أيلول طرفه بالدمع مبلول

"ورقه الأصفر شهر أيلول تحت الشبابيك... ذكرني وورقه دهب مشغول ... ذكرتي فيك"، أدندن الأغنية وأنا لا أحب أيلول. أكرّرها كلازمة في الصباح.

لا أحب أيلول!

تبدو العبارة قاسية نوعًا ما بالنسبة إلى الرومانسيين الذين يحبون الخريف، لكنهم لم يختبروا قسوة أيلول.

تقول صديقتي: إنه شهر الحصاد لدى الإغريق القدامى، فهم يحتفون بآلهة الزراعة "ديمتر"، وأنت مهندسة زراعية. أيلول طرفه بالشتي مبلول، تنخفض درجات الحراة فيه وينزل المطر. عليك تغيير نظرتك إلى هذا الشهر، شهر البدايات، بداية الشتاء وبداية المدارس والجامعات.

أجيبها: بدايات النهايات! وأشرد في الأشجار التي تتعرى على مهل فيما تنبعث أغنية فيروز من هاتفها "يا سجرة الأيام غيرنا الهوى... فرفط لنا الورقات وعرينا سوى... يا ناطرة وحدك على مهب الهوا، متلك أنا سجرة على مفرق طريق". ويلعب الرحابنة على الفرق بين الهوى والهوا: "ياه كم غيرنا الهوى، وعرّانا الهوا".

وحدها الأنثى تعرف معنى الخريف، ومعنى دورة القمر الأنثوية. لطالما ربطت الخريف بفترة "المينوبوز" وانقطاع دورة الطمث والتغيرات النفسية والجسدية التي تطرأ على المرأة، شأنها شأن الأشجار متساقطة الأوراق.

وحدهم الرجال يشبهون الأشجار دائمة الخضرة لا يعرفون تلك الهشاشة المنبعثة من العري ودورة الفصول، لا يعرفون البكاء لأتفه الأسباب. كان يكفي أن أقرأ جملة قالها محمود درويش في قصيدته على هذه الأرض ما يستحق الحياة: "نهاية أيلول، امرأة تترك الأربعين بكامل مشمشها" لينفجر حزن غير مبرر في قلبي.

ما إن يدخل أيلول حتى تغصّ صفحات "فيسبوك" السورية بأغنية "ورقه الأصفر شهر أيلول"، وكأنهم يمارسون طقس حزن جماعي. كأن أيلول يفتح باب الذكريات والدموع، أو كأن فيروز غنّت هذه الأغنية للسوريين دون سائر البشر.

يقولون: لا مواسم زيتون جيدة في قريتي هذا العام إسوة بالأعوام التي مضت وهذا يكسر قلبي

يُقال إن كلمة "أيلول" بابلية الأصل ويقابلها بالعربية كلمة "ولّ" بمعنى الصراخ والعويل، وتُقام في هذا الشهر المناحة على الإله "تموز" الذي مات بسبب حبه للآلهة "إنانا".

هكذا يبكي السوريون نيابة عن كل أنثى فقدت حبيبًا في أيلول. أكاد أسمع نشيجهم من "فيسبوك"، وكأنه شهر الوداعات المتجددة. يعود أيلول والحبيب غائب ومطره الخفيف يوقظ في القلب التياعات شتى.

غنى لي شابٌّ منذ أكثر من ثلاثين عامًا "يا ريت الريح إذا أنت نسيت أول الخريف وما جيت ينساها الحور وقمرها يغيب"، ووعدني بأنني سوف أبقى عصفورة أشجار قلبه الوحيدة، وبأن ريح أيلول لن تفلح في اقتلاع عشي من أضلاعه.

كان ذلك في شهر شباط وكنا نجلس في غابة سنديان. وكما تعرفون فإن شجرة السنديان دائمة الخضرة. ربما لهذا لم ينتبه إلى شجرة الحور الوحيدة العارية في طرف الغابة، وما من عصفور أو عش يقبع بين أغصانها. وها قد تعرّت شجرة الحور بعد ذلك ثلاثين مرة، وفي كل مرة تتعرى فيها شجرة الحور نفترق وتذهب وعوده مع الريح وقمر الحب يغيب!

