"اعذريني، وقتي صار ضيّق، نلتقي في الزيارة القادمة إن شاء الله".
لا، سأمحوها.
"اعذريني، وقتي صار ضيّق، نلتقي في الرحلة القادمة إن شاء الله".
أبدًا، التعبير غير موفّق.
"اعذريني، وقتي صار ضيّق، نلتقي في (الجيّة) القادمة إن شاء الله".
سبعُ دقائق من التفكير لكتابة رسالة أعتذر فيها عن لقاء إحدى صديقاتي في الأيام القليلة المتبقّية لوجودي الأخير في سوريا. علمًا أن كتابة رسالة من عشر كلمات لا يُفترض أن تستغرق أكثر من ثلاثين ثانية. والسبب؟ إشكالية التسميات والتصنيف في علاقتي مع سوريا.
لم تقنعني كلمة "زيارة"، فأنا في سوريا لستُ زائرة. لا آتيها لقضاء حاجة أو لتهدئة شوقٍ طارئ. أنا هنا من أهل البيت، مثلي مثلهم؛ أتأفف من انقطاع الكهرباء وأنزعج من الحرّ الخانق وأشتمُ الفوضى والفساد والفاسدين، ثم أسهر على شرفة بيت أهلي مع عائلتي نشرب البيرة ونأكل الفستق الحلبي لننسى عناء النهار.
ولم تقنعني كلمة "رحلة"، فأنا في سوريا لا يمكن أن أكون سائحة. لا أجول بين مُدُنِها وقُراها بغرض التنزّه والتعرّف على ما لا أعرف. أنا هنا صاحبة أرض وماضٍ، وشريكة في الحاضر والمستقبل. أتمشّى أمام قلعة حلب وأذهب إلى دير مار جرجس في ريف حمص لا على سبيل التنويع في "الإجازة" أو إحيائها، ولا بهدف استعادة ذكريات قديمة أو التحسّر على انقضاء زمنها، بل لأنّ هذه الأماكن تخصّني وتعنيني في كلّ حين وتحت أيّ ظرف. حتى كلمة "إجازة" هنا تستفزّني وتسيء إلى أفكاري ونصّي.
أختار كلمة "جيّة" في رسالتي إلى صديقتي، كلمة عامية بسيطة مُخَفّفة من كلمة "جِيئة" الفصيحة. أجد أنها أنسبُ الاحتمالات وأقربها إلى رغبتي وشعوري: (جاء إلى) تعني (أتى)، وأنا أريد أن آتي إلى سوريا دائمًا وكثيرًا.
أفهم استغراب البعض وسخرية البعض الآخر من هذا الكلام، وأبرّر لمن يجدُ فيه ادعاءً كاذبًا أو غُلُوًّا في الحنين والرومانسية. لكنني على يقينٍ، أتقصّدُ تغذيتَه وترسيخه في نفسي على الدوام، مفاده أن معضلات بلدي من غلاء مُتَغَوّل وفسادٍ فاجر ومآزق اقتصادية وسياسية لا علاقة للناس بها، ولا علاقة للأرض بها، ولا علاقة لسوريا بها.
على العكس: فبعد ثلاث عشرة سنة من الحرب والكوارث والخضّات، مازالت سوريا جميلة لمن أراد أن يرى حُسنها، ومازال السوريون طموحين ونشيطين وخلّاقين ومحبّين للفرح والحياة، ومازال أي زائر أو سائح أو عابر يجد لدى أبناء سوريا حدًّا أدنى من النخوة والأخلاق، في الوقت الذي يتسابق فيه العالم المتحضّر على سحق آخر قيم الإنسانية تارةً تحت ذريعة إعلاء شأن الفرد على حساب الجماعة، وطورًا باسم المصلحة الوطنية!
تعاملتُ مع الأماكن والأشخاص بما يشبه اللامبالاة الخفيفة أو الاستهتار الحميد، لأنني أريد أن يكون حضورهم في حياتي من المسلّمات
تُشرِفُ أيّام "الجيّة" على الانقضاء. أودّع الأصدقاء الذين لم أَرَهم باتفاقٍ على اللقاء في "الجيّات" القادمة.
في اليوم الأخير، أتعمّد أن أترك في إحدى خزائن بيت أهلي پيجاما نظيفة وبعض الأشياء الشخصية. وأهمس في سرّي: "هذا ما لايستطيع فعله السائح أو الزائر". ثمّ أعلّقُ خلفَ باب الغرفة منشفة مستعملة وأطلبُ من أمّي أن تغسلها وتضمّها إلى أغراضي لتكون جاهزة لـ "جيّة" تالية قريبة.
في الطائرة، وقبلَ أن تبدأ الإقلاع، أستعجلُ الفرجةَ على الصور التي التقطتُها. ألاحظ أنها قليلة، وأفسّر الأمر برغبتي نفسِها بألّا أكون زائرة أو سائحة. لقد تجنّبتُ تصوير الأماكن عمدًا لكي لا أحوّلها إلى ذكريات exotic زرتُها مرّة وعليّ أن أحتفظَ بشيء منها كي لا أنساها.
وتجنّبتُ التصوير مع الأقارب والأصدقاء أيضًا لكي لا أجعل من لقائي بهم هناك فُرَصًا نادرة أو مناسبات قد لا تتكرر. لقد تعاملتُ مع الأماكن والأشخاص بما يشبه اللامبالاة الخفيفة أو الاستهتار الحميد، لأنني أريد أن يكون حضورهم في حياتي من المسلّمات، موجودون for granted بلا خوفٍ من الفراق أو الشوق أو الفقدان أو الخسارة.
تمامًا كما في صورة قديمة تجمعني مع صديقتي الحلوة الشاميّة تحت الأعمدة الرومانية لمعبد جوپيتير في آخر سوق الحميدية غرب الجامع الأموي، حيث يظهر في بؤرة الصورة وجهانا الفتيّان وابتسامتنا الحماسيّة، وينحسر كادرُها عن المَعْلَم التاريخي فلا يبدو منه سوى بعض الحجارة، بلا النقوش التي تعلو باب المعبد ولا أقواس الأعمدة ولا تيجانها الكورنثية.
صورةٌ منذ ثمانية عشر عامًا، من كان يأبه وقتَها لتخليد الحياة اليومية وحفظ التفاصيل! الأقواس هنا، نعبر من تحتها كلّ يوم من دون أن ننتبه أو نلقي عليها تحيّةً أو نظرة، والمعبد هنا، والحميدية والجامع والشام كلّها هنا، ونحن حتمًا هنا، لا هجرة ولا رحيل ولا مَن يرحلون!
تعلو الطائرة حتى تختفي الأرض تمامًا. تعبرُ في ذهني كلمة "عودة"، تُرى متى "عدتُ" آخر مرّة إلى سوريا؟
لا يتأخر عقلي عن إيجاد الإجابة: 8 تشرين الثاني/ نوڤمبر 2023. بعد شهرٍ واحد من 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بعد شهر كامل من المُتابعة المُفرطة للأخبار والأحداث الدموية والمجازر، بعد شهر طويل من الرّعب والفزع والغضب والخجل والعجز. بعد ثلاثين يومًا من الأسئلة المُعَلّقة كمشانق في الرأس: ما ذنبهم؟ لماذا يقتلونهم؟ لماذا يطردونهم؟ ماذا عن بيوتهم وأماكنهم وأعمالهم وجنى أعمارهم وحياتهم؟ إلى أين سينزحون؟ إلى أين سيرحلون؟ لماذا يصمتُ العالم؟ وإلى متى؟
وأنا؟ ماذا أفعلُ هنا، في هذه اللحظات، بعيدًا عن بيتي وبلادي.. ووجداني!!
يومَها، حجزتُ بطاقةً على أوّل طائرة متّجهة إلى سوريا. ذهبتُ لأستعيدَ توازني وأقفَ على الأرض من جديد. ذهبتُ كما لو أنني "أعود"، ومنذ تلك اللحظة عرفتُ أنّ "الزيارة" و"الإجازة" و"السياحة" و"الجيّة" قد تتقاطع في الشكل والمعنى، وأنّ أيًّا منها لن يُشبه تلك المُفردة الوضّاءة، المؤلمة والعذبة والقاسية في آن: "العودة".