ذاكرة من طفولة ودم

يصبح اللجوء المؤقت دائمًا بالنسبة لبعض السوريين. فمَن يُدفن خارج بلاده يُحكم عليه بالبقاء لاجئًا إلى الأبد. ومن بين هؤلاء من فقدوا أرواحهم في القصف الإسرائيلي على لبنان.

قبل كتابتي هذا النص، ارتكبت إسرائيل مجزرة في منطقة وادي الكفور بقضاء النبطيّة في جنوب لبنان. الحصيلة كانت عشرة شهداء من اللاجئين السوريين، بيهنم امرأة وطفلاها، فيما بلغ عدد الجرحى ثلاثة، بينهم اثنان إصاباتهما حرجة.

يصعب الحصول على أرقام دقيقة حول عدد اللاجئين السوريين الذين يعيشون في جنوب لبنان. ما نعلمه أن معظمهم يعمل في مجال الزراعة وأعمال البناء وخدمات التوصيل، ما يعني أنهم يعتمدون على التنقّل على الطرقات، من أماكن العمل وإليها. أما الوسيلة الأكثر شيوعًا في تنقلاتهم فهي الدراجات الناريّة.

أكثر من 20 سوريًا، بينهم سيّدة وثمانية أطفال، هم ضحايا الغارات الإسرائيلية منذ بداية الحرب على غزّة ولبنان، فيما استقر عدد الإصابات عند 17 حتّى الآن.

السبات الأخير 

هاني سليمان وأخوه أسامة (14 و11 سنة) كانا غارقين في النوم في منزل جدّتهما ــــ والمنزل عبارة عن غرفة صغيرة ــــ لحظة نفّذت مسيّرة إسرائيليّة ثلاث غارات على بلدة النجاريّة في جنوب لبنان صباح 17 أيّار/مايو الماضي. استهدفت هذه الغارات القيادي في "حزب الله" حسين خضر مهدي، ثمّ معمل أحجار باطون يملكه يقع بالقرب من منزل جدّة الطفلين.

كانت الجدّة (60 سنة) قد خرجت من المنزل إلى عملها في الزراعة عند السادسة صباحًا، تاركة حفيديها في سبات عميق. لم تكد تمرّ ثلاث ساعات حتّى اخترقت المسيّرة هذا السبات وأنهت ما فيه من أحلام.

تخبرنا الجدة أن الطفلين كانا متفوّقين في مدرسة القرية. تشرح كيف كانت تجمعها بهاني علاقة أمومة، إذ رَعَته منذ أن كان يبلغ خمسة أشهرٍ من العمر بعدما هجرته والدته.

وهاني ــــ وهو أخ لأسامة لجهة الأب ــــ كان يطمح بأن يصبح طبيبًا أو مهندسًا. يحلم بالسفر ليُتاح لوالده ــــ الذي يعاني من ظروف صحيّة صعبة ــــ العلاج في "بلاد الغربة".

لكنّ الطفلين "عاشا غريبين، وماتا غريبين فعلًا"، تقول الجدة، "ومن بعدهما توقّف لديّ جريان الحياة". 

وإن كانت الجدّة غير موجودة في المكان لحظة حصول الواقعة، فإنّ أم أسامة تخبرنا بأنّها لم تدرك أنّ القصف طال منزل حماتها في بداية الأمر. خرجت تبكي جارها الذي قتلته الغارة، ولم تكن تدري أنّ "الاولاد راحوا".

تقول إن جدّ الطفلين راح يصرخ: "هاني راح" إثر الغارة الثانية التي طالت المعمل ومعه المنزل. ثم تستدرك: "لم يكن يعلم أن أسامة بات في الليلة السابقة على القصف لدى جدّته".

قيل لها لاحقًا إن هاني وأسامة كانا يهمّان بالهرب من المنزل بعد الضربة الأولى، وإنهما لو أسرعا الخطى قليلًا، لربّما نجيا. تفضّل الأم الرواية الأولى، على قسوتها. أنهما لم يعيشا لحظات الفزع تلك، بل انتقلا من سبات إلى سبات. 

