المستَقبِلُ الشائخ بين عريشة النبات المتسلّق والندى
يجرجر وجودًا أكثر روعة في غموضه من الكلام
من قصيدة "الحقيقة الأكيدة" للشاعر السوريالي المصري الذي كتب بالفرنسيّة جورج حنين
ترجمة: بشير السباعي
قبل بضع سنوات، عملتُ في أحد المواقع الإلكترونية على تحرير ملف يضم تدوينات لبعض الكتّاب والكاتبات العرب، يكتبون فيه تخيلاتهم لمنطقتنا بعد ثلاثمئة سنة.
طلبنا منهم/ن أن يفكروا بالمستقبل، وأن يجيبوا على أسئلة من نوع: كيف يمكن التفكير في المستقبل، ليس فقط من منظور ديستوبي، عندما يعيش المرء بالفعل في ظلّ أنظمة استبدادية قمعيّة أو في حرب أو تحت احتلال؟ كيف يمكن التفكير بالمستقبل بعيدًا عن المركزيّة الأوروبيّة والهيمنة الثقافيّة والعسكريّة والاقتصاديّة الأميركيّة؟
الآن، وبعد سنوات، أكتب بنفسي عن المستقبل. أول ما جال في خاطري هو: ماذا يعني المستقبل؟ كيف نفكر بالمستقبل؟ ما هي الزوايا التي يُمكن للمرء أن يراقب المستقبل منها؟ هل نفكر بالاحتلالات والدكتاتوريات؟ هل نفكر بالخراب البيئي ونتتبّع الرسوم البيانيّة التي تستشرف المستقبل؟ وقبل كلّ ذلك، ماذا نعني بالمستقبل؟ خمس سنوات؟ جيل؟ قرن؟ ألفيّة؟ كيف نفكر بكلّ ذلك؟ أليس كلّ حديث عن المستقبل، حديثٌ مستقطع قصير لا يفي المستقبل حقه؟
فكرتُ بتسهيل الأمر على نفسي بأن أحذف حياتي الشخصيّة من رسم هذا المستقبل، وبأن أقسّم المستقبل إلى ثلاثة خطوط زمنية: مستقبل ذو مدى قصير (حتى خمسين سنة)، ومستقبل ذو مدى متوسط (حتى خمسمئة سنة) ومستقبل ذو مدى بعيد (حتى مليارات السنوات). بالطبع أستثني بهذا خطوط زمنية أخرى، كالمدى القريب جدًا: الغد والشهر القادم والسنة القادمة، ربّما أخصّص نصًا خاصًا لذلك لاحقًا.
مستقبل بمدى قصير
كيف يفكر المرء بمستقبل قريب دون أن تقفز إلى ذهنه صور لاجئين ماتوا عطشى في صحراء الجزائر، أو صور غرقى البحر المتوسط؟ كيف يستطيع المرء تحليل الواقع وقراءة التاريخ من أجل استشراف المستقبل، وهو يرى القذائف تدك بيوت الناس في سوريا وفلسطين والسودان؟ كيف يستطيع الواحد منّا أن يقول إنّنا نسعى ونناضل من أجل عالم عادل ومتساوٍ نشعر فيه بكراماتنا، ونحن نرى خيام اللاجئين المنتشرة في كلّ مكان؟
كيف يستطيع المرء رسم المستقبل وهو يرى حقوق الناس مهدورة؟ عن أيّ مستقبل نتحدث والعالم اليوم مبنيّ على هدر حقوق الناس؟ هذه هي صورة العالم اليوم: يمين متطرف، وفاشية عميقة متجذّرة، واستعمار متجدّد، ودكتاتورية تقمع أيّ صوت خارج عن إرادتها، وكوارث بيئية تكبر وتكبر.
أفكر في مستقبل سوريا، المكان الذي وُلدتُ وكبرتُ فيه، وأتذكر مدونة كتبتها منذ سنوات عن شكل سوريا لو بقي بشار الأسد في السلطة، وأقول لنفسي الآن، هذا صار من الماضي، الآن يجب أن نسأل عن شكل سوريا في حال استلام ابن بشار الأسد السلطة.
يبدو أن الذين عاشوا دمارًا كبيرًا واختبروا كوارثًا، يرون العالم خرابًا غير قابل للإصلاح، وتصبح نظرتهم نحو الحياة عدميّة. ربّما… ربّما.
إذا ما استطعنا استعمار كواكب بعيدة والانتقال إليها، ألّا يعني هذا قدرتنا على عدم تخريب الأرض والبقاء عليها منزلًا أبديًا لجنسنا؟
لكن أفكر في عصور سابقة، في شاعر عبّاسي يخصص سنة من حياته ليكتب كتابًا يسخر فيه من شاعر آخر، في عالمٍ يتأمل أشكال الحيوانات لعشر سنوات، ليكتب كتابًا يحكي عن أشكال الحيوان، برغم أنّ حياة هذا الشاعر أو ذاك العالم لم تكن أكثر استقرارًا وأمانًا من حياتنا.
