في مناجاة النبطية
للنبطيّة، التي تتعرّض لقصف عنيف اليوم، ذكريات الوعي السياسي المتنامي حول نبذها الإقطاع السياسي ودورها في المقاومة الشعبية والوطنية والإسلامية المسلحة.
للنبطيّة، التي تتعرّض لقصف عنيف اليوم، ذكريات الوعي السياسي المتنامي حول نبذها الإقطاع السياسي ودورها في المقاومة الشعبية والوطنية والإسلامية المسلحة.
تستعصي ذكريات الطفولة على النسيان، خصوصًا لأبناء جيلي من الحرب الأهلية اللبنانية.
كنا أصغر من أن نقاتل، وأكبر من أن ننسى. وفي ذاكرتي حنين للنبطية لا ينضب؛ اللعب في مروجها الخضراء مع أولاد عمتي قبل أن يكتسيها العمران بعد انتهاء الحرب الأهلية، ومحاكاة تلك الحرب عبر صناعة البنادق الخشبية أو المقالع ــــ ما نسمّيه "النّـقَـيفة" ــــ من قناني البلاستك بعد قصّها إلى نصفين ووضع بالون على الفوّهة لاحتواء الذخيرة من حجار صغيرة نطلقها على "العدو".
وفي ذاكرتي العودة المظفّرة بعد اللعب إلى البيت لالتهام سندويشات جبنة "الغزال" المُحمّصة، أو السفيحة الدسمة والمطلية بالثوم، أو الدجاج المحمّر بالفرن والمُزيّن بشرائح البطاطا المغمّسة بالحامض.
وفي ذاكرتي حنين إلى الزيارات الموسمية لقلعة الشقيف الشامخة ومحاولة استكشاف ما ظهر من أروقتها وما خفي، وإعادة تمثيل معارك غابرة لم يبقَ من ذكراها سوى اندحار المحتل وبطولة المقاومين.
وفي ذاكرتي الوقوف على شرفة بيت عمّتي المطلة مباشرة على الطريق العام من أجل مشاهدة مسيرات عاشوراء المزدانة بالندّيبة والضرّيبة، وبالناذرات الحُفاة وترداد ما طاب لأذني من نداءات خاطفة مثل "عزّك عزّك يا حسين"، و"لمن الدم تفجّر لحسين شبل حيدر"، والنزول في لحظة الحماسة للانضمام الى الركب المهيب واستشعار نشوة الجماعة المرافقة لتماوج الأجساد وتعالي الأصوات، لكن دون الانخراط في تلك الطقوس إلاّ في ما ندر.
وفي ذاكرتي استمهال البقاء في ساحة البلدة لمشاهدة تمثيلية كربلاء، واستعجال الوضوء في الشتاء القارص لشدّة برودة المياه.
الزوال هو من سمات الاحتلال، والنبطية سابقة له ولاحقة عليه
وللنبطية ذكريات ما بعد الطفولة. منها التعرّف عن كثب على نوابغ أترابي ــــ من الجنسين ــــ والقادمين منها ومن القرى المحيطة بها الى مدارس صيدا، حيث أقيم، لتبوّؤ أعلى المراتب في الصفوف والامتحانات الرسمية. كيف لا وهم ورثة حسن كامل الصباح.
وفي ذاكرتي الوعي المتدرّج لتاريخ النبطية القديم كحاضرة عمرانية، وبيت من أولى بيوت اللغة العربية، وحاضنة لإنتاج الفكر الديني والعلماني على السواء، ومنبتًا للشعراء من مختلف الأطياف.
وللنبطية ذكريات الوعي السياسي المتنامي حول نبذها الإقطاع السياسي ودورها في المقاومة الشعبية والوطنية والإسلامية المسلحة، وعلى رأسها حادثة قلب جيب للاحتلال أثناء عاشوراء.
تباعدت زياراتي بعد أفول طفولتي وانتقال أقربائي، كغيرهم من أبناء جبل عامل، إلى بيروت ومن ثم إلى مختلف أصقاع الأرض. بعد طول غياب، أيقظ قصف العدو الصهيوني لربوع النبطية بشكل همجي وعنيف حنيني لها.
أشاهد القصف على الشاشات وعلى منصات التواصل بما فيه تدمير قسم من سوقها القديم، فينتابني الحزن ويعتصرني الألم ويعتريني الغضب. فما بالك بشعور من وُلد وترعرع بين أحيائها وفي قرى قضائها.
أطمئنّ على الأقرباء والأصدقاء وأترحّم على الشهداء وأناجي المقاومين الأشدّاء الذين يدافعون عنها وعن جبل عامل بعزم وبأس قلّ نظيره.
وفي لحظة صفاء، أدندن ترنيمة الصِغر الشهيرة: "يا رايح صوب بلادي، دخلك وصّلّي السلام... صبّح أهالي النبطية وطلّ شوي عالخيام".
أدندن وأمنّي النفس بزيارة خاصة بعد انتهاء العدوان وانقشاع الغمام. فمهما تقدّم العُمر أوتجبّر المحتل، ستبقى النبطية عصيّة عليه والحنين الى ربوعها لن يزول.
الزوال هو من سمات الاحتلال، والنبطية سابقة له ولاحقة عليه.