت الحرب على مشروع عصبة الأمم، وأتت بفكرة الأمم المتحدة كبديل، وبدعم وتخطيط من الولايات المتحدة وحلفائها.
اتّخذت المنظمة الجديدة نيويورك مقرّا لها، ولم يعُد قصر الأمم محطّ أنظار العالم. فبرغم عقد نحو 8 آلاف اجتماع سنويًا فيه، يخيّم عليه، أقلّه في أيام الصيف، سكون جامح تخترقه زقزفة العصافير وحفيف الشجر المتباعد في أرجاء حديقة ممتدة على مساحة 46 هكتار، ومطلّة على بحيرة جنيف وجبال الألب الفرنسية. حتّى "الكرة السماوية" باتت محجوبة بسواتر قماشية كونها قيد الترميم. لعلّ في ذلك دلالة غير مقصودة على تقهقر الهيمنة الأميركية وتصدّع النظام العالمي الذي بنته منذ قرن.
الضوضاء الوحيدة قادمة من كافتيريا القصر. هناك، وأثناء استراحة الغداء، يتهافت العشرات من موظّفي الأمم المتحدة وزوّار المكتبة وأعضاء السلك الدبلوماسي لشراء ما لذّ وطاب من مأكولات فاخرة وطازجة وبأسعار مدعومة. الخيارات عديدة: سمك بالفرن، ولحوم مشوية غبّ الطلب، وسَلَطات صحّية، وشتّى أنواع الحلويات.
بعد الاستراحة، يغادر الزوّار ويعود الموظّفون على الأرجح إلى مكاتب وقاعات القصر ليكملوا مهامهم: تقارير عن تفاقم الفقر والجوع، وبيانات تحذّر من تصاعد النزاعات والحروب، وأعمال بيروقراطية أخرى منوطة بهم تبرّر ما يتقاضونه من معاشات مرتفعة.
بين روتين هؤلاء وسوريالية مشهد الاحتفاء بالسلام العالمي على أنقاض المذابح، لن ينتابك أي شعور بالتعاطف الإنساني غير المُبتذل، الا إذا حالفك الحظّ وعثرت على ورقة بيضاء وضعها أحد الزوار الصغار بين باقات من الزهور في أسفل النُصُب التذكاري لمجزرة سربرنيتسا، وكُتب عليها بخطّ اليد: "جدّي، أحمل اسمك بفخر. لن أنساك".