لا أحبّ أيلول. كان ذلك في عمر الست سنوات، حين قطف أبي الزيتون لآخر مرة وسافر إلى ثكنته العسكرية وعاد محمّلًا بالتابوت في كانون الثاني. لم أعرف يومذاك أنها كانت المرة الأخيرة التي سيجلس أبي معي فيها، ويعلّمني كيف أكتب الرقم 4 وأخطئ مرارًا ويصوّب لي حتى انفجر غاضبًا وهدّدني بالضرب إذا أخطأت مرة أخرى، فباغتّه وخرجتُ من المنزل وبقيت ثلاث ساعات حتى تأكدتُ من سفره، وسافر. لكنه قبل أن يسافر كان قد اشترى لي مظلة بقيت معي سنوات طويلة، وكأن ظله لم يغِب.

سوف أكتب، فيما بعد، نصًا في أول مجموعة شعرية لي وأسميه: "لأبي في أيلول".

لأبي في أيلول

يحدث كما في كل أيلول

أن أبحث عن أبي

أتكئ على التراب

أبكي

ويجري الشتاء في قلبي.

في كل عام

يحدث أن أفتش

عن ياسمينة في الثلج

ولأنني لا أجد أبي،

أرسم على الجدار عصا طويلة

أعلّق عليها شارة الحداد.

وكما في كل أيلول

أطلق الرصاص على الجدار،

وأغرق في بكاء عميق

أستيقظ وقدماي غارقتان في بركة الدم

والليل كما في كل أيلول

يطول، ويجمع في كيسه القديم

أوراق عمري.

كما في كل خريف

كما في كل أيلول.

في أيلول، كنا نجتمع، كأسرة، لقطاف الزيتون. يحضر أخي من خدمته العسكرية، شأنه شأن شباب القرية. توقظنا أمي في الصباح الباكر، وتحاول أن تشحذ همتي فيما أنا أقوم بتثاقل من الفراش وأحاول التسويف، فتقول لي: "يلا يلا شغل الصبح بيرسمل"! ثم تذهب لتقطف التّين وتُحضره لنا إلى الحقل ولا تنسى أن تشتري العنب الجردي الأصفر بالغ الحلاوة.

يقولون في قريتي "الرزق بيلحق صاحبه"، تكسّرت أشجار التين في حقلنا حين أصيبت أمي بألزهايمر. وبعد رحيلها لم يبق لدينا شجرة تين واحدة. رحلت أمي في أيلول.

في طفولتي البعيدة كان علينا أن ننهي واجباتنا المدرسية بسرعة ونلتحق بأهلنا في كرم الزيتون، ونذهب بعدها إلى الكروم التي انتهى أصحابها من قطافها لنعفّر حبات الزيتون القليلة الباقية على الأشجار أو حول جذوعها، ونبيعها إلى الدكنجي ونشتري بثمنها دفاتر وأقلام.

يقولون: لا مواسم زيتون جيدة في قريتي هذا العام إسوة بالأعوام التي مضت وهذا يكسر قلبي.

أكتب هذه المقالة فيما تدكّ إسرائيل جنوب لبنان الذي وصفه الرحابنة بـ"صغيّر ووسع الدني"

أيلول شهر البدايات والعودة إلى المدارس. تخبرني صديقتي أن سوريا تشهد غلاءً غير مسبوق" تكلفة دخول الطفل الواحد تفوق المليون ما بين حقيبة ومريول وحذاء ودفاتر وكتب وأقلام"، فأفغر فاهي، ويعود يومي الأول في المدرسة إلى ذاكرتي:

لم تطلب المعلمة يومها سوى دفتر واحد لجميع المواد. فقد كانت تدرك أن جميع  سكان القرية فقراء. كنت قد ارتديت مريولًا بنيًا فاتحًا، لا أذكر لمن كان. ربما ضاق على أختي فورثته عنها، وانتعلت صندل قماش صيفي، فيما كان معظم طلاب الصف ينتعلون صنادل بلاستيكية.