تحت حطام المنزل، عُثر على ناجٍ وحيد: هاتف هاني. وُجد بين الركام سليمًا، ومعه أرشيف من الذكريات.

تتفحّص الجدة صور هاني وأسامة على الهاتف، وفي الأثناء يدخل صديق للطفلين الراحلين المنزل. يراها شاردة الذهن تنظر إلى الشاشة، ويبكي. 

*     *     *     *

لم تزر العائلة منذ الغارة أي جهة مسؤولة، ولا عرضت أي جمعيّة تقديم المساعدة. بل إن العائلة اضطرّت إلى الانتقال إلى منزل آخر في مبنىً قيد التشييد، بالكاد يصلح للسكن.

بعد 14 عامًا من مغادرة العائلة ريف حمص إثر خسارة منزلها هناك، ووريَ جثمانا هاني وأسامة في النجاريّة بجنوب لبنان، حيث كانت غاية النزوح بحثٌ عن أمان، وكان يفترض أن يكون النزوح مؤقتًا. إذ كانت الخطة تقتضي العودة إلى سوريا ليتعرّف الطفلان على أقربائهما ويكملا تعليمهما هناك، لكنّ الظروف لم تسمح بذلك، ولا ستسمح بعد اليوم.

ذاكرة من أحلام ودمّ

بتاريخ الـسادس عشر من تمّوز/ يوليو 2024، وأمام خيمة زراعيّة في بلدة أم التوت في قضاء صور بجنوب لبنان، ستتوقّف عقارب ساعة ثلاثة أطفال، وسيحلّ الصمت مكان ضحكاتهم.

جان وشقيقه محمّد جركس (10 و7 سنوات) وخليل خليل (11 سنة) راحوا ضحية قصف إسرائيلي أثناء لهوهم بالقرب من الخيمة الزراعيّة.

"كنت في الوادي برفقة عمّال آخرين. سمعنا صوت قصف عنيف، فتوقّفنا عن العمل وسارعتُ إلى المكان المستهدف لأتفقّده. عندما وصلتُ إلى الخيمة، وجدتُ أجساد الأطفال الثلاثة مرمية على الأرض، متباعدة"، يقول والد جان ومحمد.

دُفن الطفلان في القاسميّة في الجنوب، ونزحت العائلة ــــ من جديد ــــ إلى برجا في جبل لبنان.

أما والد خليل فيخبرنا عن مساره الطويل من مدينة عفرين في شمال سوريا، حيث نزح مع عائلته أساسًا بعدما تعرّضت لهم مجموعة مسلّحة ونهبت ما يملكون. كان خليل يومذاك يبلغ من العمر سبعة أشهر.

"لم أشعر بالغربة في أم التوت"، يقول الوالد في وصفه فترة مكوثه في القرية الجنوبية. لكنّ الأمر تغيّر بعدما حطّت العائلة رحالها في بلدة الزرارية، بعد الغارة، حيث لا يعرفون أحدًا من السكان.

اليوم، تبدو عودة العائلة إلى عفرين غير واردة. "على أبواب بيوتنا إشارات حمراء. وجودنا غير مرغوب. لن ترحّب الجماعات المتطرّفة بعودتنا. ولن نهرب من الحرب هنا إلى الأخطر هناك"، يقول.

الأزمة الاقتصادية تُغيّر البنية الديموغرافية للبنان

لم يشهد لبنان من قبل تراجعًا كهذا في عدد الولادات، وهذا التراجع هو واحد من المؤشرات الثلاثة الدالّة على..

غوى كنعان
مغامرة العلاج النفسي

المواقف التي نتعرّض لها مع بعض المعالجين النفسيين غريبة أحيانًا، وقد تكون مضحكة، لكنّها دون شكّ تترك..

غوى كنعان
الانتخابات اللبنانيّة: ما الذي تقوله لنا نسب الاقتراع في الخارج؟

اعتبر مدير المغتربين في وزارة الخارجية اللبنانية السفير هادي هاشم خلال مؤتمر صحافي أن الانتخابات..

غوى كنعان

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة