أعرف بشرى عبد الصمد منذ أن أصبح العالم العربي، أو لقطات مُختارة منه، يُقدَّم إلينا عبر شاشة. أعرفها من توقيعها القاطع الذي كان يلي كلّ تقرير: بشرى عبد الصمد، "الجزيرة"، بيروت.
بهذا الختام المحكم كانت بشرى تنهي تقاريرها. كمن يقول "هذه المعلومات باتت في حوزتكم. لا حاجة للإبهار. نقطة."
يوم حطّت عبد الصمد في "الجزيرة" عام 2001، كانت القناة تعيد تشكيل وعيٍ وتُعرّف جانبًا من القرن العربي الجديد. نجمها يسطع، بوصفها أوّل من يبثّ أخبار العالم العربي على مدار الساعة، وتأثيرها يتمدّد، توازيًا مع اندلاع الانتفاضة الثانية وانهيار بُرجَي نيويورك وغزو بغداد.
وكان لكلّ مراسلة ومراسل حينذاك في القناة دمغة خاصة ــــ أو هذا ما كان يُراد لكل منهم أن يمتلكه؛ قدرة على تقديم نفسه/ا للجمهور بفرادة لا تضاهيها فرادة.
على هذا النحو، مثلًا، كان مدير مكتب القناة في روسيا يمطّ حرف الواو في آخر تقريره حتى ينقطع النفس: أكرم خزام، "الجزيرة"، موسكوووو... وكان وليد العمري، مدير مكتبها في فلسطين، يعبس في وجهك ــــ أنت وسائر المتابعين ــــ كما لو أنك أخطأت بحقّه وقرّر عبر الكاميرا أن ينتقم، وهكذا دواليك.
غير أن الخارج عن المألوف في "ستاند آب" بشرى كانت الألفة نفسها. غياب الأداء المتقصّد كان أداء رفيعًا بحدّ ذاته. وكنتَ إذ تبحث عن فارق بين ختام تقرير وآخر، تعجز عن الإتيان بنتيجة.
كان في الأمر اتساقًا ــــ لا تطابقًا ــــ تبدو معه بشرى طبيعية إلى حدّ دفعك إلى تصديق روايتها للأحداث، لا لشيء إلا لغياب التوابل الأدائية في شكلها ولغتها وأسلوبها.
أعرف بشرى عبد الصمد عبر "الجزيرة" ومن خلال جذورها العائلية المتفرّعة من الحزب الشيوعي الذي كان والدها الراحل، نديم عبد الصمد، نائبًا لأمينه العام، لكني أعرفها شخصيًا من خلال زوجها ربيع بشور. وربيع ليس مجرّد صديق عزيز. ربيع أفضل جسر يمكن أن يصلني بأي كان. وبرغم أن علاقتي به عائلية، فقد توطّدت منذ أن كنا نشارك في التظاهرات سوية قبل أكثر من عشرين عامًا، يوم كان الجيش الإسرائيلي يحرث الضفة الغربية ويقضي على التسويات المبرمة على ورق.
أعرف بشرى منذ حرب تموز 2006 وأحداث لبنان التالية لها، على الشاشة تأتينا بختام أخبارها القاطع، وخلف الشاشة تربّي طفلتين، زين ونور، أنارتا حياتها وحياة ربيع وصارتا اليوم شابّتين يافعتين. بشرى كانت، فضلًا عن عملها المضني، أمًا. وهي ظلّت في مهنتها تعمل حتى بعد رحيلها عن "الجزيرة"، بل حتى بعدما تسلّل إليها المرض. أعرف بشرى كنموذج للمرأة العاملة، على الأغلب كما خُيّل لوالدها هذا النموذج أن يكون.
أعرف بشرى أيضًا من خلال عائلة ربيع ووالده معن بشور. ولعلّ هذه المعرفة تضيء على جانب من ديناميات العائلة. فمعن، أحد رموز التيار العروبي، لم يكن له خيار سوى أن يكون عربي الهويّة، خارج قيود الطوائف، بحكم تركيبته الاجتماعية قبل موقفه السياسي؛ فهو يجمع بين والد سوري مسيحي ووالدة مغربيّة مُسلمة، وهوية لبنانية منذ الولادة، وزوجة فلسطينيّة ــــ أردنيّة، فيما أبناؤه وبناته متزوجون ومتزوجات من لبنانية (بشرى) ومصريّة وأردني ولبناني، من الطوائف الدرزية والسنية والشيعية، أي أنه، "بنيويًّا"، متجاوزٌ للحدود الوطنيّة والطائفيّة في العالم العربي. وكذا أولاده وزوجاتهم وأزواجهن، ومنهنّ بشرى بطبيعة الحال.
قبل أشهر من اليوم، كنت جالسًا في مقهى "يونس" في منطقة الحمرا ببيروت. صادفتُ بشرى مع قريبتها ندى عبد الصمد، مقدّمة البرامج سابقًا في "بي بي سي". "ميّل"، قالت لي. ووعدتها بأن ألبّي الدعوة، لكنّي أخلفت.
وقبل ثلاثة أيام من وفاتها، كان يفترض أن ألتقي بربيع برفقة صديقة مشتركة، وكانت قد مرّت على آخر لقاء بيننا أشهر طويلة. أجّل ربيع موعدنا حتى ساعة متأخرة من الليل بسبب ظروف لم أدركها، وكنتُ ساعتئذ مطحونًا من التعب، فاعتذرت، ولم نلتقِ.
أدرك الآن أن هذه أصعب نتيجة لتأجيل المواعيد؛ ألا تأتي المواعيد أبدًا.
* * * *
يعزّي اليوم ببشرى أصدقاؤها في المهنة وخارجها. وثمة من يكتب كلمات على لائحة العزاء الطويل في الفضاء الافتراضي، ذاك الذي تشي صورة مرفوعة عليه أحيانًا بالكثير من المعاني.
وفي هذا الفضاء، على صفحة بشرى الخاصة على "فيسبوك"، ثوب مطرّز على شكل خريطة فلسطين. تحتل الخريطة صورة البروفايل.
بالأمس، جرت مطابقة أخيرة بين الصورة والهوية. قرّرت عائلة بشرى أن يوارى جثمانها في ثرى "مقبرة شهداء فلسطين"، في بيروت، المكان الذي يرمز إلى هويتها الخاصة والممتدة وسع المدى.