شهد الأسبوع الأول من المدرسة أول اختبار لقسوة الفقر حين طلبت إلينا المعلمة أن نحضر فرشاة أسنان ومعجون، كي تعلمنا كيف نفرّش أسناننا، وكان غالبية التلاميذ، بمن فيهم أنا، لا يملكون ثمن فرشاة أسنان ومعجون. ربما شكّل ذلك عقدة بالنسبة إلي، فبالغتُ بالاهتمام بأسناني حتى اليوم.

يعتصر قلبي الآن كلما رأيت طفلًا لا يتجاوز عمره العام وبيده فرشاة أسنان ومعجون أسنان مخصص للأطفال. ماذا عن أطفال السوريين، هل غدا ذلك ترفًا؟

يتسرّب مشهد آخر إلى ذاكرتي. نخرج إلى الفرصة وكلّ منا يحمل قضوضته في يده. كانت قضوضتي محشوّة بالمكدوس لعدم توافر شيء آخر غيره والزعتر في البيت، وكان الزعتر والمكدوس يتناوبان في قضوضاتنا. تضحكني، الآن، فكرة "اللانش بوكس"، وأنا أرى صديقاتي يحضرنها لأطفالهن في أوروبا.

لكن المكدوس غدا اليوم حلمًا بالنسبة إلى السوريين. فتكلفة ثلاثين كيلو باذنجان، على سبيل المثال، تفوق المليون أيضًا. ماذا سيدخّر السوريون لليالي الشتاء الطويلة؟

"ورقه الأصفر شهر أيلول تحت الشبابيك... ذكرني وورقه دهب مشغول ... ذكرني فيك"، أدندن الأغنية وأنا لا أحب أيلول. أكرّرها كلازمة في الصباح وأنا أمشي تجاه معهد اللغة، وأحاول ألا أدهس الأوراق الصفراء الذابلة القابعة على الرصيف. أسمع خشخشتها وهي تتساقط، وخشخشتها وهي تمضي مع الريح مثل كتيبة جنود محكوم عليها بالإعدام. يخشخش قلبي مع كل نسمة هواء وأحبس دمعتي وأنهر قلبي: "هس...هس، لا تفضحني".

لا أحب أيلول...

أكتب هذه المقالة في اليوم 351 لعملية الإبادة المستمرة التي تنفّذها "إسرائيل" في غزة، وفيما تدكّ جنوب لبنان متسبّبة باستشهاد 500 إنسان وتدمير القرى ونزوح الآلاف. لبنان الذي وصفه الرحابنة بـ"صغيّر ووسع الدني"، لبنان الذي يؤوي ما يفوق المليون لاجئ سوري. ولا أعرف، بالضبط، عدد اللاجئين الفلسطينيين الموجودين فيه. فإلى أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟

لا أحب أيلول، بداية النهايات. لا أريد أن أسبغ صفة الرومانسية على الجوع الذي يتفصّد من أيام أيلول السوريين، ولا على الدم الفلسطيني واللبناني الذي ينُزّ من شاشات هواتفنا المحمولة. الدم الذي يرشق وجوهنا ويجللنا بالعار، أيلول طرف بالدم وآخر بالدمع مبلول.

ليس مجددًا... ليس مجددًا

زرت المتحف اليهودي في برلين. أردتُ أن أعرف كيف يستثمر الإسرائيليون دور الضحية ويعيدون إنتاجه كل مرة، وكيف...

هنادي زرقة
الفرح ليس مهنة الشعراء

كلما خرجت مجموعة شعرية جديدة لي من المطبعة، أفرح ثم أتذكر أن هذه المجموعة صدرت في حين أن سوريين كثر ماتوا...

هنادي زرقة
الياس خوري: صوت الضحية

يعود الياس خوري في كل مرة ليروي تاريخ فلسطين من خلال حكايات متعددة. لا يكتفي برواية واحدة، وكأن الرواية ب...

هنادي زرقة

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة