لعلّه من النادر، لا سيما في بلادنا، أن يثير رحيل سياسي أسفًا عند كلّ من عرفه، أكانوا من مؤيديه في السياسة أو لم يكونوا. ليس لأنّ جورج قرم كانت تعوزه مبدئيّة في الموقف أو وضوح في الرأي، ولا لأنّه تعمّد التزلّف أو ميّع المسافات، بل لأنّ استقامة ووطنيّة قرم المفكّر ورجل السياسة كانتا حقيقة لا لبس فيها.
يمكن قراءة نتاج قرم، سواء في الفكر أو في السياسة، ومنذ بداياته وحتّى أواخر سنيّ نشاطه، على أنّها حلقات تنامت في خطٍ واحدٍ ممتدٍ في الزمن. فعمله في الشأن العام امتدّ على مسار واحد منذ انخراطه مبكرًا في الستّينيات ضمن الجهاز الإداريّ الإصلاحيّ للتجربة الشهابية، وصولاً إلى وزارة المالية (1998-2000)، ثمّ بعد ذلك على امتداد السنوات وصولاً إلى التزامه، مع مجموعة من الخبراء الاقتصاديّين، في تقديم رؤية بديلة إبّان "انتفاضة تشرين" عام 2019 في بيروت.
أمّا في الفكر، فإنّ كتب قرم، على تنوّع مواضيعها، تحاول جميعها الإجابة عن سؤال مركزيّ واحد يتفرّع إلى عناوين كثيرة، منذ أطروحته في الدكتوراه في باريس مطلع السبعينيات التي عادت وصدرت بالعربية في كتاب "تعدّد الأديان وأنظمة الحكم" إلى كتابه الأخير "المسألة الشرقية الجديدة" الصادر بالفرنسية عام 2017.
على مستوى السؤال، تيسّر لقرم، الآتي من الاقتصاد والعلوم السياسيّة، والمتمرّس في صنعة التاريخ، والمنفتح على العلوم الاجتماعية والفلسفة، أن يوظّف تقنياتِ علومٍ عدّة في الإجابة على إشكاليّات معقّدة تتقاطع فيها هذه المعارف كلّها. تركّز سؤاله الأساسي على دراسة تأثير الأحداث الأوروبيّة منذ عصر النهضة إلى الحربين العالميّتين على التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة للمجتمعات القريبة من أوروبا الغربيّة، أي في أوروبا الوسطى وآسيا الصغرى وبخاصّة في المشرق العربي.
التحليل الذي قدّمه أجاب على أسئلة فرّع لها كتبًا على امتداد العقود الخمسة الماضية. أوّلاً، كيف نفهم عملية صناعة الأقليّات القوميّة في ظلّ انهيار امبراطوريات كالإمبراطورية العثمانية أو الامبراطوريّة النمساويّة-المجريّة؟ كيف لجماعات إثنيّة ودينيّة مندمجة، لا بالمعنى القوميّ الحديث بل ضمن بنية اجتماعية يديرها إشراف بيروقراطيّ رخو، كيف لها أن تتحوّل إلى أمم قوميّة ستتشرذم وتدخل في صراعات دمويّة؟ [1].
ثانيًا، ما الأسباب المركبة التي أدت إلى الاستعانة المكثّفة بالعامل الديني في السياسة العالميّة ابتداءً من منتصف القرن العشرين رغم القطيعة الّتي دشّنتها الحداثة؟ وما ارتباط ذلك بضرورة إسباغ شرعية على سلوك سياسيّ توسّعي لا يمكن تبريره أو فهمه بالاستناد إلى قيم الحداثة الإنسانويّة؟ فهم ذلك دفع قرم إلى تحليل تعقيدات الانتقال من الديني إلى العلماني ومن العلماني إلى الديني كمراحل من تفكك الأطر التقليدية للسلطة داخل الأمم وانتقالها إلى نموذج سياسيّ جديد يمكننا من فهم الهويّة الجديدة للقرن الحالي [2].
ثالثًا، في ظلّ هذه التحولات العالمية، ما هي أسباب ظاهرة الانحطاط المتواصل في الفضاء العربي المعاصر؟ وكيف لنا أن نخرج منها؟ [3].
لا تخلو كتب قرم دائمًا من استشكال المصطلحات أو المفاهيم التي تستبطن في تعريفها السائد أدوات ومحمولات فكرية توجّه إطار البحث
العمل البحثي على السؤال المركزيّ وعلى ما تفرّع عنه دفع قرم إلى الانشغال على تفكيك دلالة التعابير الجيوسياسية الجديدة المستخدمة في العالم العربي أو في أوروبا. ولذلك لا تخلو كتب قرم دائمًا من استشكال المصطلحات أو المفاهيم التي تستبطن في تعريفها السائد أدوات ومحمولات فكرية توجّه إطار البحث، وهي غالبًا ما تكون قائمة على تعميمات أو تطبيقات في غير محلها أو مستوردة أو إسقاطات على ظواهر متباينة. ومن ذلك توقفه الدائم على تحليل مفردات من قبيل مفهوم الأمة والشعب والحضارة أو الديموقراطية والعولمة والسوق، وصولاً إلى التتبع التاريخيّ لتشكّل مفاهيم كبرى من قبيل "الشرق" و"الغرب".
"الغرب" بصفته إيديولوجيا هويتيّة عملاقة ونظام حكم متجانس في رؤيته لذاته وتبايناته مع الغير، أو "الشرق" بصفته المقابل الحامل لتصور ميتافيزيقي واحد ومشترك للإنسان الشرقيّ وعلاقته بالعالم والكون [4].
استشكال ذلك لا يقتصر على مستوى الاستخدام الاصطلاحي فحسب، بل هو استشكال لمقدمات التحليل المضمرة والتي يجرّها المصطلح معه حين استخدامه عن وعي أو عن غير وعي. وفي تفكيك ذلك تحرير لكلا الطرفين العالقين في لعبة مرايا متعاكسة مبنيّة على تصوّرات وهميّة متبادلة.
تتبع قرم في عمله التاريخي تشكل مفهوم الغرب ابتداءً من انقسام الإمبراطورية الرومانية وتفسخ الكنيسة ثمّ تراكم صياغات نظريّة خصوصًا في الفكر الفلسفي والسوسيولوجي الألماني لتأسيس هوية قائمة على إرث إغريقي روماني ساد منذ عصر النهضة. هذا الإرث الذي لن يلبث أن يتم استبداله مؤخرًا، ولدواعٍ تعبوية، بالجذور اليهو-مسيحية لأوروبا والغرب بدل الجذور الرومانية الإغريقية.
لا يشكل هذا التتبع مجرد سرد تاريخي، إنما هو عمل تحليلي يستعين بالتاريخ لتفكيك سردية وحدة الحضارة الغربية وتواصلها وتعاليها، كما تعالي ووحدة مفهوم الشرق.
بالترابط مع ذلك، عمل قرم أيضًا على إعادة قراءة مرحلة النهضة العربيّة منذ بدايات القرن التاسع عشر وصولاً إلى النصف الأوّل من القرن العشرين وتبيان تنوعها وحيويتها [5]. يشكّل عمله البيبليوغرافيّ الواسع تحليلاً لخصوبة التحولات الفكرية النهضويّة وتصحيحًا لاعتقادات شائعة حول طبيعة الفكر العربيّ وديناميّته، كما للتعريف ببنية ثقافيّة تقدميّة واعدة قضى عليها صعود الإسلام السياسي وانتقال مراكز القوة في ظلّ موازين جديدة فرضها اقتصاد البترول المستجد على المنطقة.
يقدّم قرم قراءته هذه ليؤكّد على الفساد النظريّ لإشكالية "الحداثة والمعاصرة" التي شغلت الفكر العربي منذ قرن ونيّف دون أن يكون لها من داعٍ نظريّ برأيه، هو الذي دائمًا ما حاول صرف الاهتمام إلى سؤال التحديث المبنيّ على التنمية والتصنيع، بانيًا على قراءة نقدية لتجارب نهضوية أخرى في الشرق الأقصى (اليابان) أو في أوروبا (إيرلندا).
على مستوى المقاربة والمنهج، نفهم أن علاقة قرم بالتاريخ إذًا لم تكن علاقة المؤرخ الكلاسيكي الذي يهدف إلى الإحاطة بتسلسل أحداث أو إبداء نظرية في الأسباب والعلل أو تقديم فلسفة عامة في التاريخ، بل هي علاقة المستعين بالتاريخ كأداة تفسير لاستحضار لحظات التوازن والتحول لكشف آلية عمل السلطة. وهو بذلك عمل على جبهتين منهجيتين؛ الأولى، الاجتهاد في ربط الأحداث التاريخيّة الداخليّة والخارجيّة وتحليل أنماط التشابك الوثيق بينها، والثانية، تفكيك المنهجيات السائدة القائمة إما على مقدمات منحازة سياسيًا وإما على أدوات خاوية كتحليل الأنظمة الشمولية تحليلاً محض أخلاقيّ دون النظر إلى العوامل الاجتماعيّة والاقتصاديّة خلفها.
استفاد قرم من المدارس المنهجية التاريخية المعاصرة كمدرسة الحوليات والتاريخ الجديد في قراءة الحدث تاريخي كثمرة تواصلات وانقطاعات، دون النظر إليه كتطور لعمليات داخلية حصرية، مبينًا التواصل بين القرون والوسطى والحداثة. واللافت في نظره أن التقدم المنهجي في صناعة التاريخ في أوروبا بقي فاعلاً في إطار قراءة التاريخ الأوروبي نفسه. أي أنّه لم يمتد، حسب ما لاحظ قرم، إلى تجديد صناعة التاريخ لقراءة الأحداث العربية الحديثة والمعاصرة.
هذا ما يجعل من إسهام الرجل جهدًا أبستمولوجيًا في التاريخ العربي المعاصر. قدّم جهده هذا في إطار تطبيقيّ امتاز بالتناقض مع ثلاثة أخطاء مفهومية قاتلة غرقت فيها القراءات التوجيهيّة: أولاً، التبسيط وقراءة الحدث كنتيجة حتمية لعاملٍ أو سببٍ واحدٍ دون رؤية شبكة العلل التحتية المعقدة والمترابطة، ثانيًا، الثنائيات كأداة تسطيح للواقع تمنع من قراءة تعقيداته على مستوى الفهم وتمنع من التمايز والدقة على مستوى الموقف، وثالثًا، التجريد والتعامل مع الفكر بمعزل عن التحولات التاريخية والاجتماعية، والاكتفاء بفهمه عبر الكشف عن منطقه البنيويّ الداخليّ.
هاجم قرم بشراسة التلطّي بعدم الاستقرار لتبرير غياب الإصلاح الاقتصادي
القراءة النقدية في الفكر، كانت ملازمة لرؤية واضحة في الاقتصاد السياسي، نظّر لها في كتبه على مستوى التفكير بإطار عربي وحاول تطبيقها في حدود ما تيسّر له في الشأن العام في تجربته في لبنان.
النهضة في منظوره لا يمكن لها أن تتيسّر دون عاملين أساسين يفتقدهما العالم العربي اليوم: اقتصاد التصنيع والذي سرعان ما انتهى بعد إرهاصاته الأولى زمن محمد علي باشا، واقتصاد المعرفة الذي يعني امتلاك وصناعة التكنولوجيا بدل شرائها واستيرادها. هذه هي الخطوة الأولى، التي لا بدّ من التفكير بها في إطار عربي، ولا يمكن بأي حال تسويفها كما هي استراتيجيّة سياسة الإرعاب الأمني التي من شأنها تأجيل التنمية تحت ذريعة أولويّاتها السياسيّة.
هاجم قرم بشراسة التلطّي بعدم الاستقرار لتبرير غياب الإصلاح الاقتصادي. وأدرك أنّ المهمّة تصبح أكثر صعوبة في ظل استحواذ الفكر الديني الذي يتولى اليوم تفسير مشاكل الواقع العربي تفسيرًا طائفيًا بدل محاولة فهمها بتفسير الفشل التنموي خلفها.
لم ينفصل قرم العلماني والعروبي والوطني اللبناني عن شؤون أهله لا في الفكر ولا في السياسة. في مقابلة له عن مسيرته العلمية، يقول إنه اختار موضوع أطروحته منذ البداية لأنه يحب بلاده، هو الذي آلمه وسواس التفسير الطائفي لصراع لبنان وصراعات المنطقة. تولّى وزارة المال في مرحلة حرجة من تاريخ لبنان ما بعد الحرب، فحاول بما أوتي أن يتصدّى لخطط الاستدانة ومراكمة فوائد خدمة الدين العام وإعادة توزيع الثروة عبر فرض الضرائب على الكماليات. كان هذا حرصًا في نظره على سيادة لبنان، بقدر ما كان عداؤه الصلب لإسرائيل حرصًا على سيادة لبنان أيضًا.
موقف جورج قرم الجذري من إسرائيل، والقائم على بناء نظري متكامل، يصلح ليكون إطارًا لمشاريع التحرر الوطني التي لم تعرفها المنطقة العربية بعد. إذ إن تفكيك المنطق الذي يفسر نشوء إسرائيل عام 1948 على قواعد القوميات الأقلويّة في القرن التاسع عشر، هو جزء من تفكيك مشهد عام متعلق بأساطير صراع الحضارات واختراع هويات لإسباغ شرعية على الانتشار العسكري وتدابيره السياسية وتسويغ الحروب الاستباقية الوقائية على الطريقة الأميركيّة. هذا المشهد الذي أفرز الاستراتيجية القائمة على تعزيز فراغ القوة عند العرب واستغلاله في ظل توازن القوى حولهم للاستثمار في فشلهم.
الفهم المركب للسيادة ضرورة لفهم كيف أصبحت إسرائيل جزءًا من إشكالية عميقة من العلاقات المعقدة بين العنف والدين والسياسة والدولة الحديثة والقوميات، وكيف تكون مقاومتها مبنية على ملء فراغ القوة لا على تعزيزه، عبر استخدام عدّة مفاهيميّة مناقضة لأساس ما تدّعيه إسرائيل من شرعية. أما الاستعانة بالعامل الديني فهي عدة مستوردة من أصل الأزمة، سرعان ما ستستخدم في إطار دعاية مضادة من إسرائيل نفسها. لذا كانت قراءة قرم مقرونة بنقد الإسلام السياسي وشعاراته المبسطة والاختزالية والفاقدة للفاعلية الواقعية والوطنيّة.
بعد توالي الأحداث إثر غزو العراق ثمّ تفسّخ دول المنطقة، اعتبر قرم أننا انتقلنا مما كان قد سمّاه "دينامية الفشل" إلى ما اصطلح عليه بـ"التدمير الذاتي". لكن الرجل، رغم ذلك، وحتى آخر كتاب له، بقي يتطلع إلى جيلٍ شابّ يمكن له أن يسعى إلى تأسيس منظومة فكرية عربية حاملة لنظام معرفيّ متماسك يسمح برؤية الواقع والأحداث في سياقها الحقيقي كما هي، ليبني عليها في الواقع العمليّ.
هل لا زال هذا ممكنًا؟
أن ينظر المرء في سيرة قرم بعد وفاته، في فكره وأخلاقه وسلوكه وتواضعه، يجعله يعتقد أنّه أمام حالة استثناء. لكن الكتابة عنه ليست ضربًا من الهاغيوغرافيا (كتابة سير القديسين) ولا السير التبجيليّة، إذ لا بدّ من قراءة كلّ ما أنتج بمبضع النقد الحاد. الكتابة عنه اليوم شاهدٌ على أن قرم كان تجربة حيّة، وأنّ هذه التجربة حصلت، وكونها حصلت يعني أنّها في دائرة الإمكان من جديد. أجمل ما في جورج قرم، أنّنا عرفنا من خلاله أنّ إنتاج مفكر موسوعي ورجل سياسة مستقيم مثله، هو أمر ممكن.
[1]. كتاب أوروبا والمشرق العربي من البلقنة إلى اللبننة تاريخ حداثة غير منجزة الصادر عن دار الطليعة.
[2]. كتاب المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين الصادر عن دار الفارابي.
[3]. كتاب انفجار المشرق العربي من تأميم قناة السويس إلى اجتياح لبنان الصادر عن دار الطليعة.
[4]. كتاب شرق وغرب: الشرخ الأسطوري الصادر عن دار الساقي وكتاب تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب الصادر عن دار الفارابي.
[5]. كتاب الفكر والسياسة في العالم العربي السياقات السياسية والإشكاليات من القرن التاسع عشر حتى القرن الواحد والعشرين الصادر عن دار الفارابي.