على شاشة قناة "العربية"، يشدّ أمين عام "المجلس الإسلامي العربي" محمد علي الحسيني على الأحرف، حتى تظنّ أن مَغصًا أصابه، فيما مذيعة "اللقاء الخاص" معه تهزّ برأسها وتعبّر عن دهشتها من شيء ما، لا ندرك ماهيته تمامًا.
تخرج الكلمة من فم الحسيني بالكاد حاملة معنىً أو دلالة تستأهل الثانيتين اللتين استهلكتهما، ثمّ تتدافع كلمةٌ ثانية وثالثة بعدائية مفرطة.
تبدو الكلمات كما لو أن الواحدة منها تتعارك مع الأخرى، لكنّها تتقاطع عند قاسم مشترك: فجميعها ينطوي على وعيدٍ، أو توقّعات تصدُق أحيانًا، أو رفعٍ من شأن صاحبها وحطٍ من شأن الخصوم، و"حزب الله" على رأس هؤلاء.
غير أن الرجل الذي تستضيفه القناة بانتظام يجذب المشاهدين. لا بدّ أن له سحرًا خاصًا إذًا.
ها هو كالخارج من الفانوس للتّو. حاجباه مرفوعان طوال فترة العرض المُتلفز، متأهّبان للإفصاح عن شيء يوحي بأهمية قصوى، وعيناه تجحظان خلف نظّاراته السميكة كلّما أراد التشديد على "رواية" أو "معلومة" ما.
لكنّ الحسيني، إذ ينطق برواياته، يتنازل عن أداء دور رجل الدين المتمرّس باللغة، المتمكّن من مخارج الحروف. فلا حرف الذال يخرج من فمه ذالًا. ولا الثاء تطرق مسامعنا كما أُريد لها أن تكون:
"سأُسبِتُ لكم هازا وزاك"، يقول. لكنّه ــــ بالمعنى العلمي ــــ لا يُثبت لنا هذا، ولا يُثبت لنا ذاك.
لم يُوفّق الله الحسيني بصوت رخيم. لا يمتلك كلّ شيخ صوت عبد الحليم طبعًا، ولعلّ هذا شأن غالبية الشيوخ. لكنّ شيخنا المذكور جامعٌ للمجد من أطرافه؛ فهو منجّمٌ يفتقر إلى الحدّ الأدنى من الكاريزما، صفتُه التمثيلية تكاد تساوي صفرًا، ويحرّف التاريخ بشكل كاريكاتوري، لتقع فريستَه بعضُ الصحف ومواقع الصف الثاني والثالث في العالم العربي، التي تنقل كلامه كما لو كان وثيقة تاريخية.
هكذا، يسرد الحسيني، ويُنقل عنه، أنه "أسّس حزب الله مع نصرالله" و"حرّرا الجنوب سويّة"، ثم "اختلفا لأنه رفض الانصياع لإيران".
وهكذا تُعمَّم هذه الرواية، وتُدعَّم بصورتين أو ثلاث مع السيد نصرالله سابقتين لحرب العام 2006، يوم كان الآلاف قادرين على أخذ صورة بجانبه. ويحصل التعميم برغم أن الرواية ترّهة كما يُدرك أي باحث في تاريخ الحزب أو متابع له، بل كما يُدرك غالبية المُعمِمين.
غير أن هذا ليس جديدًا حقًا. فالكثير من "المعلومات" المماثلة عُمّمت منذ حرب 2006، وبعضها بات راسخًا في الأذهان.
يتحوّل الشيخ إلى بائع خدمة توقّعات؛ "أمازون" قناة "العربية" للتنجيم
لكن كيف أصبح الحسيني "ياسمين عز" التنجيم السياسي والأمني؟ كيف، مثلما تسوّق ياسمين الرجلَ كتاج رأس المرأة العربية بمعزل عن طينته، يسوّق الحسيني شيئًا ما كتاج رأس العرب أجمعين؟
وكيف نفسّر مخزونه الذي لا ينضب من المعلومات، وملكاته الإدراكيّة وقدرته الخارقة على قراءة المستقبل؟
الحقيقة أن "العمالة"، بوصفها عملًا احترافيًا، صفةٌ أكبر من شأن الحسيني، وَلَو أنه ــــ حتى نعطيه حقّه كاملًا ــــ أُدين قضائيًا في لبنان بالتعامل مع إسرائيل وفُتحت له أبواب السجن وِسعها قبل أن يُفرَج عنه وينال الجنسية السعودية، ويخرج إلينا كاشفًا المستور على الشاشات.
غير أن جلّ ما يفعله الشيخ ــــ إن أحسنّا الظنّ وافترضنا أنّ جهة لا تأتيه بمعلومةٍ أو تقديرٍ حول ما يُعدّ سلفًا ــــ هو البناء على أسوأ السيناريوهات وأكثرها وقعًا وصدمًا: سيغتالون نصر الله، يقول. "اكتب وصيتك.. مَن اشتراك باعَك اليوم"، يُضيف متوعّدًا.
هذا أسوأ سيناريو ممكن بالنسبة لـ"حزب الله" في سياق مسلسل الاغتيالات، وثمّة تداول حصل بمسعى الاغتيال هذا تحديدًا.
يُدرك الحسيني ذلك ــــ إن "أحسنّا الظن" كما قلنا ــــ ويبني عليه. فإن وُفّق الجيش الإسرائيلي في مسعاه، يخرج لنا الشيخ المنجّم فاتحًا ظافرًا. وإن لم يوفّق، يحتفظ بحديثه في الأرشيف حتى تحين لحظة التحقّق، أو يعوّل على نسيان المشاهدين، أو يؤوّل كلامه ويعطيه معنىً في السياسة أو المجاز اللغوي كمخرَجٍ مُريح.
على هذا النحو يتحوّل الشيخ إلى بائع خدمة توقّعات. "أمازون" قناة "العربية" للتنجيم. يوصل خدمة اليقين إلى كل بيت في أكثر اللحظات العصيبة مصيرية وتشظيًا في المشرق منذ زمن بعيد.
المفارقة أن التنجيم في المملكة العربية السعودية معاقب عليه. لكن لا بأس. فهذا المنجّم في رحلة جهاد من طينة أخرى. جهادُ تطبيع فكرةِ تفوّقِ دولة استعماريّة فاشيّة على ما عداها من بشرٍ في المحيط، في أذهانِ هؤلاء البشر أنفسهم.
كان يُفترض بهذه المقالة أن تتناول ظاهرة المشعوذين، لا واحدًا منهم فحسب. ظاهرة الجيش الإلكتروني والمتلفز الذي يُعَدّ له لاقتحام سرديّة مفادها أن الكيان الإسرائيلي التوسّعي غريبٌ عن المنطقة، وغريب بطبيعته وبُنيته ومشاريعه عن حقوق البشر فيها. أولئك الذين ينشطون في الفضاء العام بما أوتي لهم من موارد مستحدثة، وفي جعبة كل منهم شارة زرقاء، أو منصة إلكترونية، أو برنامجًا تلفزيونيًا، أو قناة بأمها وأبيها. لكنّ سِحر الشيخ الجليل ــــ بوصفه تمثيلًا كاريكاتوريًا لـ"البديل" المطروح ــــ ساقنا إلى حديث آخر.
لعلّ هذه المقدّمة تفيد لحديث لاحق، أكثر جدّية، حول ما يُعَدّ خلال الحملة العسكريّة الإبادية وبعدها من أدواتٍ لإنتاج وعي مُستلب... في سياق الحرب المفتوحة على سرديّاتنا الكبرى.