ليست المرة الأولى التي يسقط فيها شهداء سوريّون على أرض الجنوب، أو لبنانيون في فلسطين، أو لبنانيون وفلسطينيون في سوريا. يُفترض ــــ بعيدًا عن دهشة المرة الأولى التي يتّسم بها تناقل الأخبار اليوم ــــ ألا يدهشنا وجود مقابر للمغاربة في القدس، أو مغاربة في جنوب لبنان... تمامًا كما لا يسبّب أيّ دهشة وجود مقبرة للجيوش البريطانية والفرنسية وما حوت من مرتزقة سيقت معها في الحرب العالمية الثانية، في بيروت وغزة وسائر فلسطين. هذا هو حال التاريخ. أناسٌ في ترحال إراديّ أو قسريّ، يمضون بعيدًا عن بيوتهم وعائلاتهم...
عشرات الشهداء من سوريا في جنوب لبنان. يضيع الرقم هذا بين آلاف الفلسطينيين في غزّة ومئات اللبنانيين... يبدو الرقم هامشيًا للبعض، ويُدرج في لوائح تقريبيّة راج التداول بها في السنوات الأخيرة. "أكثر من مئتين" قضوا في تفجير مرفأ بيروت قبل أربع سنوات. "أكثر من سبعين جريحًا" في استهداف المبنى السكني في الضاحية الجنوبيّة الشهر الماضي. آلاف النازحين من جنوب لبنان. آلاف البيوت المدمّرة في جنوب لبنان.
وحين تُعلَن "الحصيلة النهائيّة"، نتحوّل إلى مجرّد أرقام. كتبَ الكثير (والكثير نسبة تقديريّة، لا تحديد لهويّة فيها) في غزّة ولبنان: "لسنا أرقامًا". وراحت بعض الحسابات على وسائل التواصل تنشر حكايات الضحايا وأحلامهم وأسماءهم وقصصهم. لم نحفظ إلا بعض الأسماء فقط. يبدو أنه مقدّر لنا أن نبقى أرقامًا، مهما فعلنا.
عشرات الشهداء من سوريا في جنوب لبنان. لا يبدو الرقم كبيرًا. لكن قصّة أيِّ منهم لا تحضرنا: من كان يأكل حين سقط الصاروخ فوق رأسه؟ ما كانت أمنيته الأخيرة؟ هل رأى بيته في سوريا، أم أنه ألِف بيت النزوح في لبنان؟ هل أحبّ؟ هل شعر بجمال طبيعة الجنوب؟ هل قارنه يوميًا بمشهد قريته في سوريا؟ هل أعطى موعدًا في اليوم التالي لأحدٍ وعجز عن الوفاء به؟ هل رأى النور الأخير؟ هل حملته الملائكة؟ لا نعلم.
عشرات الشهداء من سوريا في جنوب لبنان. هل تصوّروا لحظة خروجهم من سوريا قبل عقدٍ أنّ النهاية ستلاحقهم إلى جنوب لبنان؟ هل بينهم من وُلد في لبنان ولم يعرف بيته قط؟ هل كان يتعامل مع أرض الجنوب كما تعامل مع أرضه؟ هل زرعها؟ هل شرب من مائها؟ هل سبح في بحرها؟ هل شعر بعدم الاحتضان، أم حضنه الجنوب وأحبّه؟ هل كان يودّ النزوح عن الجنوب؟ لا نعلم.
هذه صورة قاتمة وأسئلة صعبة التفكيك. هناك من خرج نازحًا من بيته في الجنوب، وهناك من نزح جراء الحرب في سوريا، وظلّ في الجنوب حتى أصبح شهيدًا. كيف تبادلا أدوارهما بهذه البساطة؟ وكيف يكون التبسيط دالًا على منطقة شديدة الويلات والتعقيد؟
عشرات الشهداء من سوريا في جنوب لبنان. أين دفنوا؟ هل سُلبوا إرادة اختيار مكان دفنهم؟ هل فُتحت لهم بيوت عزاءٍ في قراهم السوريّة؟ هل بقي من عائلاتهم أحد في البلاد؟ هل بكاهم أحدٌ مرددًا أسماءهم مع عبارة "لن ننسى"؟ هل نسيتهم البلاد؟
على شواهد القبور الأثريّة التي وُجدت في بلاد الشام، منذ الحقبة الإغريقية، كانت تُعدّد صفات الميت، وإلى جانبها يُحفر النص التالي: "لم يسبّب الحزن لأحد". ربما المقصود عيشة الميت المرضية أو الهانئة، وقد يكون المقصود طبع حياته بسعادةٍ ما... الميت كان لطيفًا حين كان حيًا، ولم يسبّب لمن حوله الأحزان. في بلاد الشام اليوم، ينتفي القصد.
عشرات الشهداء من سوريا في جنوب لبنان. لماذا سبّبت حياتهم الحزن للناس حولهم؟ وهل يسبّب موتهم الحزن لأحد؟