لماذا نشعر أنّنا نحمل جبالًا على أكتافنا؟ أهذه هي لعنة العولمة والانفتاح وتحوّل العالم إلى قرية صغيرة؟ هل يشعر المرء منّا بمسؤوليته الشخصيّة عن حرب ضربت بقعة جغرافية لم يسمع بها من قبل؟ هل يحمل المرء منّا مسؤولية الاحتباس الحراري بأفعال شخصيّة؟
في هذا المدى الزمني القصير، أفكّر أنّ أفعالنا الشخصيّة تؤثر في كلّ شيء، من مجاعة في مكان ما في الشرق الأوسط، إلى حرب نووية قد تندلع، ومن جهة أخرى أفكّر أنّ النظام العالمي ومؤسساته مسؤولة عن كلّ هذا، وعلينا محاربتها من أجل مستقبل أفضل لنا ولأطفالنا؛ مستقبل صديق للبيئة، لا حروب فيه، مستقبل نعيش فيه كلنا بعدالة وحريّة وكرامة.
ربّما، لمن وُلد مثلي في سوريا، أو في اليمن أو فلسطين أو السودان أو تشاد أو التيبت أو الصحراء الغربية، العالم مكان موحش والظلم فيه يسحق الناس ليل نهار، ومن المؤكد أنّ حيواتنا صعبة، والذي مررنا به كان ساحقًا، لكنّ الأكيد أيضًا أنّ هناك شعاع أمل في وسط الخراب.
يشعر المرء أحيانًا أنّه وصل إلى أسفل أسافل العالم، وأنّه لا يستطيع تسلّق بضع درجات للخروج من هذا القاع، وأنّ العالم كلّه قد تحوّل إلى قاع لا خروج منه. وهذه مشاعر حقيقية لا جدال فيها، لكن الأكيد أيضًا أنّ هذا العالم ليس قاعًا فقط. هذا عالم الصواعد النوازل، ودائمًا ما كان الأمل يحملنا، أمل العيش في عالم حرّ كريم، لنا ولكلّ البشر باختلاف أعراقهم وخلفياتهم.
مستقبل بمدى متوسط
إذا لم يمت معظم البشر في مجاعات أو أوبئة أو عطش أو فيضان أو حريق ما بسبب التغيرات المناخية، وإذا لم تقتص الأرض منّا على ما فعلناه خلال سنوات ما بعد الثورة الصناعية مرورًا بعصر الاستهلاك، وإذا لم يهاجر البشر نحو كواكب أخرى لأنّ الحياة على الأرض لم تعد ممكنة، وإذا لم تندلع حربٌ عالميّة نوويّة تعيد البشر إلى العصور الحجريّة، إذا لم يحدث هذا كلّه، فإنّ العالم سيكون عالمًا آخر.
التغيير أساس الحياة، وعلّمنا التاريخ أنّ لا حال يبقى على حاله، وأنّ الدول تتغير والممالك تتهدّم والحدود تتحرك، لا شيء يبقَ مثلما هو.
لن تكون بلادنا تشبه بلادنا اليوم، ستُوجد حروبٌ أخرى وحدودٌ أخرى، ربّما تبقى الطوائف والأديان الموجودة حاليًا، بعضها قد يندثر، وقد تخرج لنا طوائف أخرى، من يدري! ربّما سيعبد بعض الناس إلهًا مُبرمجًا على شكل آلة، من يدري كيف ستتحكم التكنولوجيا في حياتنا؟
سنصل إلى عوالم أخرى، سنعرفُ أكثر عن العالم خارج الأرض، سنكتشف كواكبَ جديدة وقد نستعمر بعضها، سنعرف أكثر عن تاريخ الأرض وتاريخ الإنسان وأصلنا، وقد نُجيب على سؤالنا الأزلي: من أين أتينا، ولماذا نحن هنا؟
لكن، يرنّ هذا السؤال في رأسي: إذا ما استطعنا استعمار كواكب بعيدة والانتقال إليها إذا ما استحالت الحياة على الأرض، ألّا يعني هذا قدرتنا على عدم تخريب الأرض والبقاء عليها منزلًا أبديًا لجنسنا؟
مستقبل بمدى طويل
يقول لنا العلماء إنّ الحياة لن تعود ممكنة في مجموعتنا الشمسيّة بعد حوالي خمسة مليارات سنة، ستموت الشمس، مثلها مثل أيّ نجم آخر، وستتغير حركة الكواكب ولن يبقى هناك أيّ أثر للحياة. إن لم نكن قد غادرنا كبشرٍ هذه المجموعة الشمسيّة، وهذه المجرّة، بل وهذا الكون، فلن يبقى منّا شيء.
لن يبقى أيّ كتاب عظيم كُتب، ولا أيّ فيلم عظيم صُنع، ولا أيّ جهاز إلكتروني اُخترع، لا أيّ بناء شُيّد. لن يبقى شيء. كلّ الأشياء إلى عدم. من العدم أتينا وإليه نعود. لن يبقى هناك معنى لأيّ معنى. كلّ شيء إلى زوال، وأصل الأشياء زوالها.
أمّا إن كنّا نعيش في مستعمرة فضائية ما، فسنعيد إنتاج غبائنا وذكائنا، سنعيد سيرة الوجود الأولى. قد نبحث عن إله في مكان ما، وقد نبني حضارات جديدة، وقد ينسى أحفادنا أنّنا كنّا نعيش في كوكب اسمه الأرض، يدور حول نجم اسمه الشمس وله قمر شاحب يدور حوله. قد ينسى أحفادنا شكل البحر ولون السماء، قد لا يعرفون كرة القدم وكرة السلة وباقي الألعاب، قد ينسى أحفادنا كلّ آدابنا وثقافاتنا وحضاراتنا، قد ينسى أحفادنا كلّ شيء، لكنّهم، وفي الغالب، لن ينسوا مشاعر الحب والحريّة. هذا أصلنا. هذا ما جُبلنا عليه.