في سيناريو مُفترض: قرَّرت الصحافية Y تركَ عملها في مؤسسة إعلامية محلية عادية. تُدرك Y أن معرفتها عادية، وأن مهاراتها التحريرية والبحثية عادية أيضًا. وتاليًا، فإن فرص حصولها على وظيفة بشروطٍ أفضل صعبة، في ظل سوق عملٍ يتضاءل يومًا تلو آخر.
وهنا تنتبه Y إلى ثغرة في هذا السوق، وهي أن المهارات الشخصية أقل أهمية من عنصرٍ آخر هو "جوكر" التوظيف في عصرنا. وهذا الجوكر هو حيثية الرأي الشخصي أو مدى تأثيره، إيجابًا أو سلبًا، في جمهور مستهدف: إذا تحوّلتِ إلى مؤثرة، فإن ظروف العمل ستكون أفضل، خصوصًا إذا كان التأثير في خدمة أجندة سياسية معينة، لها برنامج تمويل "آمن".
وبما أن النموذج المطروح في السيناريو المفترض هنا أنثى، فإن ذلك سيجعلها في حالٍ كحالنا فريسةً لردودٍ بذيئة وتنمّر يطال غالبًا حياتها الشخصية ومظهرها. وأيّ رأيٍ مطروحٍ يعاكس رأي الغالب الأعم من المتابعين أو من الحاضرين عدديًا، سيجعله موضع جدلٍ واستقطابٍ لردود وردود معاكسة، بحيث تصبح بطلة السيناريو هنا ضحيته أيضًا في الوقت عينه، وسنصبح إزاء دائرةٍ مقفلة من الاستفزاز الذي يعود على الجميع بالفائدة: معارك افتراضية توسّع من حيثية أفرادٍ على مستوى الأعداد والتأثير، وانتصارات فارغة لجيوشٍ الكترونية منظمة أو غير منظمة.
وفي العادة، فإنّ هذه المعارك تُسيِّل على الجانبين فرصَ توظيفٍ تتحسن مع تحسّن الحضور الرقمي للحساب، فيما تجد "الرواية" السياسية للجانب الآخر، أو الروايات، مكانًا لها.
* * * *
غالبًا ما يُخطئ البعض في تشخيص معايير تأثير شخص من عدمه على مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت بشكل عام. فعدد المتابعين مثلًا لم يعد معيارًا حاسمًا للتأثير بقدر ما هو حجم التفاعل مع هذا الحساب، ونوعية الحسابات المتفاعلة بالدرجة الأولى. فقد يكون حسابك ذو الألف متابع أكثر تأثيرًا من حسابٍ لديه مليون متابع. وإذا كنت قادرًا على إثارة نسبة تفاعل أعلى، ستحقق على الأغلب وصولًا أوسع إلى جمهور هؤلاء المتابعين الألف، وجمهور آلافٍ من متابعي كل حسابٍ متفاعلٍ معك.
إذًا، التأثير على مواقع التواصل الاجتماعي مرتبط بقدرتك على إثارة الجدل. استقطاب الردود، سواء كانت مؤيدة أو معادية، وحجم الاستفزاز الذي سبّبته، يجعلان اسمك والكلمات المفتاحية المرتبطة بك عرضة للتداول في النقاشات الفرعية والدردشات الجانبية.
بهذا المعنى، فإن معادلة التأثير هي معادلة خوارزمية بامتياز، لا عددية حصرًا. ولعلّ أفضل من يمتهنها اليوم، للأسف، تحت ثقل حرب الإبادة الاسرائيلية في غزة (ومخيّمات الضفة)، هي الحسابات الإسرائيلية الموجّهة إلى الجمهور العربي، كحساب إيدي كوهين، وهو باحث إسرائيلي يقترن عمله في كيان الاحتلال بالصحافة الصفراء والإشاعات.
كيف نضع "الهوشة" الافتراضية التي تصنع الخصوم في مختبر التجربة؟
يعمل إيدي كوهين، لا سيما على منصة X ("تويتر" سابقًا) وفق مبدأ استهداف الجماعات. فغالبية تغريداته تجدها موجهة إلى جماعة كاملة، سواء كانت ذات هوية وطنية أو سياسية. على سبيل المثال، تفرّغ كوهين خلال الأيام الأخيرة لاستهداف السعوديين: ردود على مؤثرين وردود على الردود، ونشر إشاعات، وإعادة نشر تغريدات لأشخاص لا علاقة لهم بكوهين، ما يجرّهم للدفاع عن أنفسهم. أي أنه يعمد إلى ركوب ترندات سعودية محلية ويتدخل في نقاشاتها الفرعية وخلاف ذلك، حتى وصل به الأمر، في تحليل أولي، إلى رفع عدد متابعيه خلال فترة قصيرة بمقدار نحو 15 ألف متابع على الأقل (!)، لا شك أن غالبيتهم أصحاب حسابات سعودية أو مهتمة، تابعته بغرض الرد عليه أو شتمه، أو قادتهم حشريتهم لا أكثر إلى متابعته، بتأثير من ردود آخرين عليه أو اقتباسهم لكلامه.
إيدي كوهين، تحديدًا، هو حالة مثيرة للاهتمام على X. وبرغم أنّه مروّج دعائي ــــ propagandist ــــ أساسًا، إلا أن الرجل في تشرين الأول/أكتوبر 2023 استفاد من رافعة الإعلام العربي، ليضيف 50 ألف متابع في غضون أيام قليلة بعد "طوفان الأقصى"، واستمر الرقم في النمو إلى أن تجاوز 720 ألف متابع.
ولا شك أن الكثير من الناشطين السياسيين على موقع X يلاحظون ظهور كوهين الدائم في مقترحات التغريدات الأخرى، حتى لو لم نكن من متابعيه، وذلك لا يعود إلى عدد المتابعين كما ذكرنا، بل إلى سبب أساسي هو أن كوهين يعتمد على الاستفزاز الجماعي، وعلى بث الإشاعات واستهداف الأشخاص المؤثرين في ساحات بعينها، ليستجلب بذلك ردودًا وردودًا مضادة، إلى جانب إدارته بشكل مباشر لحسابات عربية وهمية يروّج لها.
ولا بد هنا من لفت الانتباه إلى أمر مهم، وهو أن هناك جانب ربحي كبير من إثارة الجدل على منصة X. فهذه المنصة بسياساتها الجديدة تؤمن للحسابات التي تستجلب ردودًا من الحسابات الفاعلة وعددًا أكبر من مرات المشاهدة (impression) مردودًا ماليًا لا يبدو أن كوهين يمانع في الحصول عليه، لا سيما أنه استعمل منصته للترويج لتطبيقات ربحية.
كيف نضع هذه "الهوشة" الافتراضية التي تصنع الخصوم في مختبر التجربة؟ خلال الأسابيع الماضية، وأمام تدهور الأوضاع على الجبهة اللبنانية المساندة لغزة، ظهر توجه منسق على ما يبدو في إعلام ما يُعرف بالمحور، لنشر تغريدات ومنشورات أشبه بالتعاميم، تحرّض على كل من يطرح أسئلة أو يتوجس خوفًا من الوضع الإقليمي المرافق لحرب الإبادة الإسرائيلية والجبهات المساندة لغزة.
تراوح هذا بين تحريض ناعم يعتبر أي كلامٍ يأتي اليوم على لسان الأفراد، غير ذي قيمة، ويدعو الجمهور لتسخيف أو تتفيه هذه الآراء أو المخاوف، وبين تحريضٍ يرى أن كل من يطرح سؤالًا أو يثير نقاشًا أو يملك شكوكًا، هو ضيف محتمل للقنوات المعادية، وربما مرشح للموساد!
يمكن تقديم قياسٍ تقديري لحجم الضرر الذي يتسبب به "مجتمع الثرثرة" الافتراضي، المتروك دون صناعة رأي حقيقية ودون سياسة محتوى أو "رواية" متماسكة
لذا، في نهاية الأسبوع الماضي، وعلى منصة يتراجع تأثيرها على صناعة الرأي العام في الفترة الأخيرة، ويمكن استخدامها للقيام بتجربة صغيرة، وهي منصة "فيسبوك" التابعة لشركة "ميتا"، قمت بنشر ستاتوس على حسابي الشخصي، من دون توضيح ما أقصده. واخترت صياغته بأكثر الأشكال الممكنة استفزازًا في ظل الإبادة الحاصلة في غزة. الستاتوس مكون من جملتين:
"إذا كنتَ عاجزًا عن المساعدة في إطفاء حريقٍ في بيت جارك، فإنك لن تنفعه بشيء إذا قمت بحرق بيتك تضامنًا معه".
وبرغم أن الجملة، إذا ما انتُزعت من أيّ سياق حالي في البلد أو المنطقة ــــ بل حتى في حال بقائها ضمن السياق المفترض ــــ يُفترض ألا تكون خلافية، إذ إن المعنيين بفتح جبهات الإسناد أوضحوا غير مرّة أن الأولوية هي لتجنب حربٍ كبرى، فإن الردود أتت كما توقعت، في غالبها الأعم، مهاجمة بل مخوّنة.
فمن بين أكثر من 100 رد، كان عدد طالبي إعطاء فرصة للناشر لتوضيح قصده أقل من عدد الأصابع، فيما امتلأ البريد الخاص برسائل تنوّعت بين التقريع والمحاضرة في البديهيات والإهانات الشخصية. وهناك أربع رسائل يتيمة تكرّمت بسؤالي عمّ وعمّن قصدت في ما نشرت.
وتنوّع ما انطوت عليه هذه الردود والرسائل كالتالي:
1 - تثقيف سياسي ووطني في البديهيات، في ما يشبه دورة محو أمية
2 - شتم شخصي وإهانة مباشرة لصاحب الرأي
3 - توصيف سياسي وتصنيف مباشر بالوقوف في صفّ الجماعة الفلانية أو الدولة الفلانية
4 - "كشفناك" أو "كنا عارفين"، وهذه ألطف الردود وأظرفها، إذ أتاحت لي كشف خلايا "تكفير" نائمة في حسابي
إلى جانب الردود، حاز المنشور "الساذج" على نحو 110 مشاركات على حسابات عامة وخاصة. أغلب من شاركها كانت حسابات غير صديقة، سبق أن كانت على الجانب الآخر من رأيي الشخصي في مواضع أخرى. وقد تحوّل رأيي لديهم من "جرم" إلى "بطولة"، وجرى العكس على المقلب الآخر،
وإلى جانب هذا كله، رصدت مع مجموعة من الأصدقاء مشاركة المنشور مع اسم صاحبه الظاهر، على 12 مجموعة دردشة سياسية خارج منصة "فيسبوك" على الأقل، من دون احتساب المجموعات الخاصة. وآثر سبعة أشخاص وقف متابعة حسابي، فيما تابعه نحو 150 حسابًا جديدًا خلال 24 ساعة، أي بنسبة زيادة متابعين تتجاوز 1%.
هكذا، يمكن تقديم قياسٍ تقديري لحجم الضرر الذي يتسبب به "مجتمع الثرثرة" الافتراضي حيال أي قضية مطروحة للنقاش. ذاك المجتمع الذي يرفع من شأن خصومه، حتى المعادين منهم، كنتاج طبيعي لعاملين أساسيين: الأول يتمثّل بضعف الثقافة الإلكترونية لجهة فهم عمل الخوارزميات ومعاييرها، والثاني بعدم وجود رواية موحّدة للحدث القائم ودلالاته.
ولعلّ المشهد الحالي الذي يتّسم بفوضى المعلومات على مواقع التواصل وفوضى "المحللين" على الشاشات، والتداول العشوائي لتوقّعات شعبية تتجاوز دور المقاومات الشعبية البديهي عبر التاريخ، لعلّ هذا كلّه يلخّص العجز الإعلامي عن إنتاج خطابٍ وطني موحّد، ويترك فراغًا يملأه الجمهور الغاضب بالضجيج، ويصنع من خصومه نجومًا.